9 مصاحف

9 مصاحف روابط 9 مصاحف

الخميس، 28 مارس 2024

إرشاد الفحول - الجزء الثاني {وتابعه}

 

المحتويات 
إرشاد الفحول - الجزء الثاني {وتابعه
فرع العلم بخبر الواحد ( العلم بخبر الواحد ) له شروط منها ما هو في المخبر وهو الراوي ومنها ما هو في المخبر عنه وهو مدلول الخبر ومنها ما هو في الخبر نفسه وهو اللفظ الدال . أما الشروط الراجحة إلى الراوي فخمسة : الأول : التكليف فلا تقبل رواية الصبي والمجنون . ونقل القاضي الإجماع على رد رواية الصبي واعترض عليه العنبري ، وقال بل هما قولان للشافعي في إخباره عن القبلة كما حكاه القاضي حسين في تعليقه . قال ولأصحابنا خلاف مشهور في قبول روايته في هلال رمضان وغيره . قال الفوراني الأصح قبول روايته والوجه في رد روايته أنه قد يعلم أنه غير آثم لارتفاع قلم التكليف عنه فيكذب ، وقد أجمع الصحابة على عدم الرجوع إلى الصبيان مع أن فيهم من كان يطلع على أحوال النبوة وقد رجعوا إلى النساء وسألوهن من وراء حجاب قال الغزالي في المنخول محل الخلاف في المراهق المتثبت في كلامه أما غيره فلا يقبل قطعاً وهذا الاشتراط إنما هو باعتبار وقت الأداء للرواية أما لو تحملها صبياً وأداها مكلفاً فقد أجمع السلف على قبولها كما في رواية ابن عباس والحسنين ومن كان مماثلاً لهم كمحمود بن الربيع فإنه روى حديث أنه صضص مج في فيه مجة وهو ابن خمس سنين واعتمد العلماء روايته ، وقد كان من بعد الصحابة من التابعين وتابعيهم ومن بعدهم يحضرون الصبيان مجالس الروايات ولم ينكر ذلك أحد وهكذا لو تحمل وهو فاسق أو كافر ثم روى وهو عدل مسلم ولا أعرف خلافاً في عدم قبول رواية المجنون في حال جنونه أما لو سمع في حال جنونه ثم أفاق فلا يصح ذلك لأنه وقت الجنون غير ضابط وقد روى جماعة إجماع أهل المدينة على قبول رواية الصبيان بعضهم على بعض في الدماء لمسيس الحاجة إلى ذلك لكثرة وقوع الجنايات فيما بينهم إذا انفردوا ولم يحضرهم من تصح شهادته وقيدوه بعدم تفرقهم بعد الجناية حتى يؤدوا الشهادة والأولى عدم القبول وعمل أهل المدينة لا تقوم به الحجة على ما سيأتي على أن نمنع ثبوت هذا الإجماع الفعلي عنهم . الشرط الثاني : الإسلام فلا تقبل رواية الكافر من يهودي أو نصراني أو غيرهما إجماعاً . قال الرازي في المحصول أجمعت الأمة على أنه لا تقبل روايته سواء علم من دينه الاحتراز عن الكذب أو لم يعلم . قال والمخالف من أهل القبلة إذا كفرناه كالمجسم وغيره هل تقبل روايته أم لا ؟ الحق أنه إن كان مذهبه جواز الكذب لا تقبل روايته وإلا قبلناها وهو قول أبي الحسين البصري ، وقال القاضي عبد الجبار لا تقبل روايتهم . لنا أن المقتضى للعمل بها قائم ولا معارض فوجب العمل بها . بيان أن المقتضى قائم أن الاعتقاد لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليها فيحصل ظن الصدق فيجب العمل بها وبيان أنه لا معارض أنهم أجمعوا على أن الكافر الذي ليس من أهل القبلة لا تقبل روايته وذلك الكفر منتف هاهنا قال واحتج المخالف بالنص والقياس أما النص فقوله تعالى : إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا فأمر بالتثبت عند نبأ الفاسق ، وهذا الكافر فاسق فوجب التثبت عند خبره ، وأما القياس فقد أجمعنا على أن الكافر الذي لا يكون من أهل القبلة لا نقبل روايته فكذا هذا الكافر والجامع أن قبول الرواية تنفيذ لقوله على كل المسلمين ، وهذا منصب شريف والكفر يقتضي الإذلال وبينهما منافاة أقصى ما في الباب أن يقال هذا الكافر جاهل لكونه كافراً لكنه لا يصلح عذراً . والجواب عن الأول أن اسم الفاسق في عرف الشرع مختص بالمسلم المقدم على الكبيرة وعن الثاني الفرق بين الموضعين أن الكفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل وقد رأينا الشرع فرق بينهما في أمور كثيرة ومع ظهور الفرق لا يجوز الجمع هكذا قال الرازي . والحاصل أنه إن علم من مذهب المبتدع جواز الكذب مطلقاً لم تقبل روايته قطعاً ، وإن علم من مذهبه جوازه في أمر خاص كالكذب فيما يتعلق بنصرة مذهبه أو الكذب فيما هو ترغيب في طاعة أو ترهيب عن معصية فقال الجمهور ومنهم القاضيان أبو بكر وعبد الجبار والغزالي والآمدي لا يقبل قياساً على الفاسق بل هو أولى وقال أبو الحسين البصري يقبل وهو رأي الجويني وأتباعه والحق عدم القبول مطلقاً الأول . وعدم قبوله في ذلك الأمر الخاص في الثاني . ولا فرق في هذا بين المبتدع الذي يكفر ببدعته ، وبين المبتدع الذي لا يكفر ببدعته وأما إذا كان ذلك المبتدع لا يستجيز الكذب فاختلفوا فيه على أقوال الأول رد روايته مطلقاً لأنه قد فسق ببدعته فهو كالفاسق بفعل المعصية وبه . قال القاضي والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والقول الثاني أنه يقبل وهو ظاهر مذهب الشافعي وابن أبي ليلى والثوري وأبي يوسف والقول الثالث أنه إذا كان داعية إلى بدعته لم يقبل وإلا قبل وحكاه القاضي عبد الوهاب في المخلص عن مالك وبه جزم سليم . قال القاضي عياض وهذا يحتمل أنه إذا لم يدع يقبل ويحتمل أنه لا يقبل مطلقاً انتهى . والحق أنه لا يقبل فيما يدعو إلى بدعته ويقويها لافي غير ذلك . قال الخطيب وهو مذهب أحمد ونسبه ابن الصلاح إلى الأكثرين ، قال وهو أعدل المذاهب وأولاها . وفي الصحيحين كثير من أحاديث المبتدعة غير الدعاة احتجاجاً واستشهاداً كعمران بن حطان وداود بن الحصين وغيرهما ونقل أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات الإجماع على ذلك ، قال ابن دقيق العيد جعل بعض المتأخرين من أهل الحديث هذا المذهب متفقاً عليه وليس كما قال ، وقال ابن القطان في كتاب الوهم والإيهام الخلاف إنما هو في غير الداعية فهو ساقط عند الجمع . قال أبو الوليد الباجي الخلاف في الداعية بمعنى أنه يظهر بدعته بمعنى حمل الناس عليها فلم يختلف في ترك حديثه . الشرط الثالث : العدالة ، قال الرازي في المحصول هي هيئة راسخة في النفس تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً حتى يحصل ثقة النفس بدقة ويعتبر فيها الاجتناب عن الكبائر وعن بعض الصغائر كالتطفيف بالحبة وسرقة باقة من البقل وعن المباحات القادحة في المروءة كالأكل في الطريق والبول في الشارع وصحبة الأرذال والإفراط في المزاج والضابط فيه أن كل ما لا يؤمن من جراءته على الكذب يرد الرواية ومالاً فلا انتهى وأصل العدالة في اللغة الاستقامة ، يقال « طريق عدل » : أي مستقيم وتطلق على استقامة السيرة والدين قال الزركشي في البحر : واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ولكن اختلف في معناها فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم الفسق ، وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة والرذائل المباحة كالبول في الطريق والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة ، قال ابن القشيري والذي صح عن الشافعي أنه قال في الناس من يمحض الطاعة فلا يمزجها بمعصية وفي المسلمين من يمحض المعصية ولا يمزجها بالطاعة فلا سبيل إلى رد الكل ولا إلى قبول الكل فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وروايته وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها قال ابن السمعاني لا بد في العدل من أربع شرائط المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ويكسب الندم وأن لايعتقد من المذاهب ما يرده أصول الشرع . قال الجويني الثقة هي المعتمد عليها في الخبر فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل . وقال ابن الحاجب في العدالة : هي محافظة دينية تحمل على ملازمة التقوى والمروءة ليس معها بدعة فزاد قيد عدم البدعة وقد عرفت ما هو الحق في أهل البدع في الشرط الذي مر قبل هذا . والأولى أن يقال في تعريف العدالة إنها التمسك بآداب الشرع فمن تمسك بها فعلاًوتركا فهو العدل المرضي ومن أخل بشيء منها فإن كان الإخلال بذلك الشيء يقدح في دين فاعله أو تاركه كفعل الحرام وترك الواجب فليس بعدل . وأما اعتبار العادات الجارية بين الناس المختلفة باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة والأحوال فلا مدخل لذلك في هذا الأمر الديني الذي تنبني عليه قنطرتان عظيمتان وجسران كبيران وهما الرواية والشهادة . نعم من فعل ما يخالف ما يعده الناس مروءة عرفاً لا شرعاً فهو تارك للمروءة العرفية ولا يستلزم ذلك ذهاب مروءته الشرعية . وقد اختلف الناس هل المعاصي منقسمة إلى صغائر وكبائر أم هي قسم واحد ؟ فذهب الجمهور إلى أنها منقسمة إلى صغائر وكبائر ، ويدل على ذلك قوله سبحانه : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وقوله وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ويدل عليه ما ثبت عن النبي صضص متواتراً من تخصيص بعض الذنوب باسم الكبائر وبعضها بأكبر الكبائر وذهب جماعة إلى أن المعاصي قسم واحد ومنهم الأستاذ أبو إسحاق والجويني وابن فورك ومن تابعهم قالوا إن المعاصي كلها كبائر ، وإنما يقال لبعضها صغيرة بالنسبة إلى ما هو أكبر كما يقال الزنا صغيرة بالنسبة إلى الكفر والقبلة المحرمة صغيرة بالنسبة إلى الزنا وكلها كبائر قالوا ومعنى قوله إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه إن تجتنبوا الكفر كفرت عنكم سيآتكم التي هي دون الكفر والقول الأول راجح ، وهاهنا مذهب ثالث ذهب إليه الحلمي ، فقال إن المعاصي تنقسم حد الكبائر إلى ثلاثة أقسام : صغيرة وكبيرة وفاحشة . فقتل النفس بغير حق كبيرة . فإن قتل ذا رحم له ففاحشة . فأما الخدشة والضربة مرة أو مرتين فصغيرة وجعل سائر الذنوب هكذا . ثم اختلفوا في الكبائر هل تعرف بالحد أو لا تعرف إلا بالعدد ؟ فقال الجمهور إنها تعرف بالحد ثم اختلفوا في ذلك فقيل إنها المعاصي الموجبة للحد ، وقال بعضهم هي ما يلحق صاحبها وعيد شديد ، وقال آخرون ما يشعر بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ، وثيل ما كان فيه مفسدة ، وقال الجويني ما نص الكتاب على تحريمه أو وجب في حقه وقيل ما ورد الوعيد عليه مع الحد أو لفظ يفيد الكبر ، وقال جماعة إنها لا تعرف إلا بالعدد ، ثم اختلفوا هل تنحصر في عدد معين أم لا ؟ فقيل هي سبع وقيل تسع وقيل عشر وقيل اثنتا عشرة وقيل أربع عشرة وقيل ست وثلاثون وقيل سبعون وإلى السبعين أنهاها الحافظ الذهبي في جزء صنفه في ذلك وقد جمع ابن حجر الهيتمي فيها مصنفاً حافلاً سماه الزواجر في الكبائر وذكر فيه نحو أربعمائة معصية . وبالجملة فلا دليل يدل على انحصارها في عدد معين ، ومن المنصوص عليه منها القتل والزنا واللواطة وشرب الخمر والسرقة والغصب والقذف والنميمة وشهادة الزور واليمين الفاجرة وقطيعة الرحم والعقوق والفرار من الزحف وأخذ مال اليتيم وخيانة الكيل والوزن والكذب على رسول الله صضص وتقديم الصلاة وتأخيرها وضرب المسلم وسب الصحابة وكتمان الشهادة والرشوة والدياثة ومنع الزكاة واليأس من الرحمة أو من المكر والظهار وأكل لحم الخنزير والميتة وفطر رمضان والربا والغلول والسحر وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونسيان القرآن بعد تعلمه وإحراق الحيوان بالنار وامتناع الزوجة عن زوجها بلا سبب ، وقد قيل أن الإصرار على الصغيرة حكمه حكم مرتكب الكبيرة وليس على هذا دليل يصلح للتمسك به وإنما هي مقالة لبعض الصوفية فإنه قال لا صغيرة مع إصرار ، وقد روى بعض من لا يعرف علم الرواية هذا اللفظ وجعله حديثاً ولا يصح ذلك بل الحق أن الإصرار حكمه حكم ما أصر عليه فالإصرار على الصغيرة صغيرة والإصرار على الكبيرة كبيرة . وإذا تقرر لك هذا فاعلم أنه لا عدالة لفاسق . وقد حكى مسلم في صحيحه الإجماع على رد خبر الفاسق ، فقال أنه غير مقبول عند أهل العلم كما أن شهادته مردودة عند جميعهم . قال الجويني والحنفية وإن باحوا بقبول شهادة الفاسق فلم يوجبوا بقبول روايته فإن قال به قائل فهو مسبوق بالإجماع . قال الرازي في المحصول إذا أقدم على الفسق فإن علم كونه فسقاً لم تقبل روايته وإن لم يعلم كونه فسقاً فإما أن يكون مظنوناً أو مقطوعاً فإن كان مظنوناً قبلت روايته بالاتفاق . قال وإن كان مقطوعاً به قبلت أيضاً . لنا أن ظن صدقه راجح والعلم بهذا الظن واجب والمعارض المجمع عليه منتف فوجب العمل به . احتج الخصم بأن منصب الرواية لا يليق بالفاسق أقصى ما في الباب أنه جهل فسقه لكن جهله بفسقه فسق آخر فإذا منع أحد الفسقين عن قبول الرواية فالفسقان أولى بذلك المنع . والجواب أنه إذا علم كونه فسقاً دل إقدامه عليه على اجترائه على المعصية بخلافه إذا لم يعلم ذلك ، ويجاب عن هذا الجواب أن إخلاله بأمور دينه إلى حد يجهل معه ما يوجب الفسق يدل أبلغ دلالة على اجترائه على دينه وتهاونه بما يجب عليه من معرفته . واختلف أهل العلم في رواية المجهول : أي مجهول الحال مع كونه معروف العين برواية عدلين عنه فذهب الجمهور كما حكاه ابن الصلاح وغيره عنهم أن روايته غير مقبولة ، وقال أبو حنيفة تقبل روايته اكتفاء بسلامته من التفسيق ظاهراً ، وقال جماعة إن كان الراويان أو الرواة عنه لا يروون عن غير عدل قبل وإلا فلا وهذا الخلاف فيمن لا يعرف حاله ظاهراً ولا باطناً ، وأما من كان عدلاً في الظاهر ومجهول العدالة في الباطن ، فقال أبو حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح ، وقال الشافعي لا يقبل ما لم تعلم العدالة وحكاه الكيا عن الأكثرين ، وذكر الأصفهاني أن المتأخرين من الحنفية قيدوا القول بالقبول بصدر الإسلام بغلبة العدالة على الناس إذ ذاك ، قالوا وأما المستور في زماننا فلا يقبل لكثرة الفساد وقلة الرشاد ، وقال الجويني بالوقف إذا روى التحريم إلى ظهور حاله . ولنا مجهول العين وهو من لم يشتهر ولم يرو عنه إلا رواه واحد فذهب جمهور أهل العلم أنه لا يقبل ولم يخالف في ذلك إلا من لم يشترط في الراوي إلا مجرد الإسلام ، وقال ابن عبد البر إن كان المنفرد بالرواية عنه لا يروي إلا عن عدل كابن مهدي وابن معين ويحيى القطان فإنه تنتفي وترتفع عنه الجهالة العينية وإلا فلا ، وقال أبو الحسين بن القطان أن زكاة أحد من أئمة الجرح والتعديل مع روايته عنه وعمله بما رواه قبل إلا فلا وهذا هو ظاهر تصرف ابن حبان في ثقاته فإنه يحكم برفه الجهالة برواية واحدة وحكى ذلك عن النسائي أيضاً . قال أبو الوليد الباجي ذهب جمهور أصحاب الحديث إلى أن الراوي إذا روى عنه اثنان فصاعداً انتفت عنه الجهالة وهذا ليس بصحيح عند المحققين من أصحاب الأصول لأنه قد يروي الجماعة عن الواحد لا يعرفون حاله ولا يخبرون شيئاً من أمره ويحدثون بما رووا عنه على الجهالة إذ لم يعرفوا عدالته انتهى . وفيه نظر لأنهم إنما يقولون بارتفاع جهالة العين برواية الاثنين فصاعداً عنه لا بارتفاع جهالة الحال كما سبق ، والحق لأنها لا تقبل رواية مجهول العين ولا مجهول الحال لأن حصول الظن بالمروي لا يكون إلا إذا كان الراوي عدلاً وقد دلت الأدلة من الكتاب والسنة على المنع من العمل بالظن كقوله سبحانه إن الظن لا يغني من الحق شيئاً وقوله ولا تقف ما ليس لك به علم وقام الإجماع على قبول رواية العدل فكان كالمخصص لذلك العموم فبقي من ليس بعدل داخلاً تحت العمومات وأيضاً قد تقرر عدم قبول رواية الفاسق ومجهول العين أو الحال يحتمل أن يكون فاسقاً وأن يكون غير فاسق فلا تقبل روايته مع هذا الاحتمال لأن عدم الفسق شرط في جواز الرواية عند فلا بد من العلم بوجود هذا الشرط وأيضاً وجود الفسق مانع من قبول روايته فلا بد من العلم بانتفاء هذا المانع ، وأما استدلال من قال بالقبول بما يرونه من قوله صضص نحن نحكم بالظاهر ، فقال الذهبي والمزي وغيرهما من الحفاظ لا أصل له وإنما هو من كلام بعض السلف ولو سلمنا أن له أصلاً لم يصلح للاستدلال به على محل النزاع لأن صدق المجهول غير ظاهر بل صدقه وكذبه مستويان وإذا عرفت هذا فلا يصدهم ما استشهدوا به لهذا الحديث الذي لم يصح بمثل قوله صضص إنما أقضي بنحو ما أسمع وهو في الصحيح وبما روي من قوله صضص لعمه العباس يوم بدر لما اعتذر بأنه أكره على الخروج فقال كان ظاهرك علينا وبما في صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه إنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم . الشرط الرابع : الضبط فلا بد أن يكون الراوي ضابطاً لما يرويه ليكون المروي له على ثقة منه في حفظه وقلة غلطه وسهوه . فإن كان كثير الغلط والسهو ردت روايته إلا فيما علم أنه لم يغلط فيه ولا سها عنه وإن كان قليل الغلط قبل خبره إلا فيما يعلم أنه غلط فيه كذا قال ابن السمعاني وغيره . قال أبو بكر الصيرفي : من أخطأ في حديث فليس بدليل على الخطأ في غيره . ولم يسقط لذلك حديثه ومن كثر بذلك خطؤه وغلطه لم يقبل خبره لأن المدار على حفظ الحكاية . قال الترمذي في العلل كل من كان متهماً في الحديث بالكذب أو كان مغفلاً يخطئ الكثير فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة أن لا يشتغل بالرواية عنه انتهى . والحاصل أن الأحوال ثلاثة إن غلب خطؤه وسهوه على حفظه فمردود إلا فيما علم أنه لم يخطئ فيه وإن غلب حفظه على خطئه وسهوه فمقبول إلا فيما علم أنه أخطأ فيه وإن استويا بالخلاف . قال القاضي عبد الجبار يقبل لأن جهة التصديق راجحة في خبره لعقله ودينه . وقال الشيخ أبو إسحاق أنه يرد وقيل إنه يقبل خبره إذا كان مفسراً وهو أن يذكر من روى عنه ويعين وقت السماع منه وما أشبه ذلك وإلا فلا يقبل وبه قال القاضي حسين وحكاه الجويني عن الشافعي في الشهادة ففي الرواية أولى وقد أطلق جماعة من المصنفين في علوم الحديث أو الراوي إن كان تام الضبط مع بقية الشروط المعتبرة فحديثه من قسم الصحيح وإن خف ضبطه فحديثه من قسم الحسن وإن كثر غلطه فحديثه من قسم الضعيف ولا بد من تقييد هذا بما إذا لم يعلم بأنه لم يخطئ فيم رواه قال الكيا الطبري ولا يشترط انتفاء الغفلة ولا يوجب لحوق الغفلة له رد حديثه إلا أن يعلم أنه قد لحقته الغفلة فيه بعينه وما ذكره صحيح إذا كان ممن تعتريه الغفلة في غير ما يرويه كما وقع ذلك لجماعة من الحفاظ فإنهم قد تلحقهم الغفلة في كثير من أمور الدنيا فإذا رووا كانوا من أحذق الناس بالرواية وأنبههم فيما يتعلق بها وليس من شرط الضبط أن يضبط اللفظ بعينه كما سيأتي . الشرط الخامس : أن لا يكون الراوي مدلساً وسواء كان التدليس في المتن أو في الإسناد . أما التدليس في المتن فهو أن يزيد في كلام رسول الله صضص كلام غيره فيظن السامع أن الجميع من كلام رسول الله صضص . وأما التدليس في الإسناد فهو على أنواع : أحدها : أن يكون في إبدال الأسماء فيعبر عن الراوي وعن أبيه بغير اسميهما وهذا نوع من الكذب . وثانيهما : أن يسميه بتسمية غير مشهورة فيظن السامع أنه رجل آخر غير من قصده الراوي وذلك مثل من يكون مشهوراً باسمه فيذكره الراوي بكنيته أو العكس إيهاماً للمروي له بأنه رجل آخر غير ذلك الرجل فإن كان مقصد الراوي بذلك التغرير على السامع بأن المروي عنه غير ذلك الرجل فلا يخلو إما أن يكون ذلك الرجل المروي عنه ضعيفاً وكان العدول إلى غير المشهور من اسمه أو كنيته ليظن السامع أنه رجل آخر غير ذلك الضعيف . فهذا التدليس قادح في عدالة الراوي وإما أن يكون مقصد الراوي مجرد الإغراب على السامع مع كون المروي عنه عدلاً على كل حال فليس هذا النوع من التدليس بجرح كما قال ابن الصلاح وابن السمعاني وقال أبو الفتح بن برهان هو جرح . وثالثهما : أن يكون التدليس بإطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الرواية إلى من هو أبعد منه مثل أن يترك شيخه ويروي الحديث عن شيخ شيخه فإن كان المتروك ضعيفاً فذلك من الخيانة في الرواية ولا يفعله إلا من ليس بكامل العدالة وإن كان المتروك ثقة وترك ذكره لغرض من الأغراض التي لا تنافي الأمانة والصدق ولا تتضمن التغرير على السامع فلا يكون ذلك قادحاً في عدالة الراوي لكن إذا جاء في الرواية بصيغة محتملة نحو أن يقول : قال فلان أو روي عن فلان أو نحو ذلك . أما لو قال حدثنا فلان أو أخبرنا وهو لم يحدث ولم يخبره بل الذي حدثه أو أخبره هو من ترك ذكره فذلك كذب يقدح في عدالته ، والحاصل أن من كان ثقة واشتهر بالتدليس فلا يقبل إلا إذا قال حدثنا أو أخبرنا أو سمعت لا إذا لم يقل كذلك لاحتمال أن يكون قد أسقط من لا تقوم الحجة بمثله . أما الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ، فالأول : منها أن لا يستحيل وجوده في العقل فإن أحاله العقل رد . والشرط الثاني : أن لا يكون مخالفاً لنص مقطوع به على وجه لا يمكن الجمع بينهما بحال . والشرط الثالث : أن لا يكون مخالفاً لإجماع الأمة عند من يقول بأنه حجة قطعية ، وأما إذا خالف القياس القطعي فقال الجمهور أنه مقدم على القياس ، وقيل إن كانت مقدمات القياس قطعية قدم القياس وإن كانت ظنية قدم الخبر وإليه ذهب أبو بكر الأبهري وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إنهما متساويان وقال عيسى بن أبان إن كان الراوي ضابطاً عالماً قدم خبره وإلا محل اجتهاد وقال أبو الحسين البصري إن كانت العلة ثابتة بدليل قطعي فالقياس مقدم وإن كان حكم الأصول مقطوعاً به خاصة دون العلة فالاجتهاد فيه واجب حتى يظهر ترجيح أحدهما فيعمل به وإلا فالخبر مقدم ، وقال أبو الحسين الصيمري لا خلاف في العلة المنصوص عليها وإنما الخلاف في المستنبطة قال الكيا قدم الجمهور خبر الضابط على القياس لأن القياس عرضه الزلل انتهى . والحق تقديم الخبر الخارج من مخرج صحيح أو حسن على القياس مطلقاً إذا لم يمكن الجمع بينهما بوجه من الوجوه كحديث المصراة وحديث العرايا فإنهما مقدمان على القياس وقد كان الصحابة التابعون إذا جاءهم الخبر لم يلتفتوا إلى القياس ولا ينظروا فيه وما روى عن بعضهم من تقديم القياس في بعض المواطن فبعضه غير صحيح وبعضه محمول على أنه لم يثبت الخبر عند من قدم القياس بوجه من الوجوه . ومما يدل على تقديم الخبر على القياس حديث معاذ فإنه قدم العمل بالكتاب والسنة على اجتهاده . ومما يرجح تقديم الخبر على القياس أن الخبر يحتاج إلى النظر في أمرين : عدالة الراوي . ودلالة الخبر ، والقياس يحتاج إلى النظر في ستة أمور حكم الأصل وتعليله في الجملة وتعين الوصف الذي به التعليل ووجود ذلك الوصف في الفرع ونفي المعارض في الأصل ونفيه في الفرع هذا إذا لم يكن دليل الأصل خبراً فإن كان خبراً كان النظر في ثمانية أمور الستة المذكورة مع الاثنين المذكورين في الخبر ولا شك أن ما كان يحتاج إلى النظر في أمور كثيرة كان احتمال الخطأ فيه أكثر مما يحتاج إلى النظر في أقل منها . واعلم أنه لا يضر الخبر عمل أكثر الأمة بخلافة لأن قول الأكثر ليس بحجة . ولا يضره عمل أهل المدينة بخلافه خلافاً لمالك وأتباعه لأنهم بعض الأمة ولجواز أنه لم يبلغهم الخبر . ولا يضره عمل الراوي له بخلافه خلافاً لجمهور الحنفية وبعض المالكية لأنا متعبدون بما بلغ إلينا من الخبر ولم نتعبد بما فهمه الراوي ولم يأت من قدم عمل الراوي على روايته بحجة تصلح للاستدلال بها وسيأتي لهذا البحث مزيد بسط في الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر ولا يضره كونه مما تعم به البلوى خلافاً للحنفية وأبي عبد الله البصري لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في ذلك ولا يضره كونه في الحدود والكفارات خلافاً للكرخي من الحنفية وأبي عبد الله البصري في أحد قوليه ولا وجه لهذا الخلاف فهو خبر عدل في حكم شرعي ولم يثبت في الحدود والكفارات دليل يخصها من عموم الأحكام الشرعية واستدلالهم بحديث إدرأوا الحدود بالشبهات باطل فالخبر الموجب للحد يدفع الشبهة على فرض وجودها ، ولا يضره أيضاً كونه زيادة على النص القرآني أو السنة القطعية خلافاً للحنفية فقالوا إن خبر الواحد إذا ورد بالزيادة في حكم القرآن أو السنة القطعية كان نسخاً لا يقبل والحق القبول لأنها زيادة غير منافية للمزيد فكانت مقبولة ودعوى أنها ناسخة ممنوعة وهكذا إذا ورد الخبر مخصصاً للعام من كتاب أو سنة فإن مقبول ويبنى العام على الخاص خلافاً لبعض الحنفية وهكذا إذا ورد مقيداً لمطلق الكتاب أو السنة القطعية . وقسم الهندي خبر الواحد إذا خصص عموم الكتاب أو السنة المتواترة أو قيد مطلقهما إلى ثلاثة أقسام : أحدها : أن ما لا يعلم مقارنته له ولا تراخيه عنه فقال القاضي عبد الجبار يقبل لأن الصحابة رفعت كثيراً من أحكام القرآن بأخبار الآحاد ولم يسألوا عنها هل كانت مقارنة أم لا ؟ قال وهو أولى لأن حمله على كونه مخصصاً مقبولاً أولى من حمله على كونه ناسخاً مردوداً . الثاني : أن يعلم مقارنته له فيجوز عند من يجوز تخصيص المقطوع بالمظنون . الثالث : أن يعلم تراخيه عنه وهو ممن لم يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب . لم يقبله لأن لو قبله لقبل ناسخاً وهو غير جائز ومن جوزه قبله إن كان ورد قبل حضور وقت العمل به وأما إذا ورد بعده فلا يقبل بالاتفاق انتهى . وسيأتي تحقيق البحث في التخصيص للعام والتقييد للمطلق ولا يضره كون راويه انفرد بزيادة فيه على ما رواه غيره إذا كان عدلاً فقد يحفظ الفرد ما لا يحفظه الجماعة وبه قال الجمهور إذا كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد . أما إذا كانت منافية فالترجيح ورواية الجماعة أرجح من رواية الواحد وقيل لا نقبل رواية الواحد إذا خالفت رواية الجماعة وإن كانت تلك الزيادة غير منافية للمزيد إذا كان مجلس السماع واحداً وكانت الجماعة بحيث لا يجوز عليهم الغفلة عن مثل تلك الزيادة وأما إذا تعدد مجلس السماع فتقبل تلك الزيادة بالاتفاق ، ومثل انفراد العدل بالزيادة انفراده برفع الحديث إلى رسول الله صضص الذي وقفه الجماعة وكذا انفراده بإسناد الحديث الذي أرسلوه وكذا انفراده بوصل الحديث الذي قطعوه فإن ذلك مقبول منه لأنه زيادة على ما رووه وتصحيح لما أعلوه ، ولا يضره أيضاً كونه خارجاً مخرج ضرب الأمثال . وروي عن إمام الحرمين أنه لا يقبل لأنه موضع تجوز ، فأجيب عنه بأنه وإن كان موضع تجوز فإن النبي صضص لا يقول إلا حقاً لمكان العصمة . وأما الشروط التي ترجع إلى لفظ الخبر : فإنه علم أن للراوي في نقل ما يسمعه أحوالاً : الأول : أن يرويه بلفظه فقد أدى الأمانة كما سمعها ولكنه إذا كان النبي صضص قاله جواباً عن سؤال سائل فإن كان الجواب مستغنياً عن ذكر السؤال كقوله صضص في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فالراوي محير بين أن يذكر السؤال أو يتركه وإن كان الجواب غير مستغن عن ذكر السؤال كما في سؤاله صضص عن بيع الرطب بالتمر ، فقال أينقص إذا جف ؟ فقيل نعم ، فقال فلا إذاً فلا بد من ذكر السؤال وهكذا لو كان الجواب يحتمل أمرين فإذا نقل الراوي السؤال لم يحتمل إلا أمراً واحداً فلا بد من ذكر السؤال وعلى كل حال فذكر السؤال مع ذكر الجواب وما ورد على سبب أولى من الإهمال . الحال الثاني : أن يرويه بغير لفظه بل بمعناه ، وفيه ثمانية مذاهب : الأول : منها أن ذلك جائز من عارف بمعاني الألفاظ لا إذا لم يكن عارفاً ، فإنه لا يجوز له الرواية بالمعنى . قال القاضي في التقريب بالإجماع ومنهم من شرط أن يأتي بلفظ مرادف كالجلوس مكان القعود أو العكس ومنهم من شرط أن يكون ما جاء به مساوياً للأصل في الجلاء والخفاء فلا يأتي مكان الجلي بما هو دونه في الجلاء ولا مكان العام بالخاص ولا مكان المطلق بالمقيد ولا مكان الأمر بالخبر ولا عكس ذلك وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر مما تعبدنا بلفظه كألفاظ الاستفتاح والتشهد وهذا الشرط لا بد منه ، وقد قيل إنه مجمع عليه وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من باب المتشابه كأحاديث الصفات ، وحكى الكيا الطبري الإجماع على هذا لأن اللفظ الذي تكلم به النبي صضص لا يدري هل يساويه اللفظ الذي تكلم به الراوي ويحتمل ما يحتمله من وجوه التأويل أم لا وشرط بعضهم أن لا يكون الخبر من جوامع الكلم فإن كان من جوامع الكلم كقوله : إنما الأعمال بالنيات . من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه . الحرب خدعة . الخراج بالضمان العجماء جبار . البينة على المدعي لم تجز روايته بالمعنى وشرط بعضهم أن يكون الخبر من الأحاديث الطوال ، وأما الأحاديث القصار فلا يجوز روايتها بالمعنى ولا وجه لهذا . قال ابن الأنباري في شرح البرهان للمسألة ثلاث صور : أحدها : أن يبدل اللفظ بمرادفه كالجلوس بالقعود وهذا جائز بلا خلاف . وثانيها : أن يظن دلالته على مثل ما دل عليه الأول من غير أن يقطع بذلك فلا خلاف في امتناع التبديل . ثالثها : أن يقطع بفهم المعنى ويعبر عما فهم بعبارة يقطع بأنها تدل على ذلك المعنى الذي فهمه من غير أن تكون الألفاظ مترادفة فهذا موضع الخلاف . والأكثرون على أنه متى حصل القطع بفهم المعنى مستنداً إلى اللفظ إما بمجرده أو إليه مع القرائن التحق بالمترادف . المذهب الثاني : المنع من الرواية بالمعنى مطلقاً بل يجب نقل اللفظ بصورته من غير فرق بين العارف وغيره . هكذا نقله القاضي عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث . وقال أنه مذهب مالك ونقله الجويني والقشيري عن معظم المحدثين وبعض الأصوليين ، وحكي عن أبي بكر الرازي من الحنفية وهو مذهب الظاهرية نقله عنهم القاضي عبد الوهاب ونقله ابن السمعاني عن عبد الله بن عمر وجماعة من التابعين منهم ابن سيرين وبه قال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني . ولا يخفى ما في هذا المذهب من الحرج البالغ أو المخالفة لما كان عليه السلف والخلف من الرواة كما تاره في كثير من الأحاديث التي يرويها جماعة فإن غالبها بألفاظ مختلفة مع الاتحاد في المعنى المقصود بل قد ترى الواحد من الصحابة فمن بعدهم يأتي في بعض الحالات بلفظ في رواية وفي أخرى بغير ذاك اللفظ مما يؤدي معناه وهذا أمر لا شك فيه . المذهب الثالث : الفرق بين الألفاظ التي لا مجال للتأويل فيها وبين الألفاظ التي للتأويل فيها مجال فيجوز النقل بالمعنى في الأول دون الثاني ، حكاه أبو الحسين بن القطان عن بعض أصحاب الشافعي واختاره الكيا الطبري . المذهب الرابع : التفصيل بين أن يحفظ الراوي اللفظ أم لا فإن حفظه لم يجز له أن يرويه بغيره لأن في كلام رسول الله صضص من الفصاحة ما لا يوجد في غيره وإن لم يحفظ اللفظ جاز له الرواية بالمعنى وبهذا جزم الماوردي والروياني . المذهب الخامس : التفصيل بين الأوامر والنواهي وبين الأخبار فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني . قال الماوردي والروياني : أما الأوامر والنواهي فيجوز روايتها بالمعنى كقوله لا تبيعوا الذهب بالذهب . وروى أنه نهى بيع الذهب بالذهب ، وقوله صضص اقتلوا الأسودين في الصلاة ، وروى أنه أمر أمر بقتل الأسودين في الصلاة قال هذا جائز بلا خلاف لأن أفعل أمر ولا تفعل نهي فيتخير الراوي بينهما وإن كان اللفظ في المعنى محتملاً لإطلاق في إغلاق وجب نقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره . المذهب السادس : التفصيل بين المحكم وغيره فتجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني كالمجمل والمشترك والمجاز الذي لم يشتهر . المذهب السابع : أن يكون المعنى مودعاً في جملة لا يفهمه العامي إلا بأداء تلك الجملة فلا يجوز روايته إلا بأداء تلك الجملة بلفظها كذا قال أبو بكر الصيرفي . المذهب الثامن : التفصيل بين أن يورده على قصد الاحتجاج والفتيا أو يورده لقصد الرواية فيجوز الرواية بالمعنى في الأول دون الثاني . فهذه ثمانية مذاهب . ويتخرج من الشروط التي اشترطها أهل مذاهب غير هذه المذاهب . الحال الثالث : أن يحذف الراوي بعض لفظ الخبر فينبغي أن ينظر فإن كان المحذوف متعلقاً بالمحذوف منه تعلقاً لفظياً أو معنوياً لم يجز بالاتفاق ، حكاه الصفي الهندي وابن الأنباري فالتعلق اللفظي كالتقييد بالاستثناء والشرط والغاية والصفة والتعلق المعنوي كالخاص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق والمبين بالنسبة إلى المجمل والناسخ بالنسبة إلى المنسوخ ويشكل على هذا المحكي من الاتفاق ما نقله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والقاضي في التقريب من الجواز مطلقاً سواء تعلق بعضه ببعض أم لا وفي هذا ضعف . فإن ترك الراوي لما هو متعلق بما رواه لا سيما ما كان متعلقاً به تعلقاً لفظياً خيانة في الرواية . وإن لم يكن كذلك فاختلفوا على أقوال : أحدها : إن كان قد نقل ذلك هو أو غيره مرة بتمامه جاز أن ينقل البعض وإن لم ينقل ذلك لا هو ولا غيره لم يجز كذا قال القاضي في التقريب والشيخ الشيرازي في اللمع . ثانيها : أنه يجوز إذا لم يتطرق إلى الراوي التهمة ذكره الغزالي . وثالثها : أن الخبر إذا كان لا يعلم إلا من طريق الراوي وتعلق به حكم شرعي لم يجز له أن يقتصر على بعضه دون بعض وإن لم يتعلق به حكم فإن كان الراوي فقيهاً جاز له ذلك وإن كان غير فقيه لم يجز ، قاله ابن فورك وأبو الحسين بن القطان . ورابعها : إن كان الخبر مشهوراً بتمامه جاز الاقتصار من الراوي على البعض وإلا فلا قاله بعض شراح اللمع لأبي إسحاق . وخامسها : المنع مطلقاً . وسادسها : التفصيل بين أن يكون المحذوف حكماً متميزاً عما قبله والسامع فقيه عالم بوجه التميز فيجوز الحذف وإلا لم يجز قال الكيا الطبري وهذا التفصيل هو المختار . قال الماوردي والروياني : لا يجوز إلا بشرط أن يكون الباقي مستقلاً بمفهوم الحكم كقوله في ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته فيجوز للراوي أن يقتصر على رواية إحدى هاتين الجملتين وإن كان الباقي لا يفهم معناه فلا يجوز وإن كان مفهوماً ولكن ذكر المتروك يوجب خلاف ظاهر الحكم المذكور كقوله صضص في الأضحية لمن قال له ليس عندي إلا جذعة من المعز فقال تجزئك ولا تجزئ أحداً بعدك فلا يجوز الحذف لأنه لو اقتصر على قوله تجزئك لفهم من ذلك أنها تجزئ عن جميع الناس . هذا حاصل ما قيل في هذه المسألة وأنت خبير بأن كثيراً من التابعين والمحدثين يقتصرون على رواية بعض الخبر عند الحاجة إلى رواية بعضه لا سيما في الأحاديث الطويلة كحديث جابر في صفة حج النبي صضص ونحوه من الأحاديث وهم قدوة لمن بعدهم في الرواية لكن بشرط أن لا يستلزم ذلك الاقتصاد على البضع مفسدة . الحال الرابع : أن يزيد الراوي في روايته للخبر على ما سمعه من النبي صضص فإن كان ما زاده يتضمن بيان سبب الحديث أو تفسير معناه فلا بأس بذلك لكن بشرط أن يبين ما زاده حتى يفهم السامع أنه من كلام الراوي . قال المارودي والروياني يجوز من الصحابي زيادة بيان السبب لكونه مشاهداً للحال ولا يجوز من التابعي وأما تفسير المعنى فيجوز منهما ولا وجه للاقتصار على الصحابي والتابعي في تفسير معنى الحديث فذلك جائز لكل من يعرف معناه معرفة صحيحة على مقتضى اللغة العربية بشرط الفصل بين الخبر المروي وبين التفسير الواقع منه بما يفهمه السامع . الحال الخامس : إذا كان الخبر محتملاً لمعنيين متنافيين فاقتصر الراوي على تفسيره بأحدهما فإن كان المقتصر على أحد المعنيين هو الصحابي كان تفسيره كالبيان لما هو المراد وإن كان المقتصر غير صحابي ولم يقع الإجماع على أن المعنى الذي اقتصر عليه هو المراد فلا يصار إلى تفسيره بل يكون لهذا اللفظ المحتمل للمعنيين المتنافيين حكم هو المراد المشترك أو المجمل فيتوقف العمل به على ورود دليل يدل على أن المراد أحدهما بعينه والظاهر أن النبي صضص لا ينطق بما يحتمل المعنيين المتنافيين لقصد التشريع ويخليه عن قرينة حالية أو مقالية بحيث لا يفهم الراوي لذلك عنه من الصحابة ما أراده بذلك اللفظ بل لا بد من بيانه بما يتضح به المعنى المراد فقد كانوا يسألونه صضص إذا أشكل عليهم شيء من أقواله أو أفعاله فكيف لا يسألونه عن مثل هذا وقد نقل القاضي أبو بكر والجويني عن الشافعي أن الصحابي إذا ذكر خبراً أو أوله وذكر المراد منه فذلك مقبول قال ابن القشيري إنما أراد والله أعلم إذا أول الصحابي أو خصص من غير ذكر دليل وإلا فالتأويل المعتضد بالدليل مقبول من كل إنسان لأنه اتباع للدليل لا اتباع لذلك التأويل . الحال السادس : أن يكون الخبر ظاهراً في شيء فيحمله الراوي من الصحابة على غير ظاهره إما بصرف اللفظ عن حقيقته أو بأن يصرفه عن الوجوب إلى الندب أو عن التحريم إلى الكراهة ولم يأت بما يفيد صرفه عن الظاهر فذهب الجمهور من أهل الأصول إلى أنه يعمل بالظاهر ولا يصار إلى خلافه لمجرد قول الصحابي أو فعله . وهذا هو الحق لأنا متعبدون بروايته لا برأيه كما تقدم وذهب أكثر الحنفية إلى أنه يعمل بما حمله عليه الصحابي لأنه أخبر بمراد النبي صضص ويجاب عن هذا بأنه قد يحمله على ذلك على خلاف ظاهره اجتهاداً منه والحجة إنما هي روايته لا في رأيه وقد يحمله وهماً منه وقال بعض المالكية إن كان ذلك مما لا يمكن أن يدرى إلا بشواهد الأحوال والقرائن يمكن أن يكون بضرب من الاجتهاد كان الرجوع إلى الظاهر متعيناً لاحتمال أن لا يكون اجتهاده مطابقاً لما في نفس الأمر فلا يترك الظاهر بالمحتمل . ويجاب عنه بأن ذلك الحمل على خلاف الظاهر فيما ليس من مسارح الاجتهاد قد يكون وهماً فلا يجوز اتباعه على الغلط بخلاف العمل بما يقتضيه الظاهر فإنه عمل بما يقتضيه كلام الشارع فكان العمل عليه أرجح وقال القاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري إن علم أنه لم يكن لمذهب الراوي وتأويله وجه سوى علمه بقصد النبي صضص لذلك التأويل وجب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
==

فصل في ألفاظ الرواية اعلم أن الصحابة إذا قال سمعت رسول الله صضص أو أخبرني أو حدثني فذلك لا يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صضص وما كان مروياً بهذه الألفاظ كشافهني رسول الله صضص أو رأيته يفعل كذا فهو حجة بلا خلاف وأما إذا جاء الصحابي بلفظ يحتمل الواسطة بينه وبين رسول الله صضص كأن يقول قال رسول الله صضص كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا أو قضى بكذا فذهب الجمهور إلى أن ذلك حجة سواء كان الراوي من صغار الصحابة أو من كبارهم لأن الظاهر أنه روى ذلك عن النبي صضص وعلى تقدير أن ثم واسطة فمراسيل الصحابة مقبولة عند الجمهور وهو الحق وخالف في ذلك داود الظاهري فقال أنه لا يحتج به حتى ينقل لفظ الرسول ولا حجة لهذا فإن الصحابي عدل عارف بلسان العرب وقد أنكر هذه الرواية عن دود بعض أصحابه فإن قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا بصيغة المبني للمفعول فذهب الجمهور إلى أنه حجة لأن الظاهر أن الآمر والناهي هو صاحب الشريعة ، وقال أبو بكر الصيرفي والإسماعيلي والجويني والكرخي وكثير من المالكية أنه لا يكون حجة لأنه يحتمل أن يكون الآمر أو الناهي بعض الخلفاء والأمراء ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال بعيد لا يندفع به الظهور . وحكى ابن السمعاني قولاً ثالثاً وهو الوقف ولا وجه له لأن رجحان ما ذهب إليه الجمهور وظهور وجه يدفع الوقف إذ لا يكون إلا مع تعادل الأدلة من كل وجه وعدم وجدان مرجح لأحدهما . وحكى ابن الأثير في جامع الأصول قولاً رابعاً وهو التفصيل بين أن يكون قائل ذلك هو أبو بكر الصديق فيكون ما رواه بهذه الصفة حجة لأنه لم يتأمر عليه أحد وبين أن يكون القائل غيره فلا يكون حجة ولا وجه لهذا التفصيل لما عرفناه من ضعف احتمال كون الآمر والناهي غير صاحب الشريعة . وذكر ابن دقيق العيد في شرح الإلمام قولاً خامساً وهو الفرق بين كون قائله من أكابر الصحابة كالخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة كابن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأنس وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس فيكون حجة وبين كون قائله من غيرهم فلا يكون حجة ولا وجه لهذا أيضاً تقدم وأيضاً فإن الصحابي إنما يورد ذلك مورد الاحتجاج والتبليغ للشريعة التي يثبت بها التكليف لجميع الأمة ويبعد كل البعد أن يأتي بمثل هذه العبارة ويريد غير رسول الله صضص فإنه لا حجة في قول غيره ولا فرق بين أن يأتي الصحابي بهذه العبارة في حياة رسول الله صضص أو بعد موته فإن لها حكم الرفع وبها تقوم الحجة . ومثل هذا إذا قال من السنة كذا فإنه لا يحمل إلا على رسول الله صضص وبه قال الجمهور وحكى ابن فورك عن الشافعي أنه قال في قوله القديم أنه يحمل على سنة رسول الله صضص في الظاهر وإن جاز خلافه ، وقال في الجديد يجوز أن يقال ذلك على معنى سنة البلد وسنة الأئمة ويجاب عنه بأن هذا احتمال بعيد والمقام مقام تبليغ للشريعة إلى الأمة ليعملوا بها . فكيف يرتكب مثل ذلك من هو من خير القرون ؟ قال الكرخي والرازي والصيرفي أنه ليس بحجة لأن المتلقي من القياس قد يقال إنه سنة لاستناده إلى الشرع وحكى هذا الجويني عن المحققين ويجاب عنه بأن إطلاق السنة على ما هو مأخوذ من القياس مخالف لاصطلاح أهل الشرع فلا يحمل عليه ونقل ابن الصلاح والنووي عن أبي بكر الإسماعيلي الوقف ولا وجه له . وأما التابعي إذا قال من السنة كذا فله حكم مراسيل التابعين هذا أرجح ما يقال فيه واحتمال كونه مذاهب الصحابة وما كان عليه العمل في عصرهم خلاف الظاهر فإن إطلاق ذلك في مقام الاحتجاج وتبليغه إلى الناس يدل على أنه أراد سنة صاحب الشريعة . قال ابن عبد البر إذا أطلق الصحابي السنة فالمراد به سنة النبي صضص وكذلك إذا أطلقه غيره ما لم تضف إلى صاحبها كقولهم « سنة العمرين » ونحو ذلك فإن قال الصحابي كنا نفعل في عهد رسول الله صضص كذا أو كانوا يفعلون كذا فأطلق الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي أن الأكثرين على أنه حجة ووجه أنه نقل لفعل جماعتهم مع تقرير النبي صضص على ذلك ولا بد أن يعتبر في هذا أن يكون مثل ذلك مما لا يخفى على النبي صضص فتكون الحجة في التقرير وأما كونه في حكم نقل الإجماع فلا فقد يضاف فعل البعض إلى الكل . وحكى القرطبي في قول الصحابي كنا نفعل في عهده صضص ثلاثة أقوال فقال قبله أبو الفرج من أصحابنا ورده أكثر أصحابنا وهو الأظهر من مذهبهم قال القاضي أبو محمد والوجه التفصيل بين أن يكون شرعاً مستقلاً كقول أبي سعيد كنا نخرج صدقة عيد الفطر على عهد رسول الله صضص صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير الحديث فمثل هذا يستحيل خفاؤه عليه صضص فإن كان يمكن خفاؤه فلا يقبل كقول رافع بن خديج كنا نخابر على عهد رسول الله صضص حتى روى لنا بعض عمومتي أن رسول الله صضص نهى عن ذلك ورجح هذا التفصيل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وقيل أن ذكره الصحابي في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فلا وأما لو قال الصحابي كانوا يفعلون أو كنا نفعل ولا يقول على عهد النبي صضص فلا تقوم بمثل هذه الحجة لأنه ليس بمسند إلى تقرير النبي صضص ولا هو حكاية للإجماع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
=======

وأما ألفاظ الرواية من غير الصحابي فلها مراتب بعضها أقوى من بعض المرتبة الأولى : أن يسمع الحديث من لفظ الشيخ وهذه المرتبة هي الغاية في التحمل لأنها طريقة رسول الله صضص فإنه هو الذي كان يحدث أصحابه وهم يسمعون وهي أبعد من الخطأ والسهو . وقال أبو حنيفة أن قراءة التلميذ على الشيخ أقوى من قراءة الشيخ على التلميذ لأنه إذا قرأ التلميذ على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين وإذا قرأ الشيخ كانت المحافظة منه وحده وهذا ممنوع فالمحافظة في الطريقين كائنة من الجهتين قال الماوردي والروياني ويصح تحمل التلميذ عن الشيخ سواء كانت القراءة عن قصد أو اتفاقاً أو مذاكرة ويجوز أن يكون الشيخ أعمى على ما حفظه ويجوز أن يكون أصم ويجوز أن يكون التلميذ أعمى ولا يجوز أن يكون أصم وكما تجوز الرواية من حفظ الشيخ يجوز أن تكون من كتابه إذا كان واثقاً به ذاكراً لوقت سماعه له ، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا تجوز الرواية من الكتاب ولا وجه لذلك فإن يستلزم بطلان فائدة الكتاب ولا يبعد أن تكون الرواية من الكتاب الصحيح المسموع أثبت من الرواية من الحفظ لأن الحفظ مظنة السهو والنسيان والاشتباه . وللتلميذ في هذه المرتبة التي هي أقوى المراتب أن يقول حدثني وأخبرني وأسمعني وحدثنا وأخبرنا وأسمعنا إذا كان الشيخ قاصداً لإسماعه وحده أو مع جماعة فإن لم يقصد ذلك فيقول سمعته يحدث . المرتبة الثانية : أن يقرأ التلميذ والشيخ يسمع وأكثر المحدثين يسمون هذا عرضاً وذلك لأن التلميذ بقراءته على الشيخ ، كأنه يعرض عليه ما يقرؤه ولا خلاف أن هذه طريقة صحيحة ورواية معمول بها ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتد بخلافه . قال الجويني وشرط صحة هذه الطريقة أن يكون الشيخ عالماً بما يقرؤه التلميذ عليه ولو فرض منه تصحيف أو تحريف لرده عليه ، وإلا لم تصح الرواية عنه . قال وأي فرق بين شيخ يسمع أصواتاً وأجراساً ولا يأمن تدليساً وإلباساً وبين شيخ لا يسمع ما يقرأ عليه ؟ قال أبو نصر القشيري وهذا الذي ذكره الإمام لم أره في كلام القاضي فإن صرح بأن الصبي المميز يصح منه التحمل وإن لم يعرف معناه . وتصح رواية الحديث عمن لم يعلم معناه ، وهذا فيما أظن إجماع من أئمة الحديث وكيف لا وفي الحديث « رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه » ولو شرطنا علم الراوي بمعنى الحديث لشرطنا معرفة جميع وجوهه ويسند بذلك الحديث قال وقد صرح الإمام بجواز الإجازة والتعويل عليها وقد يكون المجيز غير محيط بجملة ما في الكتاب المجاز ، وقد وافق الجويني على ذلك الشرط الذي ذكره الكيا الطبري والمازري . ويقول التلميذ في هذه الطريقة قرأت على فلان أو أخبرني أو حدثني قراءة عليه وأما إطلاق أخبرني أو حدثني بدون تقييده بقوله قراءة عليه فمنع من ذلك جماعة منهم ابن المبارك ويحيى بن يحيى وأحمد بن حنبل والنسائي لأن ظاهر ذلك يقتضي أن الشيخ هو الذي قرأ بنفسه ، وقال الزهري ومالك وسفيان الثوري وابن عيينة ويحيى بن سعيد القطان والبخاري أنه يجوز لأن القراءة على الشيخ كالقراءة منه ونقله الصيرفي والماوردي والروياني عن الشافعي ، وروي عن الشافعي وأصحابه ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح أنه يجوز في هذه الطريقة أن يقول أخبرنا ولا يجوز أن يقول حدثنا . قال الربيع قال الشافعي إذا قرأت على العالم فقل أخبرنا ، وإذا قرأ عليك فقل حدثنا . قال ابن دقيق العيد وهو باصطلاح المحدثين في الآخر والاحتجاج له ليس بأمر لغوي وإنما هو اصطلاح منهم أرادوا به التمييز بين النوعين . قال ابن فورك بين حدثني وأخبرني فرق لأن أخبرني يجوز أن يكون بالكتابة إليه وحدثني لا يحتمل إلا السماع . المرتبة الثالثة : الكتابة المقترنة بالإجازة نحو أن يكتب الشيخ إلى التلميذ سمعت من فلان كذا وقد أجزت لك أن ترويه عني وكان خط الشيخ معروفاً فإن تجردت الكتابة عن الإجازة فقد أجاز الرواية بها كثير من المتقدمين حتى قال ابن السمعاني أنها أقوى من مجرد الإجازة وقال الكيا الطبري إنها بمنزلة السماع قال لأن الكتابة أحد اللسانين ، وقد كان النبي صضص يبلغ بالكتابة إلى الغائبين كما يبلغ قبل الخطاب للحاضرين ، وكان رسول الله صضص يكتب إلى عماله تارة ويرسل أخرى . قال البيهقي في المدخل الآثار في هذا كثير من التابعين فمن بعدهم وفيها دلالة على أن جميع ذلك واسع عندهم وكتب النبي صضص شاهدة لقوله قال إلا أن ما سمعه من الشيخ فوعاه وقرأ عليه به أولى بالقبول مما كتب به إليه لما يخاف على الكتاب من التغيير . وكيفية الرواية أن يقول كتب إلي أو أخبرني كتابة ، فإن كان قد ذكر الأخبار في كتابه فلا بأس بقوله أخبرنا وجوز الرازي أن يقول التلميذ أخبرني مجرداً عن قوله كتابة . قال ابن دقيق العيد : وأما تقييده بقوله كتابة فينبغي أن يكون هذا أدباً ، لأن القول إذا كان مطابقاً جاز إطلاقه ، ولكن العمل مستمر على ذلك عند الأكثرين وجوز الليث بن سعد إطلاق حدثنا وأخبرنا في الرواية بالكتابة . قال القاضي عياض إن الذي عليه الجمهور من أرباب النقل وغيرهم جواز الرواية لأحاديث الكتابة ووجوب العمل بها وأنها داخلة في المسند وذلك بعد ثبوت صحتها عند المكتوب إليه ووثوقه بأنها عن كاتبها ومنع قوم من الرواية بها منهم المازري والروياني ، وممن نقل إنكار قبولها الحافظ الدارقطني والآمدي . المرتبة الرابعة : المناولة وهو أن يناول الشيخ تلميذه صحيفة وهي على وجهين : الأول : أن تقترن بالإجازة وذلك بأن يدفع أصله أو فرعاً مقابلاً عليه ويقول هذا سماعي فاروه عني . أو يأتي التلميذ إلى الشيخ بجزء فيه سماعه فيعرضه على الشيخ ثم يعيده إليه ويقول هو من مروياتي فاروه عني . قال القاضي عياض في الإلماع أنها تجوز الرواية بهذه الطريقة بالإجماع . قال المازري لا شك في وجوب العمل بذلك ولا معنى للخلاف في ذلك . قال الصيرفي ولا نقول حدثنا ولا أخبرنا في كل حديث ، وروي عن أحمد وإسحاق ومالك أن هذه المناولة المقترنة بالإجازة كالسماع وحكاه الخطيب عن ابن خزيمة . الوجه الثاني : أن لا تقترن بالإجازة ، بل يناوله الكتاب ويقتصر على قوله هذا سماعي من فلان ولا يقول أروه عني فقال ابن الصلاح والنووي لا تجوز الرواية بها على الصحيح عند الأصوليين والفقهاء وحكى الخطيب عن قوم أنهم جوزوا الرواية بها وبه . قال ابن الصباغ والرازي قال البخاري واحتج بعض أهل الحجاز للمناولة بحديث النبي صضص حيث كتب لأمير السرية كتاباً وقال لا تقرأه حتى تبلغ كذا وكذا ، فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي صضص وأشار البيهقي إلى أنه لا حجة في ذلك . قال العبدري لا معنى لإفراد المناولة حتى يقول أجزت لك أن تروي عني وحينئذ فهو قسم من أقسام الإجازة . المرتبة الخامسة : الإجازة وهو أن يقول أجزت لك أن تروي عني هذا الحديث بعينه أو هذا الكتاب أو هذه الكتب فذهب الجمهور إلى جواز الرواية بها ومنع من ذلك جماعة قال شعبة لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة ، وقال أبو زرعة الرازي لو صحت الإجازة لذهب العلم ومن المانعين إبراهيم الحربي وأبو الشيخ الأصفهاني والقاضي حسين والماوردي والروياني من الشافعية وأبو طاهر الدباس من الحنفية وقال من قال لغيره أجزت لك أن تروي عني فكأنه قال أجزت لك أن تكذب علي . ويجاب عمن قال هؤلاء المانعون بأن الإجازة لا تستلزم بطلان الرحلة وأيضاً المراد من الرحلة تحصيل طريق الرواية وقد حصلت بالإجازة ولا تستلزم ذهاب العلم غاية ما في الباب من روى بالإجازة ترك ما هو أقوى منها من طرق الرواية وهي طريقة السماع والكل طرق للرواية والعلم محفوظ غير ذاهب بترك ما هو الأقوى . وأما قول الدباس إن الإجازة بمنزلة قول الشيخ لتلميذه أجزت لك أن تكذب علي فهذا خلف من القول وباطل من الكلام فإن المراد من تحصيل طريق الرواية هو حصول الثقة بالخبر وهي هنا حاصلة وإذا تحقق سماع الشيخ وتحقق أذنه للتلميذ بالرواية فقد حصل المطلوب من الإسناد ولا فرق بين الطريق المقتضية للرواية تفصيلاً في اتصاف كل واحدة منها بأنها طريق وإن كان بعضها أقوى من بعض . وإذا عرفت هذا علمت أنه لا وجه لما قاله ابن حزم في كتاب الأحكام أنه بدعة غير جائزة . واختلفوا هل يجوز للتلميذ أن يقول في الإجازة حدثني أو أخبرني أو حدثنا أو أخبرنا من غير تقييد بكون ذلك إجازة فمنهم من أجازه ومنهم من منعه إلا بالقيد المذكور وهو أن يقول حدثني إجازة أو أخبرني إجازة . قال ابن دقيق العيد وأجود العبارات في الإجازة أن يقول أجاز لنا . وقيل يجوز أن يقول أنبأني بالاتفاق وهذه الطريقة على أنواع . النوع الأول : أن يجيز في معين لمعين نحو أن يقول أجزت لك أو لكم جميع مسموعاتي فجوز هذا الجمهور ومنعه جماعة منهم الجويني . النوع الثالث : أن يجيز غير معين بغير معين نحو أن يقول أجزت للمسلمين أو لمن أدرك حياتي جميع مروياتي وقد جوز هذا جماعة منهم الخطيب وأبو الخطيب وأبو الطيب الطبري . ومنعه آخرون وهذا فيما إذا كان المجاز له أهلاً للرواية ، وأما إذا لم يكن أهلاً لها كالصبي فجوز ذلك قوم ومنعه آخرون واحتج الخطيب للجواز بأن الإجازة إباحة المجيز للمجاز له أن يروي عنه والإباحة تصح للمكلف وغيره ولا بد من تقييد قول من قال بالجواز بأن لا يروي من ليس بمتأهل للرواية إلا بعد أن يصير متأهلاً لها . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

فصل الصحيح من الحديث الصحيح من الحديث هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط من غير شذوذ ولا علة قادحة فما لم يكن متصلاً ليس بصحيح ولا تقوم به الحجة ومن ذلك المرسل ، وهو أن يترك التابعي الواسطة بينه وبين رسول الله صضص ويقول قال رسول الله صضص هذا اصطلاح جمهور أهل الحديث ، وأما جمهور أهل الأصول فقالوا المرسل قول من لم يلق النبي صضص قال رسول الله صضص سواء كان من التابعين أو من تابعي التابعين أو ممن بعدهم وإطلاق المرسل على هذا وإن كان اصطلاحاً ولا مشاحة فيه لكن محل الخلاف هو المرسل باصطلاح أهل الحديث فذهب الجمهور إلى ضعفه وعدم قيام الحجة به لاحتمال أن يكون التابعي سمعه من بعض التابعين فلم يتعين أن الواسطة صحابي لا غير حتى يقال قد تقرر أن الصحابة عدول فلا يضر حذف الصحابي وأيضاً يحتمل أنه سمعه من مدع يدعي أن له صحبة ولم تصح صحبته وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وجمهور المعتزلة واختاره الآمدي إلى قبوله وقيام الحجة به . حتى قال بعض القائلين بقبول المرسل أنه أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته ولهذا أرسله وهذا غلو خارج عن الإنصاف والحق عدم القبول لما ذكرت من الاحتمال قال الآمدي وفصل عيسى بن أبان فقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين دون من عداهم ولعله يستدل على هذا بحديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب وقيد هذا من قال به بأن يكون الراوي من أئمة النقل واختاره ابن الحاجب فإنه قال فإن كان من أئمة النقل قبل وإلا فلا قال ابن عبد البر لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا كان مرسله غير محترز يرسل عن غير الثقات قال وهذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صضص مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار أو أبو أمامة بن سهل بن حنيف أو عبد الله بن عامر بن ربيعة ومن كان مثلهم عن النبي صضص كذلك من دون هؤلاء كسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله وأبي سلمة بن عبد الرحمن والقاسم بن محمد ومن كان مثلهم وكذلك علقمة ومسروق بن الأجدع والحسن وابن سيرين والشعبي وسعيد بن جبير ومن كان مثلهم الذين صح لهم لقاء جماعة من الصحابة ومجالستهم ونحوه مرسل من دونهم كحديث الزهري وقتادة وأبي حازم ويحيى بن سعيد عن رسول الله صضص فيسمى مرسلاً كمرسل كبار التابعين . وقال آخرون حديث هؤلاء عن النبي صضص يسمى منقطعاً لأنهم لم يلقوا من الصحابة إلا الواحد والاثنين وأكثر روايتهم عن التابعين انتهى . وفي هذا التمثيل نظر فأبو أمامة بن سهل بن حنيف وعبد الله بن عامر معدودان في الصحابة وأيضاً قوله في آخر كلامه أن الزهري ومن ذكر معه لم يلقوا إلا الواحد والاثنين من الصحابة غير صحيح فقد لقي الزهري أحد عشر رجلاً من الصحابة . قال ابن عبد البر أيضاً وأصل مذهب مالك وجماعة من أصحابه أن مرسل الثقة يجب به الحجة ويلزم به العمل كما يجب بالمسند سواء طائفة من أصحابنا مراسيل الثقات مقبولة بطريق أولى واعتلوا بأن من أسند لك فقد أحالك على البحث عن أحوال من سماه لك ومن أرسل من الأئمة حديثاً مع علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته قال والمشهور أنهما سواء في الحجة لأن السلف فعلوا الأمرين قال وممن ذهب إليه أبو الفرج عمر بن محمد المالكي وأبو بكر الأبهر وهو قول أبي جعفر الطبري وزعم الطبري أن التابعين بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين انتهى . ويجاب عن قوله من أرسل من علمه ودينه وثقته فقد قطع لك بصحته أن الثقة قد يظن من ليس بثقة ثقة عملاً بالظاهر ويعلم غيره من حاله ما يقدح فيه والجرح مقدم على التعديل ويجاب عن قول الطبري إنه لم ينكره أحد إلى رأس المائتين بما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن عباس أنه لم يقبل مرسل بعض التابعين مع كون ذلك التابعي ثقة محتجاً به في الصحيحين وبما نقله مسلم أيضاً عن ابن سيرين أنه قال كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قيل سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ عنهم وإلى أهل البدع فلا يؤخذ عنهم . ونقل الحافظ أبو عبد الله الحاكم أن المرسل ليس بحجة عن إمام التابعين سعيد بن المسيب وعن مالك بن أنس وجماعة من أهل الحديث ونقله غيره عن الزهري والأوزاعي وصح ذلك عن عبد الله بن المبارك وغيره قال الخطيب لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بتدليس هو رواية الراوي عمن لم يعاصره أو لم يلقه كرواية سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير ومحمد بن المنكدر والحسن البصري وقتادة وغيرهم من التابعين عن رسول الله صضص فإنه قيل هو مقبول إذا كان المرسل ثقة عدلاً وهو قول مالك وأهل المدينة وأبي حنيفة وأهل العراق وغيرهم . وقال الشافعي لا يجب العمل وعليه أكثر الأئمة . واختلف مسقطو العمل بالمرسل في قبول رواية الصحابة خبراً عن النبي صضص ولم يسمعه منه كقول أنس بن مالك ذكر لي أن النبي صضص قال لمعاذ من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة الحديث فقال بعض من لا يقبل مراسيل الصحابة لا نشك في عدالتهم ولكنه قد يروي الراوي عن تابعي أو عن أعرابي لا نعرف صحبته ولو قال لا أروي لكم إلا من سماعي أو من صحابي لوجب علينا قبول مرسله وقال آخرون مراسيل الصحابة كلهم مقبولة لكون جميعهم عدولاً وأن الظاهر فيما أرسلوه أنهم سمعوه من النبي صضص أو من صحابي سمعه من النبي صضص وأما ما رووه عن التابعين فقد بينوه وهو أيضاً قليل نادر لا اعتبار به قال وهذا هو الأشبه بالصواب ثم رجح عدم قبول مراسيل غير الصحابة فقال والذي نختاره سقوط فرض الله بالمرسل بجهالة راويه ولا يجوز قبول الخبر إلا عمن عرفت عدالته ولو قال المرسل حدثني العدل الثقة عندي بكذا لم يقبل حتى يذكر اسمه . مسألة : ولا تقوم الحجة بالحديث المنقطع وهو الذي سقط من رواته واحد ممن دون الصحابة ولا بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات ولا عبرة بكون الراوي لما هذا حال ثقة متثبتاً لأنه قد يخفي عليه من حال من يظنه ثقة ما هو جرح فيه . ولا تقوم الحجة أيضاً بحديث يقول فيه بعض رجال إسناده عن رجل أو عن شيخ أو عن ثقة أو نحو ذلك لما ذكرنا من العلة وهذا مما لا ينبغي أن يخالف فيه أحد من أهل الحديث ولا اعتبار بخلاف غيرهم لأن من لم يكن من أهل الفن لا يعرف ما يجب اعتباره .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
=====

فصل في العدالة وإذ قد تقرر لك أن العدالة شرط فلا بد من معرفة الطريقة التي تثبت بها وأقوى الطرق المفيدة لثبوتها الاختبار في الأحوال بطول الصحابة والمعاصرة والمعاملة فإذا لم يعثر عليه فعل كبيره ولا على ما يقتضي التهاون بالدين والتساهل في الرواية فهو ثقة وإلا فلا ثم التزكية وهي إما أن تكون بخبر عدلين مع ذكر السبب ولا خلاف أن ذلك تعديل أو بدون ذكره والجمهور على قبوله ويكفي أن يقول هو عدل . قال القرطبي لا بد أن يقول هذا عدل رضى ولا يكفي الاقتصار على أحدهما ولا وجه لهذا بل الاقتصار على أحدهما أو على ما يفيد مفاد أحدهما يكفي عند من يقبل الإجمال وأما التعديل من واحد فقط فقيل لا يقبل من غير فرق بين الرواية والشهادة وحكاه القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء قال ابن الأنباري وهو قياس مذهب مالك وقيل يقبل قال القاضي والذي يوجبه القياس وجوب قبول كل عدل مرضي ذكراً أو أنثى حراً أو عبداً شاهداً أو مخبراً وقيل يشترط في الشهادة اثنان ويكفي في الرواية واحد كما يكفي في الأصل لأن الفرع لا يزيد على الأصل وهو قول الأكثرين كما حكاه الآمدي والصفي الهندي قال ابن الصلاح وهو الصحيح الذي اختاره الخطيب وغيره لأن العدد لا يشترط في قبول الخبر فلا يشترط في جرح رواته ولا في تعديلهم بخلاف الشهادة وأطلق في المحصول قبول تزكية المرأة ، وحكى القاضي أبو بكر عن أكثر الفقهاء أنه لا يقبل النساء في التعديل لا في الشهادة ولا في الرواية ثم اختار قبول قومه لها فيهما كما يقبل روايتها وشهادتها انتهى . ولا بد من تقييد هذا بكونها ممن تجوز لها مصاحبته والاطلاع على أحواله أو يكون الذي وقعت تزيكة المرأة له مثلها ويدل على هذا سؤاله صضص للجارية في قصة الإفك عن حال أم المؤمنين عائشة . وقد تكون التزكية بأن يحكم حاكم بشاهدته كذا قال الجويني والقاضي أبو بكر وغيرهما قال القاضي وهو أقوى من تزكيته باللفظ ، وحكى الصفي الهندي الاتفاق على هذا قال لأنه لا يحكم بشهادته إلا وهو عدل عنده وقيده الآمدي بما إذا لم يكن الحاكم ممن يرى قبول الفاسق الذي لا يكذب قال ابن دقيق العيد وهذا إذا منعنا حكم الحاكم بعلمه أما إذا أجزناه فعلمه بالشهادة ظاهراً يقوم معه احتمال أنه حكم بعلمه باطناً . ومن طرق التزكية الاستفاضة فيمن اشتهرت عدالته بين أهل العلم وشاع الثناء عليه بالثقة والأمانة فإن ذلك يكفي . قال ابن الصلاح وهذا هو الصحيح من مذهب الشافعي وعليه الاعتماد في أصول الفقه وممن ذكره من المحدثين الخطيب ومثله بنحو مالك وشعبة والسفيانين وأحمد وابن معين وابن المديني وغيرهم قال القاضي أبو بكر الشاهد والمخبر إنما يحتاجان إلى التزكية متى لم يكونا مشهورين بالعدالة وكأن أمرهما متشكلاً ملتبساً وصرح بأن الاستفاضة أقوى من تقوية الواحد والاثنين قال ابن عبد البر كل حامل علم معروف العناية به فهو عدل محمول في أمره على العدالة حتى يتبين جرحه لقوله صضص يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتبعه على ذلك جماعة من المغاربة وهذا الحديث رواه العقيلي في ضعفائه من جهة ابن رفاعة السلامي عن إبراهيم بن عبد الرحمن العذري وقال لا يعرف إلا به وهو مرسل أو معضل ضعيف وإبراهيم قال فيه القطان لا نعرفه ألبتة في شيء من العلم غير هذا وقال الخلال في كتاب العلل : سئل أحمد عن هذا الحديث . فقيل له : ترى أنه موضوع ؟ فقال : لا هو صحيح . قال ابن الصلاح وفيما قاله اتساع غير مرضي . ومن طرق التزكية العمل بخبر الراوي حكاه أبو الطيب الطبري عن الشافعية ونقل فيه الآمدي الاتفاق واعترض عليه بأنه قد حكى الخلاف فيه القاضي والغزالي في المنخول وقال الجويني فيه أقوال : أحدها أنه تعديل له ، والثاني أن ليس بتعديل ، والثالث قال وهو الصحيح أنه إن أمكن أنه عمل بدليل آخر ووافق عليه الخبر الذي رواه فعمله ليس بتعديل وإن كان العمل بذلك الخبر من غير أن يمكن تجويز أنه عمل بدليل آخر فهو تعديل واختار هذا القاضي في التقريب . قال وفرق بين قولنا عمل بالخبر وبين قولنا بموجب الخبر فإن الأول يقتضي أنه مستنده والثاني لا يقتضي ذلك لجواز أن يعمل به لدليل آخر وقال الغزالي إن أمكن حمله على الاحتياط فليس بتعديل وإلا فهو تعديل وكذا قال الكيا الطبري ويشترط في هذه الطريقة أن لا يوجد ما يقوي ذلك الخبر فإن وجد ما يقويه من عموم أو قياس وعلمنا أن العمل بخبره لم يكن لا لاعتضاده بذلك فليس بتعديل . ومن طريقة التزكية أن يروي عنه من عرف من حاله أنه لا يروي إلا عن عدل كيحيى بن سعيد القطان وشعبة ومالك فإن ذلك تعديل كما اختاره الجويني وابن القشيري والغزالي والآمدي والصفي الهندي وغيرهم قال الماوردي هو قول الحذاق ولا بد في هذه الطريقة من أن يظهر أن الراوي عنه لا يروي إلا عن عدل ظهوراً بيناً إما بتصريحه بذلك أو بتتبع عادته بحيث لا تختلف في بعض الأحوال فإن لم يظهر ذلك ظهوراً بيناً فليس بتعديل فإن كثيراً من الحفاظ يروون أحاديث الضعفاء للاعتبار ولبيان حالها ومن هذه الطريقة قولهم رجاله رجال الصحيح وقولهم روى عنه البخاري ومسلم أو أحدهما . فرع اختلف أهل العلم في تعديل المبهم كقولهم : « حدثني الثقة أو حدثني العدل » فذهب جماعة إلى عدم قبوله ومنهم أبو بكر القفال الشاشي والخطيب البغدادي والصيرفي والقاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ والماوردي والروياني وقال أبو حنيفة يقبل والأول أرجح لأنه وإن كان عدلاً عنده فربما لو سماه كان مجروحاً عند غيره قال الخطيب لو صرح بأن جميع شيوخه ثقات ثم روى عمن لم يسمه لم نعمل بروايته لجواز أن نعرفه إذا ذكره بخلاف العدالة قال نعم لو قال العالم كل ما أروي عنه وأسميه فهو عدل رضى مقبول الحديث كان هذا القول تعديلاً لكل من روى عنه وسماه كما سبق انتهى . ومن هذا قول الشافعي في مواضع كثيرة حدثني الثقة وكذا كان يقول مالك وهذا إذا لم يعرف من لم يسمه أما إذا عرف بقرينة حال أو مقال كان كالتصريح باسمه فينظر فيه . قال أبو حاتم إذا قال الشافعي أخبرني الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك وإذا قال أخبرني الثقة عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان وإذا قال أخبرني الثقة عن الوليد بن كثير فهو عمرو بن أبي سلمة وإذا قال أخبرني الثقة عن ابن جريح فهو مسلم بن خالد الزنجي وإذا قال أخبرني الثقة عن صالح مولى التوأمة فهو إبراهيم بن أبي يحيى . فرع آخر هل يقبل الجرح والتعديل من دون ذكر السبب أم لا ؟ فذهب جماعة إلى أنه لا بد من ذكر السبب فيهما وذهب آخرون إلى أنه لا يجب ذكر السبب فيهما إذا كان بصيراً بالجرح والتعديل واختار هذا القاضي أبو بكر وذهب جماعة إلى أنه يقبل التعديل من غير ذكر السبب بخلاف الجرح فإنه يحصل بأمر واحد وأيضاً سبب الجرح مختلف فيه بخلاف سبب التعديل أو إلى هذا ذهب الشافعي . قال القرطبي وهو الأكثر من قول مالك قال الخطيب وذهب إليه الأئمة من حفاظ الحديث ونقاده كالبخاري ومسلم وذهب جماعة إلى أنه يقبل الجرح من غير ذلك السبب ولا يقبل التعديل إلا بذكر السبب قالوا لأن مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لتسارع الناس إلى الظاهر والحق أنه لا بد من ذكر السبب في الجرح والتعديل لأن الجارح والمعدل قد يظنان ما ليس بجارح جارحاً وقد يظنان ما لا يستقل بإثبات العدالة تعديلاً ولا سيما مع اختلاف المذاهب في الأصول والفروع فقد يكون ما أبهمه الجارح من الجرح هو مجرد كونه على غير مذهبه وعلى خلاف ما يعتقده وإن كان حقاً وقد يكون ما أبهمه من التعديل هو مجرد كونه على مذهبه وعلى ما يعتقده وإن كان في الواقع مخالفاً للحق كما وقع ذلك كثيراً . وعندي أن الجرح المعمول به هو أن يصفه بضعف الحفظ أو بالتساهل في الرواية أو بالإقدام على ما يدل على تساهله بالدين ، والتعديل المعمول به هو أن يصفه بالتحري في الرواية والحفظ لما يرويه وعدم الإقدام على ما يدل على تساهله بالدين فاشدد على هذا يديك تنتفع به عند اضطراب أمواج الخلاف . فإن قلت إذا ورد الجرح المطلق كقول الجارح ليس بثقة أو ليس بشيء أو هو ضعيف فهل يجوز العمل بالمروي مع هذا أم لا ؟ (قلت) يجب حينئذ التوقف حتى يبحث المطلع على ذلك على حقيقة الحال في مطولات المصنفات في هذا الشأن كتهذيب الكمال للمزي وفروعه وكذا تاريخ الإسلام وتاريخ النبلاء والميزان للذهبي . فرع ثالث في تعارض الجرح والتعديل وعدم إمكان الجمع بينهما وفيه أقوال : الأول : أن الجرح مقدم على التعديل وإن كان المعدلون أكثر من الجارحين وبه قال الجمهور كما نقله عنهم الخطيب والباجي ونقل القاضي فيه الإجماع قال الرازي والآمدي وابن الصلاح إنه الصحيح لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل قال ابن دقيق العيد وهذا إنما يصح على قول من قال أن الجرح لا يقبل إلا مفسراً ، وقد استثنى أصحاب الشافعي من هذا ما إذا جرحه بمعصية وشهد الآخر أن قد تاب منها فإنه يقدم في هذه الصورة التعديل لأن معه زيادة علم . القول الثاني : أنه يقدم التعديل على الجرح لأن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحاً والمعدل إذا كان عدلاً لا يعدل إلا بعد تحصيل الموجب لقبوله جرحاً حكى هذا الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ولا بد من تقييد هذا القول بالجرح المجمل إذ لو كان الجرح مفسراً لم يتم ما علل به أن الجارح قد يجرح بما ليس في نفس الأمر جارحاً إلخ . القول الثالث : أنه يقدم الأكثر من الجارحين والمعدلين . قال في المحصول وعدد المعدل إذا زاد قيل أنه يقدم على الجارح وهو ضعيف لأن سبب تقديم الجرح اطلاع الجارح على زيادة ولا ينتفي ذلك بكثرة العدد . القول الرابع : أنهما يتعارضان فلا يقدم أحدهما على الآخر إلا بمرجح حكى هذا القول ابن الحاجب وقد جعل القاضي في التقريب محل الخلاف فيما إذا كان عدم المعدلين أكثر فإن استووا قدم الجرح بالإجماع وكذا قال الخطيب في الكفاية وأبو الحسين بن القطان وأبو الوليد الباجي وخالفهم أبو نصر القشيري ، فقال محل الخلاف فيما إذا استوى عدد المعدلين والجارحين قال فإن كثر عدد المعدلين وقل عدد الجارحين فقيل العدالة في هذه الصورة أولى انتهى . والحق الحقيق بالقبول أن ذلك محل اجتهاد للمجتهد وقد قدمنا أن الراجح أنه لا بد من التفسير في الجرح والتعديل فإذا فسر الجارح ما جرح به والمعدل ما عدل به لم يخف على المجتهد الراجح منهما من المرجوح وأما على القول بقبول الجرح والتعديل المجملين من عارف فالجرح مقدم على التعديل لأن الجارح لا يمكن أن يستند في جرحه إلى ظاهر الحال بخلاف المعدل فقد يستند إلى ظاهر الحال وأيضاً حديث من تعارض فيه الجرح والتعديل المجملان قد دخله الاحتمال فلا يقبل . فصل اعلم أن ما ذكرناه من (وجوب تقديم البحث عن عدالة الراوي إنما هو في غير الصحابة فأما فيهم فلا لأن الأصل فيهم العدالة فتقبل روايتهم من غير بحث عن أحوالهم) حكاه ابن الحاجب عن الأكثرين قال القاضي هو قول السلف وجمهور الخلف وقال الجويني بالإجماع ووجه هذا القول ما ورد من العمومات المقتضية لتعديلهم كتاباً وسنة كقوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس وقوله وكذلك جعلناكم أمة وسطاً أي عدولاً وقوله لقد رضي الله عن المؤمنين وقوله والسابقون وقوله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله صضص خير القرون قرني وقولهم في حقهم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدكم ولا نصيفه وهما في الصحيح وقوله أصحابي كالنجوم على مقال فيه معروف قال الجويني ولعل السبب في قبولهم من غير بحث عن أحوالهم أنهم نقلة الشريعة ولو ثبت التوقف في روايتهم لانحصرت الشريعة على عصر الرسول ولما استرسلت على سائر الأعصار قال الكيا الطبري وأما ما وقع بينهم من الحروب والفتن فتلك أمور مبنية على الاجتهاد وكل مجتهد مصيب أو المصيب واحد والمخطئ معذور بل مأجور ، وكما قال عمر بن عبد العزيز تلك دماء طهر الله منها سيوفنا فلا نخضب بها ألسنتنا . القول الثاني : أن حكمهم في العدالة حكم غيرهم فيبحث عنها قال أبو الحسين بن القطان فوحشي قتل حمزة وله صحبة والوليد شرب الخمر فمن ظهر عليه خلاف العدالة لم يقع عليه اسم الصحبة والوليد ليس بصحابي لأن الصحابة إنما هم الذين كانوا على الطريقة انتهى . وهذا كلام ساقط جداً فوحشي قتل حمزة وهو كافر ثم أسلم وليس ذلك مما يقدح به فالإسلام يجب ما قبله بلا خلاف وأما صحابياً عن صحبته قال الرازي في المحصول وقد بالغ إبراهيم النظام في الطعن فيهم على ما نقله الحافظ عنه في كتاب الفتيا ونحن نذكر ذلك مجملاً ومفصلاً ، أما مجملاً فإنه روى من طعن بعضهم في بعض أخباراً كثيرة يأتي تفصيلها ، وقال رأينا بعض الصحابة يقدح في بعض وذلك يقتضي توجه القدح إما في القادح إن كان كاذباً وإما في المقدوح فيه إن كان القادح صادقاً . والجواب مجملاً أن آيات القرآن دالة على سلامة أحوال الصحابة وبراءتهم عن المطاعن وإذا كان كذلك وجب علينا أن نحسن الظن بهم إلى أن يقوم دليل قاطع على الطعن فيهم إلى آخر كلامه . القول الثالث : أنهم كلهم عدول قبل الفتن لا بعدها فيجب البحث عنهم . وأما بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً أي من الطرفين لأن الفاسق من الفريقين غير معين وبه قال عمرو بن عبيد من المعتزلة وهذا القول في غاية الضعف لاستلزامه إهدار غالب السنة ، فإن المعتزلين لتلك الحروب هم طائفة يسيرة بالنسبة إلى الداخلين فيها وفيه أيضاً أن الباغي غير معين من الفريقين وهو معين بالدليل الصحيح وأيضاً التمسك بما تمسكت به طائفة يخرجها من إطلاق اسم البغي عليها على تسليم أن الباغي من الفريقين غير معين . القول الرابع : أنهم كلهم عدول إلا من قاتل علياً ، وبه قال جماعة من المعتزلة والشيعة ويجاب عنه بأن تمسكهم بما تمسكوا به من الشبه يدل على أنهم لم يقدموا على ذلك جراءة على الله وتهاوناً بدينه وجناب الصحبة أمر عظيم فمن انتهك أعراض بعضهم فقد وقع في هوة لا ينجو منها سالماً وقد كان في أهل الشام صحابة صالحون عرضت لهم شبه لولا عروضها لم يدخلوا في تلك الحروب ولا غمسوا فيها أيديهم وقد عدلوا تعديلاً عاماً بالكتاب والسنة فوجب علينا البقاء على والتأويل لما يقتضي خلافه . القول الخامس : أن من كان مشتهراً منهم بالصحبة والملازمة فهو عدل لا يبحث عن عدالته دون من قلت صحبته ولم يلازم وإن كانت له رواية ، كذا قال الماوردي وهو ضعيف لاستلزامه إخراج جماعة من خيار الصحابة الذين أقاموا مع النبي صضص قليلاً ثم انصرفوا كوائل بن حجر ومالك بن الحويرث وعثمان بن أبي العاص وأمثالهم . قال المزي إنها لم توجد رواية عمن يلمز بالنفاق ، وقال ابن الأنباري وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية عليهم ، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلف بحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا أن يثبت ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك ولله الحمد فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صضص حتى يثبت خلافه ولا التفات إلى ما ذكره أهل السير فإن لا يصح وما يصح فله تأويل صحيح انتهى . وإذا تقرر لك عدالة جميع من ثبتت له الصحبة علمت أنه إذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة ولا يضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم . فرع إذا عرفت أن الصحابة كلهم عدول فلا بد من بيان من يستحق اسم الصحبة ، وقد اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أنه من لقي النبي صضص مؤمناً به ولو ساعة سواء روى عنه أم لا وقيل هو من طالت صحبته وروى عنه فلا يستحق اسم الصحبة إلا من يجمع بينهما ، وقيل هو من ثبت له أحدهما أما قول الصحبة أو الرواية والحق ما ذهب إليه الجمهور وإن كانت اللغة تقتضي أن الصاحب هو من كثرت ملازمته فقد ورد ما يدل على إثبات الفضيلة لمن لم يحصل له منه إلا مجرد اللقاء القليل والرؤية ولو مرة ، وقد ذكر بعض أهل العلم اشتراط الإقامة مع النبي صضص سنة فصاعداً أو الغزو معه روي ذلك عن سعيد بن المسيب وقيل ستة أشهر ولا وجه لهذين القولين لاستلزامهما خروج جماعة من الصحابة الذين رووا عنه ولم يبقوا الدية إلا دون ذلك وأيضاً لا يدل عليهما دليل من لغة ولا شرع وحكى القاضي عياض عن الواقدي أنه يشترط أن يكون بالغاً وهو ضعيف لاستلزامه لخروج كثير من الصحابة الذين أدركوا عصر النبوة ورووا عن النبي صضص ولم يبلغوا إلا بعد موته ولا تشترط الرؤية للنبي صضص لأن من كان أعمى مثل ابن أم مكتوم قد وقع الاتفاق على أنه من الصحابة ، وقد ذكر الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من أهل الأصول أن الخلاف في مثل هذه المسألة لفظي ولا وجه لذلك فإن من قال بالعدالة على العموم ولا يطلب تعديل أحد منهم ومن اشترط في شروط الصحبة شرطاً لا يطلب التعديل مع وجود ذلك الشرط ويطلبه مع عدمه فالخلاف معنوي لا لفظي . فرع آخر ويعرف كون الصحابي صحابياً بالتواتر والاستفاضة وبكون من المهاجرين أو من الأنصار وبخبر صحابي آخر معلوم الصحبة . واختلفوا هل يقبل قوله أنه صحابي أم لا فقال القاضي أبو بكر يقبل لأن وازع العدالة يمنعه من الكذب إذا لم يرو عن غيره ما يعارض قوله وبه قال ابن الصلاح والنووي وتوقف ابن القطان في قبول قوله بأنه صحابي وروي عنه ما يدل على الجزم بعدم القبول ، فقال ومن يدع الصحبة لا يقبل منه حتى نعلم صحبته وإذا علمناها فما رواه فهو على السماع حتى نعلم غيره انتهى . واعلم أنه لا بد من تقييد قول من قال بقبول خبره أنه صحابي بأن تقوم القرائن الدالة على صدق دعواه وإلا لزم قبول خبر كثير من الكذابين الذين ادعوا الصحبة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
==

المقصد الثالث الإجماع وفيه أبحاث البحث الأول : في مسماه لغة واصطلاحاً قال في المحصول الإجماع يقال بالاشتراك على معنيين : أحدهما : العزم قال الله تعالى : فأجمعوا أمركم ، وقال صضص لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل . وثانيهما : الاتفاق ، يقال أجمع القوم على كذا أي صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر انتهى . واعترض على هذا بأن إجماع الأمة يتعدى بعلى والإجماع بمعنى العزيمة لا يتعدى بعلى وأجيب عنه بما حكاه ابن فارس في المقاييس فإنه قال يقال أجمعت على الأمر إجماعاً وأجمعته ، وقد جزم بكونه مشتركاً بين المعنيين أيضاً الغزالي ، وقال القاضي : العزم يرجع إلى الاتفاق لأن من اتفق على شيء فقد عزم عليه ، وقال ابن برهان وابن السمعاني الأول أي العزم أشبه باللغة والثاني أي الاتفاق أشبه بالشرع ويجاب عنه بأن الثاني وإن كان أشبه بالشرع فذلك لا ينافي كونه معنى لغوياً وكون اللفظ مشتركاً بينه وبين العزم قال أبو علي الفارسي : يقال أجمع القوم إذا صاروا ذوي جمع كما يقال ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وتمر . وأما في الاصطلاح فهو اتفاق مجتهدي أمة محمد صضص بعد وفاته في عصر من الأعصار على أمر من الأمور والمراد بالاتفاق الاشتراك إما في الاعتقاد أو في القول أو في الفعل ويخرج بقوله مجتهدي أمة محمد صضص اتفاق العوام فإنه لا عبرة بوفاقهم ولا بخلافهم ويخرج منه أيضاً اتفاق بعض المجتهدين وبالإضافة إلى أمة محمد صضص خرج اتفاق الأمم السابقة ويخرج بقوله بعد وفاته الإجماع في عصره صضص فإن لا اعتبار به ويخرج بقوله في عصر من الأعصار ما يتوهم من أن المراد بالمجتهدين جميع مجتهدي الأمة في جميع الأعصار إلى يوم القيامة فإن هذا توهم باطل لأنه يؤدي إلى عدم ثبوت الإجماع إذا لا إجماع يوم القيامة وبعد يوم القيامة لا حاجة للإجماع والمراد بالعصر عصر من كان من أهل الاجتهاد في الوقت الذي حدثت فيه المسألة فلا يعتد بمن صار مجتهداً بعد حدوثها وإن كان المجتهدون فيها أحياء وقوله على أمر من الأمور يتناول الشرعيات والعقليات والعرفيات واللغويات ومن اشترط في حجية الإجماع انقراض عصر المجتهدين المتفقين على ذلك الأمر زاد في الحد قيد الانقراض ومن اشترط عدم سبق خلاف مستقر زاد في الحد قيد عدم كونه مسبوقاً بخلاف . ومن اشترط عدالة المتفقين أو بلوغهم عدد التواتر زاد في الحد ما يفيد ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
==

البحث الثاني : في إمكان الإجماع في نفسه فقال قوم منهم النظام وبعض الشيعة بإحالة إمكان الإجماع قالوا إن اتفاقهم على الحكم الواحد الذي لا يكون معلوماً بالضرورة محال كما أن اتفاقهم في الساعة الواحدة على المأكول الواحد والتكلم بالكلمة الواحدة محال . وأجيب بأن الاتفاق إنما يمتنع فيما يستوي فيه الاحتمال كالمأكول المعين والكلمة المعينة أما عند الرجحان بقيام الدلالة أو الأمارة الظاهرة فذلك غير ممتنع وذلك كاتفاق الجمع العظيم على نبوة نبينا محمد . قالوا ثانياً أن اتفاقهم فرع تساويهم في نقل الحكم إليهم وانتشارهم في الأقطار يمنع نقل الحكم إليهم . وأجيب بمنع كون الانتشار يمنع ذلك من جدهم في الطلب وبحثهم عن الأدلة وإنما يمتنع ذلك على من قعد في قعر بيته لا يبحث ولا يطلب . قالوا ثالثاً الاتفاق إما عن قاطع أو ظني وكلاماً باطل أما القاطع فلأن العادة تحيل عدم نقله فلو كان لنقل ، فلما لم ينقل علم أنه لم يوجد كيف ولو نقل لأغنى عن الإجماع ، وأما الظني فلأنه يمتنع الاتفاق عادة لاختلاف الأفهام وتباين الأنظار وأجيب بمنع ما ذكر في القاطع إذ قد يستغني عن نقله بحصول الإجماع الذي هو أقوى منه وأما الظني فقد يكون جلياً لا تختلف فيه الأفهام ولا تتباين فيه الأنظار فهذا أعني منع إمكان الإجماع في نفسه هو المقام الأول . المقام الثاني : على تقدير تسليم إمكانه في نفسه منع إمكان العلم به فقالوا لا طريق لنا إلى العلم بحصوله لأن العلم بالأشياء إما أن يكون وجدانياً أما الوجداني فكما يجد أحدنا من نفسه من جوعه وعطشه ولذته وألمه ولا شك أن العلم باتفاق أمة محمد صضص ليس من هذا الباب ، وأما الذي لا يكون وجدانياً فقد اتفقوا على أن الطريق إلى معرفة لا مجال للعقل فيها إذ كون الشخص الفلاني قال بهذا القول أو لم يقل به ليس من حكم العقل بالاتفاق ولا مجال أيضاً للحس فيها لأن الإحساس بكلام الغير لا يكون إلا بعد معرفته فإذا العلم باتفاق الأمة لا يحصل إلا بعد معرفة كل واحد منهم وذلك متعذر قطعاً ومن ذلك الذي يعرف جميع المجتهدين من الأمة في الشرق والغرب وسائر البلاد الإسلامية فإن العمر يفنى دون مجرد البلوغ إلى كل مكان من الأمكنة التي يسكنها أهل العلم فضلاً عن اختيار أحوالهم ومعرفة من هو من أهل الإجماع منهم ومن لم يكن من أهله ومعرفة كونه قال بذلك أو لم يقل به والبحث عمن هو خامل من أهل الاجتهاد بحيث لا يخفى على الناقل فرد من أفرادهم فإن ذلك قد يخفى على الباحث في المدينة الواحدة فضلاً عن الإقليم الواحد فضلاً عن جميع الأقاليم التي فيها أهل الإسلام ومن أنصف من نفسه علم أنه لا علم عند علماء الشرق بجملة علماء الغرب والعكس فضلاً عن العلم بكل واحد منهم على التفصيل وبكيفية مذهبه وبما يقوله في تلك المسألة بعينها وأيضاً قد يحمل بعض من يعتبر في الإجماع على الموافقة وعدم الظهور بالخلاف التقية والخوف على نفسه كما أن ذلك معلوم في كل طائفة من طوائف أهل الإسلام فإنهم قد يعتقدون شيئاً إذا خالفهم فيه مخالف خشي على نفسه من مضرتهم وعلى تقدير إمكان معرفة ما عند كل واحد من أهل بلد وإجماعهم على أمر فيمكن أن يرجعوا عنه أو يرجع بعضهم قبل أن يجمع أهل بلدة أخرى بل لو فرضنا حتماً اجتماع العالم بأسرهم في موضع واحد ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة قائلين قد اتفقنا على الحكم الفلاني فإن هذا مع امتناعه لا يفيد العلم بالإجماع لاحتمال أن يكون بعضهم مخالفاً فيه وسكت تقية وخوفاً على نفسه . وأما ما قيل من أنا نعلم بالضرورة اتفاق المسلمين على نبوة نبينا محمد صضص فإن أراد الاتفاق باطناً وظاهراً مما لا سبيل إليه ألبتة والعلم بامتناعه ضروري وإن أراد ظاهراً فقط استناداً إلى الشهرة والاستفاضة فليس هذا هو المعتبر في الإجماع بل المعتبر فيه العلم بما يعتقده كل واحد من المجتهدين في تلك المسألة بعد معرفة أنه لا حاصل له على الموافقة وأنه يدين الله بذلك ظاهراً وباطناً ولا يمكنه معرفة ذلك منه إلا بعد معرفته بعينه ومن ادعى أنه يتمكن الناقل للإجماع من معرفة كل من يعتبر فيه من علماء الدنيا فقد أسرف في الدعوى وجازف في القول لما قدمنا من تعذر ذلك تعذراً ظاهراً واضحاً ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال : « من ادعى وجوب الإجماع فهو كاذب » . والعجب من اشتداد نكير القاضي أبي بكر على من أنكر تصور وقوع الإجماع عادة فإن إنكاره على المنكر هو المنكر وفصل الجويني بين كليات الدين فلا يمتنع الإجماع عليها وبين المسائل المظنونة قلا يتصور الإجماع عليها عادة ولا وجه لهذا التفصيل فإن النزاع إنما هو في المسائل التي دليلها الإجماع وكليات الدين معلومة بالأدلة القطعية من الكتاب والسنة . وجعل الأصفهاني الخلاف في غير إجماع الصحابة وقال الحق تعذر الاطلاع على الإجماع لا إجماع الصحابة حيث كان المجمعون وهم العلماء منهم في قلة وأما الآن وبعد انتشار الإسلام وكثرة العلماء فلا مطمع للعمل به قال وهو اختيار أحمد مع قرب عهده من الصحابة وقوة حفظه وشدة اطلاعه على الأمور النقلية قال والمصنف يعلم أنه لا خبر له من الإجماع إلا ما يجده مكتوباً في الكتب ومن البين أنه لا يحصل الاطلاع عليه إلا بالسماع منهم أو بنقل أهل التواتر إلينا ولا سبيل إلى ذلك إلا في عصر الصحابة وأما من بعدهم فلا . انتهى . المقام الثالث : النظر في نقل الإجماع إلى من يحتج به قالوا لو سلمنا إمكان ثبوت الإجماع عند الإجماع عند الناقلين له لكان نقله إلى من يحتج به من بعدهم مستحيل لأن طريق نقله إما التواتر أو الآحاد والعادة تحيل النقل تواتر البعد أن يشاهد أهل التواتر كل واحد من المجتهدين شرقاً وغرباً ويسمعوا ذلك منهم ثم ينقلوه إلى عدد متواتر ممن بعدهم ثم كذلك في كل طبقة إلى أن يتصل به وأما الآحاد فغير معمول به في نقل الإجماع كما سيأتي . وأجيب بأنه تشكيك في ضروري للقطع بإجماع أهل كل عصر على تقديم القاطع على المظنون ولا يخفاك ما في هذا الجواب من المصادرة على المطلوب وأيضاً كون ذلك معلوماً ليس من جهة نقل الإجماع عليه بل من جهة كون كل متشرع لا يقدم الدليل الظني على القطعي ولا يجوز منه ذلك لأن إيثار للحجة الضعيفة على الحجة القوية وكل عاقل لا يصدر منه ذلك . المقام الرابع : اختلف على تقدير تسليم إمكانه في نفسه وإمكان العلم به وإمكان نقله إلينا هل هو حجة شرعية فذهب الجمهور إلى كونه حجة وذهب النظام والإمامية وبعض الخوارج إلى أن ليس بحجة وإنما الحجة مستندة أن ظهر لنا وإن لم يظهر لم نقدر للإجماع دليلاً تقوم به الحجة . واختلف القائلون بالحجية هل الدليل على حجيته العقل والسمع أم السمع فقط فذهب أكثرهم إلى أن الدليل على ذلك إنما هو السمع فقط ومنعوا ثبوته من جهة العقل . قالوا لأن العدد الكثير وإن بعد في العقل اجتماعهم على الكذب فلا يبعد اجتماعهم على الخطأ كاجتماع الكفار على جحد النبوة ، وقال جماعة منهم أيضاً أنه لا يصح الاستدلال على ثبوت الإجماع بالإجماع كقولهم إنهم أجمعوا على تخطئة المخالف للإجماع لأن ذلك إثبات للشيء بنفسه وهو باطل فإن قالوا إن الإجماع دل على نص قاطع في تخطئة المخالف ففيه إثبات الإجماع بنص يتوقف على الإجماع وهو دور . وأجيب بأن ثبوت هذه الصورة من الإجماع ودلالتها على وجود النص لا يتوقف على كون الإجماع حجة فلا دور ولا يخفاك ما في هذا الجواب من التعسف الظاهر ولا يصح أيضاً الاستدلال عليه بالقياس لأنه مظنون ولا يحتج بالمظنون على القطعي فلم يبق إلا دليل النقل من الكتاب والسنة . فمن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين قوله : ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً ووجه الاستدلال بهذه الآية أنه سبحانه جمع بين مشاقة الرسول وأتباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد فلو كان اتباع غير سبيل المؤمنين مباحاً لما جمع بينه وبين المحظور فثبت أن متابعة غير سبيل المؤمنين عبارة عن متابعة قول أو فتوى يخالف قولهم أو فتواهم وإذا كانت تلك محظورة وجب أن تكون متابعة قولهم وفتواهم واجبة . وأجيب بأنا لا نسلم أن المراد بسبيل المؤمنين في الآية هو إجماعهم لاحتمال أن يكون المراد سبيلهم في متابعة الرسول صضص أو في مناصرته أو في الاقتداء به أو فيما به صاروا مؤمنين وهو الإيمان به ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال . قال في المحصول أن المشاقة عبارة عن الكفر بالرسول وتكذيبه وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل بالإجماع عند تكذيب الرسول وذلك باطل لأن العلم بصحة الإجماع متوقف على العلم بالنبوة . ويجاب بأن العمل به حال عدم العلم بالنبوة يكون تكليفاً بالجمع بين الضدين وهو محال ثم قال لا نسلم أنه إذا كان اتباع غير سبيل المؤمنين حراماً عند المشاقة كان اتباع سبيل المؤمنين واجباً عند المشاقة لأن بين القسمين ثالثاً وهو عدم الاتباع أصلاً . سلمنا أنه يجب اتباع سبيل المؤمنين عند المشاقة ولكن لا نسلم أنه ممتنع قوله المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر بيانه أن المشاقة مشتقة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في الشق الآخر وذلك يكفي فيه أصل المخالفة سواء بلغ حد الكفر أو لم يبلغه . سلمنا أن المشاقة لا تحصل إلا عند الكفر فلم قلتم إن حصول الكفر ينافي العمل بالإجماع فإن الكفر بالرسول كما يكون بالجهل بكونه صادقاً فقد يكون أيضاً بأمور أخر كشد الزنار ولبس الغيار وإلقاء المصحف في القاذورات والاستخفاف بالنبي صضص مع الاعتراف بكونه نبياً وإنكار نبوته باللسان مع العلم بكونه نبياً وشيء من هذه الأنواع كفر لا ينافي العلم بوجوب الإجماع . ثم قال سلمنا أن الآية تقتضي المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين لا بشرط مشاقة الرسول لكن بشرط تبين الهدى لأنه ذكر مشاقة الرسول صضص فيها تبين الهدى ثم عطف عليها اتباع غير سبيل المؤمنين فيجب أن يكون تبين الهدى شرطاً في التوعد على اتباع غير سبيل المؤمنين إلا عند تبين جميع أنواع الهدى ومن جملة أنواع الهدى ذلك الدليل الذي لأجله ذهب أهل الإجماع إلى ذلك الحكم وعلى هذا التقدير لا يبقى للتمسك بالإجماع فائدة أيضاً فالإنسان إذا قال لغيره إذا تبين لك صدق فلان فاتبعه . فهم منه تبين صدق قوله بشيء غير قوله فكذا هنا وجب أن يكون تبين صحة إجماعهم بشيء ورآه الإجماع وإذا كنا لا نتمسك بالإجماع إلا بعد دليل منفصل على صحة ما أجمعوا عليه لم يبق للتمسك بالإجماع فائدة . سلمنا أنها تقتضي المنع عن متابعة غير سبيل المؤمنين ولكن هل المراد عن كل ما كان غير سبيل المؤمنين أو عن متابعة بعض ما كان كذلك الأول ممنوع وبتقدير التسليم فالاستدلال ساقط أما المنع فلأن لفظ الغير ولفظ السبيل كل واحد منهما لفظ مفرد فلا يفيد العموم وأما بتقدير التسليم فالاستدلال ساقط لأنه يصير معنى الآية أن من اتبع كل ما كان مغايراً لكل ما كان سبيل المؤمنين يستحق العقاب والثاني مسلم ونقول بموجبه فإن عندنا يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين وهو السبيل الذي صاروا به مؤمنين والذي يغايره هو الكفر بالله وتكذيب الرسول صضص وهذا التأويل متعين لوجهين : لأنا إذا قلنا لا تتبع غير سبيل الصالحين فهم منه المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما صاروا به صالحين ولا يفهم منه المنع من متابعة سبيل غير الصالحين في كل شيء حتى الأكل والشرب . والثاني : أن الآية أنزلت في رجل ارتد وذلك يدل على أن الغرض منها المنع من الكفر ، والثاني أن الآية غير سبيلهم مطلقاً لكن لفظ السبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه المشي وهو غير مراد هنا بالاتفاق فصار الظاهر متروكاً ولا بد من صرفه إلى المجاز وليس البعض أولى من البعض فتبقى الآية مجملة وأيضاً فإنه لا يمكن جعله مجازاً عن اتفاق الأمة على الحكم لأنه لا مناسبة ألبتة بين الطريق المسلوك وبين اتفاق أمة محمد صضص على شيء من الأحكام وشرط حسن التجوز حصول المناسبة . سلمنا أنه يجوز جعله مجازاً عن ذلك الاتفاق لكن يجوز أيضاً جعله مجازاً عن الدليل الذي لأجله اتفقوا على ذلك الحكم فإنهم إذا أجمعوا على الشيء فإما أن يكون الإجماع عن استدلال فقد حصل لهم سبيلان الفتوى والاستدلال عليه فلم كان حمل الآية على الفتوى أولى من حملها على الاستدلال بل هذا أولى فإن بين الدليل الذي يدل على ثبوت الحكم وبين الطريق الذي يحصل فيه المشي مشابهة فإنه كما أن الحركة البدنية في الطريق المسلوكة توصل البدن إلى المطلوب هكذا الحركة الذهنية في مقدمات ذلك الدليل موصلة للذهن إلى المطلوب والمشابهة إحدى جهات حسن المجاز . وإذا كان كذلك كانت الآية تقتضي إيجاب أتباعها في سلوك الطريق الذي لأجله اتفقوا على الحكم ويرجع حاصله إيجاب الاستدلال بما استدلوا به على ذلك الحكم وحينئذ يخرج الإجماع عن كونه حجة ، وأما إن كان إجماعهم لا عن استدلال فالقول لا عن استدلال خطأ فيلزم إجماعهم على الخطأ وذلك يقدح في صحة الإجماع . ثم قال سلمنا دلالة الآية على وجوب المتابعة لكنها إما أن تدل على متابعة بعض المؤمنين أو كلهم الأول باطل لأن لفظ المؤمنين جمع فيفيد الاستغراق لأن إجماع البعض غير معتبر بالإجماع ولأن أقوال الفرق متناقضة والثاني مسلم ولكن كل المؤمنين الذين يوجدون إلى يوم القيامة فلا يكون الموجودون في العصر كل المؤمنين فلا يكون إجماعهم إجماع كل المؤمنين . فإن قلت المؤمنون هم المصدقون والموجودون ، وأما الذين لم يوجودا بعد فليسوا المؤمنين . قلت إذا وجد أهل العصر الثاني لا يصح القول بأن أهل العصر الأول هم كل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول عند حضور أهل العصر الثاني قولاً لكل المؤمنين فلا يكون إجماع أهل العصر الأول حجة على أهل العصر الثاني . سلمنا أن أهل العصر هم كل المؤمنين لكن الآية إنما نزلت في زمان الرسول صضص فتكون الآية مختصة بمؤمني ذلك الوقت وهذا يقتضي أن يكون إجماعهم حجة لكن التمسك بالإجماع إنما ينفع بعد وفاة الرسول صضص فمهما لم يثبت أن الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية بقوا بأسرهم إلى بعد وفاة الرسول صضص وأنها اتفقت كلمتهم على الحكم الواحد لم تدل هذه الآية على صحة ذلك الإجماع ولكن ذلك غير معلوم في شيء من الاجتماعات الموجودة في المسائل بل المعلوم خلافه لأن كثيراً منهم مات زمان حياة النبي صضص فسقط الاستدلال بهذه الآية . ثم قال سلمنا دلالة الآية على كون الإجماع حجة لكن دلالة قطعية أم ظنية الأول ممنوع والثاني مسلم لكن المسألة قطعية فلا يجوز التمسك فيها بالأدلة الظنية . قال فإن قلت أنا نجعل هذه المسألة ظنية قلت إن أحداً من الأئمة لم يقل إن الإجماع المنعقد بصريح القول دليل ظني بل كلهم نفوا ذلك فإن منهم من نفى كونه دليلاً أصلاً ومنهم من جعله دليلاً قاطعاً فلو اقتناه دليلاً ظنياً لكان هذا تخطئة لكل الأمة وذلك يقدح في الإجماع . والعجب من الفقهاء أنهم أثبتوا الإجماع بعمومات الآيات والأخبار وأجمعوا على أن المنكر لما تدل عليه العمومات لا يكفر ولا يفسق إذا كان ذلك الإنكار لتأويل ثم يقولون الحكم الذي دل عليه الإجماع مقطوع ومخالفة كافر وفاسق فكأنهم قد جعلوا الفرع أقوى من الأصل وذلك غفلة عظيمة . سلمنا دلالة هذه الآية على أن الإجماع حجة لكنها معارضة بالكتاب والسنة والعقل . أما الكتاب فكل ما فيه منع لكل الأمة من القول الباطل والفعل الباطل كقوله : وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل والنهي عن الشيء لا يجوز إلا إذا كان المنهى عنه متصوراً . وأما السنة فكثير منها قصة معاذ فإنه لم يجر فيها ذكر الإجماع ولو كان ذلك مدرجاً شرعياً لما جاز الإخلال بذكره عند اشتداد الحاجة إليه لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ومنها قوله صضص لا تقوم الساعة إلا على شرار أمتي ومنها قوله صضص لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض وقوله صضص إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا وقوله صضص : تعلموا الفرائض وعلموها فإنها أول ما ينسى ، وقوله صضص : من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل . وهذه الأحاديث بأسرها تدل على خلو الزمان عمن يقوم بالواجبات . وأما المعقول فمن وجهين : الأول : أن كل واحد من الأمة جاز الخطأ عليه فوجب جوازه على الكل كما أنه لما كان كل واحد من الزنج أسود كان الكل أسود . الثاني : أن ذلك الإجماع إما أن يكون لدلالة أو لأمارة فإن كان لدلالة فالواقعة التي أجمع عليها كل علماء العالم تكون واقعة عظيمة ومثل هذه الواقعة مما تتوفر الدواعي على نقل الدليل القاطع الذي لأجله أجمعوا وكان ينبغي اشتهار تلك الدلالة وحينئذ لا يبقى في التمسك بالإجماع فائدة وإن كان لأمارة فهو محال لأن الأمارات يختلف حال الناس فيها فيستحيل اتفاق الخلق على مقتضاها ولأن في الأمة من لم يقل بقول الأمارة حجة فلا يمكن اتفاقهم لأجل الأمارة على الحكم وإن كان لا لدلالة ولا لأمارة كان ذلك خطأ بالإجماع فلو اتفقوا عليه لكانوا متفقين على الباطل وذلك قادح في الإجماع هذا كلام صاحب المحصول وقد أسقطنا منه ما فيه ضعف وما اشتمل على تعسف وفي الذي ذكرناه ما يحتمل المناقشة وقد أجاب عن هذا الذي ذكرناه عنه بجوابات متعسفة يستدعي ذكرها ذكر الجواب عليها منا فيطول البحث جداً ولكنك إذا عرفت ما قدمناه كما ينبغي علمت أن الآية لا تدل على مطلوب المستدلين بها . ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس فأخبر سبحانه عن كون هذه الأمة وسطاً والوسط من كل شيء خياره فيكون تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأمة ، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة . لا يقال الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وخلاف ذلك معلوم بالضرورة لأنا نقول يتعين تعديلهم فيما يجتمعون عليه وحينئذ تجب عصمتهم عن الخطأ قولاً وفعلاً . هذا تقرير الاستدلال بهذه الآية . وأجيب بأن عدالة الرجل عبارة عن قيامه بأداء الواجبات واجتناب المقبحات وهذا من فعله وقد أخبر سبحانه أنه جعلهم وسطاً فاقتضى ذلك أن كونهم وسطاً من فعل الله وذلك يقتضي أن يكون غير عدالتهم التي ليست من فعل الله وأجيب أيضاً بأن الوسط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين ، فجعله حقيقة في العدل يقتضي الاشتراك وهو خلاف الأصل . سلمنا أن الوسط من كل شيء خياره فلم قلتم بأن خبر الله تعالى عن خيريتهم يقتضي اجتنابهم لكل المحظورات ولم لا يقال إنه يكفي فيه اجتنابهم للكبائر وأما الصغائر فلا ؟ وإذا كان كذلك فيحتمل أن الذي أجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم . ومما يؤيد هذا أنه سبحانه حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة . سلمنا أن المراد اجتنابهم الصغائر والكبائر لكنه سبحانه قد بين أن اتصافهم بذلك ليكونوا شهداء على الناس ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تكون في الآخرة فيجب وجوب تحقق عدالتهم هنالك لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حال الأداء لا حال التحمل ، سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا لكن المخاطب بهذا الخطاب هم الذين كانوا موجودين عند نزول الآية وإذا كان كذلك فهذا يقتضي عدالة أولئك دون غيرهم . وقد أجيب عن هذا الجواب بأن الله سبحانه عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد إلا والمخبر عنه مطابق للخبر فلما أطلق الله سبحانه القول بعدالتهم وجب أن يكونوا عدولاً في كل شيء بخلاف شهود الحاكم حيث تجوز شهادتهم وإن جازت عليهم الصغيرة لأنه لا سبيل للحاكم إلى معرفة الباطن فلا جرم اكتفى بالظاهر . وقوله الغرض من هذه العدالة أداء هذه الشهادة في الآخرة وذلك يوجب عدالتهم في الآخرة لا في الدنيا يقال لو كان المراد صيرورتهم عدولاً في الآخرة لقال سنجعلكم أمة وسطاً ولأن جميع الأمم عدول في الآخرة فلا يبقى في الآية تخصيص لأمة محمد صضص بهذه الفضيلة وكونه الخطاب لمن كان موجوداً عند نزول الآية ممنوع وإلا لزم اختصاص التكاليف الشرعية بمن كان موجوداً عند النزول وهو باطل . ولا يخفاك ما في هذه الأجوبة من الضعف وعلى كل حال فليس في الآية دلالة على محل النزاع أصلاً فإن ثبوت كون أهل الإجماع بمجموعهم عدولاً لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية نعم بها البلوى فإن ذلك أمر إلى الشارع لا إلى غيره وغاية ما في الآية أن يكون قولهم مقبولاً إذا أخبرونا عن شيء من الأشياء وأما كون اتفاقهم على أمر ديني يصير ديناً ثابتاً عليهم وعلى من بعدهم إلى يوم القيامة فليس في الآية ما يدل على هذا ولا هي مسوقة لهذا المعنى ولا تقتضيه بمطابقة ولا تضمن ولا التزام . ومن جملة ما استدلوا به قوله سبحانه كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وهذه الخيرية توجب الحقيقة لما أجمعوا عليه وإلا كان ضلالاً فماذا بعد الحق إلا الضلال وأيضاً لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر وناهين عن المعروف وهو خلاف المنصوص والتخصيص بالصحابة لا يناسب وروده في مقابلة أمم سائر الأنبياء . وأجيب بأن الآية مهجورة الظاهر لأنها تقتضي اتصاف كل واحد منهم بهذا الوصف والمعلوم خلافه ولو سلمنا ذلك لم نسلم أنهم يأمرون بكل معروف هكذا قيل في الجواب ولا يخفاك أن الآية لا دلالة لها على محل النزاع ألبتة فإن اتصافهم بكونهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يستلزم أن يكون قولهم حجة شرعية تصير ديناً ثابتاً على كل الأمة بل المراد أنهم يأمرون بما هو معروف في هذه الشريعة وينهون عما هو منكر فيها فالدليل على كون ذلك الشيء معروفاً أو منكراً هو الكتاب أو السنة لا إجماعهم غاية ما في الباب إن إجماعهم يصير قرينة على أن في الكتاب والسنة ما يدل على ما أجمعوا عليه وإما إنه دليل بنفسه فليس في هذه الآية ما يدل على ذلك . ثم الظاهر أن المراد من الأمة هذه الأمة بأسرها لا أهل عصر من العصور بدليل مقابلتهم بسائر أمم الأنبياء فلا يتم الاستدلال بها على محل النزاع وهو إجماع المجتهدين في عصر من العصور . ومن جملة ما استدلوا به من السنة ما أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر عنه صضص أنه قال لن تجتمع أمتي على الضلالة وتقرير الاستدلال بهذا الحديث أن عمومه ينفي وجود الضلالة والخطأ ضلالة فلا يجوز الإجماع عليه فيكون ما أجمعوا عليه حقاً . وأخرج أبو داود عن أبي مالك الأشعري عنه صضص أنه قال : إن الله أجاركم من ثلاث خلال أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا وأن لا يظهر أهل الباطل على أهل الحق وأن لا تجتمعوا على ضلالة . وأخرجه الترمذي عن ابن عمر عنه صضص أنه قال : لا تجتمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار . وأخرج ابن أبي عاصم عن أنس مرفوعاً نحوه بدون قوله ويد الله مع الجماعة الخ ويجاب عنه بمنع كون الخطأ المظنون ضلالة . وأخرج البخاري ومسلم من حديث المغيرة أنه صضص قال : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي وابن ماجة من حديث ثوبان ، وأخرج نحوه مسلم أيضاً من حديث عقبة بن عامر . ويجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه أنه صضص أخبر عن طائفة من أمته بأنهم يتمسكون بما هو الحق ويظهرون على غيرهم فأين هذا من محل النزاع ؟ ثم قد ورد تعيين هذا الأمر الذي يتمسكون به ويظهرون على غيرهم بسببه فأخرج مسلم من حديث عقبة مرفوعاً لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون عن أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك وأخرجه بنحو هذا اللفظ أحمد وأبو داود من حديث عمران بن حصين ، وأخرجه مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعاً لزهير : لا يزال هذا الدين قائماً تقاتل عنه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ومن جملة ما استدلوا به حديث من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم في مستدركه من حديث أبي ذر وليس في إلا المنع من مفارقة الجماعة فأين هذا من محل النزاع وهو كون ما أجمعوا عليه حجة ثابتة شرعية وكتاب الله وسنة رسوله موجودان بين أظهرنا وقد وصف الله سبحانه كتابه بقوله : ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء فلا يرجع في تبيين الأحكام إلا إليه وقوله سبحانه فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول والرد إلى الله الرد إلى كتابه والرد إلى الرسول الرد إلى سنته . والحاصل أنك إذا تدبرت ما ذكرناه في هذه المقامات وعرفت ذلك حق معرفته تبين لك ما هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة ولو سلمنا جميع ما ذكره القائلون بحجية الإجماع وإمكانه وإمكان العلم به فغاية ما يلزم من ذلك أن يكون ما أجمعوا عليه حقاً ولا يلزم من كون الشيء حقاً وجوب اتباعه كما قالوا أن كل مجتهد مصيب ولا يجب على مجتهد آخر اتباعه في ذلك الاجتهاد بخصوصه . وإذا تقرر لك هذا علمت ما هو الصواب وسنذكر ما ذكره أهل العلم في مباحث الإجماع من غير تعرض لدفع ذلك اكتفاء بهذا الذي حررناه هنا .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .
======



البحث الثالث : اختلف القائلون بحجية الإجماع هل هو حجة قطعية أو ظنية ؟ فذهب جماعة منهم إلى أنه حجة قطعية وبه قال الصيرفي وابن برهان وجزم به من الحنفية الدبوسي وشمس الأئمة ، وقال الأصفهاني أن هذا القول هو المشهور وأنه يقدم الإجماع على الأدلة كلها ولا يعارضه دليل أصلاً ونسبه إلى الأكثرين . قال بحيث يكفر مخالفه أو يضلل يبدع وقال جماعة منهم الرازي والآمدي أنه لا يفيد إلا الظن ، وقال جماعة بالتفصيل بين ما اتفق عليه المعتبرون فيكون حجة قطعية وبين ما اختلفوا فيه كالسكوتي وما ندر مخالفه فيكون حجة ظنية ، وقال البزدوي وجماعة من الحنفية الإجماع مراتب فإجماع الصحابة مثل الكتاب والخبر المتواتر وإجماع من بعدهم بمنزلة المشهور من الأحاديث والإجماع الذي سبق فيه الخلاف في العصر السابق بمنزلة خبر الواحد واختار بعضهم في الكل أنه ما يوجب العمل لا العلم فهذه مذاهب أربعة ، ويتفرع عليها الخلاف في كونه يثبت بأخبار الآحاد والظواهر أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت بهما قال القاضي في التقريب وهو الصحيح وذهب جماعة إلى ثبوته بهما في العمل خاصة ولا ينسخ به قاطع كالحال في أخبار الآحاد وقال دل الدليل على قبولها في العمليات ، وأجاب الجمهور عن هذا بأن أخبار الآحاد قد دل الدليل على قبولها ولم يثبت مثل ذلك في الإجماع فإن ألحقناه بها كان إلحاقاً بطريق القياس وصحح هذا القول عبد الجبار والغزالي . قال الرازي في المحصول الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة خلافاً لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعاً للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياساً على السنة ولأنا قد بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكيف القول في تفاصيله ؟ انتهى . قال الآمدي والمسألة دائر على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعاً به وعلى عدم اشتراطه فمن شرط القطع منع أن يكون خبر الواحد مفيداً في نقل الإجماع ومن لم يشترط لم يمنع وكلام الجويني يشعر بأن الخلاف ليس مبنياً على هذا الأصل بل هو جار مع القول بأن أصل الإجماع ظني وإذا قلنا بالاكتفاء بالآحاد في نقله كالسنة فهل ينزل الظن المتلقي من أمارات وحالات منزلة الظن الحاصل من نقل العدول ، قال ابن الأنباري فيه خلاف .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث الرابع : اختلفوا فيما ينعقد به الإجماع فقال جماعة لا بد من مستند لأن أهل الإجماع ليس لهم الاستقلال بإثبات الأحكام فوجب أن يكون عن مستند ولأنه لو انعقد عن غير مستند لاقتضى إثبات نوع بعد النبي صضص وهو باطل ، وحكى عبد الجبار عن قوم أنه يجوز أن يكون عن غير مستند وذلك بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من دون مستند وهو ضعيف لأن القول في دين الله لا يجوز بغير دليل . وذكر الآمدي أن الخلاف في الجواز لا في الوقوع ورد عليه بأن ظاهر الخلاف في الوقوع قال الصيرفي ويستحيل أن يقع الإجماع بالتواطؤ ولهذا كانت الصحابة لا يرضى بعضهم من بعض بذلك بل يتباحثون حتى أحوج بعضهم القول في الخلاف إلى المباهلة فثبت أن الإجماع لا يقع منهم إلا عن دليل . وجعل الماوردي والروياني أصل الخلاف هل الإلهام دليل أم لا ؟ وقد اتفق القائلون بأنه لا بد له من مستند إذا كان عن دلالة واختلفوا فيما إذا كان عن أمارة فقيل بالجواز مطلقاً سواء كانت الأمارة جلية أو خفيفة قال الزركشي في البحر ونص عليه الشافعي فجوز الإجماع عن قياس وهو قول الجمهور قال الروياني وبه قال عامة أصحابنا وهو المذهب قال ابن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز وقوع الإجماع عنه في قياس المعنى على المعنى وأما قياس الشبه فاختلفوا فيه على وجهين وإذا وقع عن الأمارة وهي المفيد للظن وجب أن يكون الظن صواباً للدليل على العصمة . والثاني : المنع مطلقاً وبه قال الظاهرية ومحمد بن جرير الطبري فالظاهرية منعوه لأجل إنكارهم القياس ، وأما ابن جرير فقال القياس حجة ولكن الإجماع إذا صدر عنه لم يكن مقطوعاً بصحته واحتج ابن القطان على ابن جرير بأنه قد وافق على وقوعه عن خبر الواحد وهم مختلفون فيه فكذلك القياس . ويجاب عنه بأن خبر الواحد قد أجمعت عليه الصحابة بخلاف القياس . والمذهب الثالث : التفصيل بين كون الأمارة جلية فيجوز انعقاد الإجماع عنها أو خفية فلا يجوز حكاه ابن الصباغ عن بعض الشافعية . والمذهب الرابع : أنه لا يجوز الإجماع إلا عن أمارة ولا يجوز عن دلالة للاستغناء بها عنه حكاه السمرقندي في الميزان عن مشايخهم وهو قادح فيما نقله البعض من الإجماع على جواز انعقاد الإجماع عن دلالة . ثم اختلف القائلون يجوز انعقاد الإجماع عن غير دليل هل يكون حجة فذهب الجمهور إلى أنه حجة ، وحكى ابن فورك وعبد الوهاب وسليم الرازي عن قوم منهم أنه لا يكون حجة ثم اخنلفوا هل يجب على المجتهد أن يبحث عن مستند الإجماع أم لا ؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق لا يجب على المجتهد طلب الدليل الذي وقع الإجماع به فإن ظهر له ذلك أو نقل إليه كان أحد أدلة المسألة . قال أبو الحسن السهيلي : إذا أجمعوا على حكم ولم يعلم أنهم أجمعوا عليه من دلالة آية أو قياس أو غيره يجب المصير إليه لأنهم لا يجمعون إلا من دلالة ولا يجب معرفتها . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث الخامس : هل يعتبر في الإجماع المجتهد المبتدع إذا كانت بدعته تقتضي تكفيره فقيل لا يعتبر في الإجماع . قال الزركشي بلا خلاف لعدم دخوله في مسمى الأمة المشهود لهم بالعصمة وإن لم يعلم هو كفر نفسه . قال الصفي الهندي لو ثبت لكان لا يمكن الاستدلال بإجماعنا على كفره بسبب ذلك الاعتقاد لأنه إنما ينعقد إجماعنا وحده على كفره وإثبات كفره بإجماعنا وحده دور ، وأما إذا وافقنا هو على ما ذهب إليه كفر فحينئذ يثبت كفره لأن قوله معتبر في الإجماع لكونه من أهل الحل والعقد . قال الهندي وهو الصحيح . الثاني : لا يعتبر . قال الأستاذ أبو منصور قال أهل السنة لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة وهكذا رواه أشهب عن مالك ورواه العباس بن الوليد عن الأوزاعي ، ورواه أبو سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن وحكاه أبو ثور عن أئمة الحديث قال أبو بكر الصيرفي ولا يخرج عن الإجماع من كان من أهل العلم ، وإن اختلفت بهم الأهواء كمن قال بالقدر ومن رأى الأرجاء وغير ذلك من اختلاف آراء أهل الكوفة والبصرة إذا كان من أهل الفقه فإذا قيل قالت الخطابية والرافضة كذا لم يلتفت إلى هؤلاء في الفقه لأنهم ليسوا من أهله ، قال ابن القطان الإجماع عندنا إجماع أهل القلم ، فأما من كان من أهل الأهواء فلا مدخل له فيه . قال قال أصحابنا في الخوارج لا مدخل لهم في الإجماع والاختلاف لأنهم ليس لهم أصل ينقلون عنه لأنهم يكفرون سلفنا الذين أخذنا عنهم أصل الدين . وممن اختار أنه لا يعتد به من الحنفية أبو بكر الرازي ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى واستقرأه من قول أحمد لقوله لا يشهد عندي رجل ليس هو عندي بعدل وكيف أجوز حكمه . قال القاضي يعني الجهمي : القول الثالث : أنه لا ينعقد عليه الإجماع ، وينعقد على غيره يعني أنه يجوز له مخالفة من عداه إلى ما أدى إليه اجتهاده ولا يجوز لأحد أن يقلده كذا حكاه الآمدي وتابعه المتأخرون . القول الرابع : التفصيل بين من كان من المجتهدين المبتدعين داعية فلا يعتبر في الإجماع وبين من لم يكن داعية فيعتبر حكاه ابن حزم في كتاب الأحكام ونقله عن جماهير سلفهم من المحدثين قال وهو قول فاسد لأنا نراعي العقيدة . قال القاضي أبو بكر والأستاذ أبو إسحاق أنه لا يعتد بخلاف من أنكر القياس ونسبه إلى الجمهور وتابعهم إمام الحرمين والغزالي قالوا لأن من أنكر لا يعرف طرق الاجتهاد ، وإنما هو متمسك بالظواهر فهو كالعامي الذي لا معرفة له ، ولا يخفاك أن هذا التعليل يفيد خروج من عرف القياس وأنكر العمل به كما كان من كثير من الأئمة فإنهم أنكروه عن علم به لا عن جهل له . قال الننوي في باب السواك من شرح مسلم إن مخالفة داود لا تقدح في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه الأكثرون والمحققون ، وقال صاحب المفهم جل الفقهاء والأصوليين أنه لا يعتد بخلافهم بل هم من جملة العوام وأن من اعتد بهم فإنما ذلك لأن مذهبه أنه يعتبر خلاف العوام في انعقاد الإجماع والحق خلافه ، وقال القاضي وعبد الوهاب في الملخص يعتبر كما يعتبر خلاف من ينفي المراسيل ويمنع العموم ومن حمل الأمر على الوجوب لأن مدار الفقه على هذه الطرق ، وقال الجويني المحققون لا يقيمون لخلاف الظاهرية وزناً لأن معظم الشريعة صادرة عن الاجتهاد ولا تفي النصوص بعضر معاشرها . ويجاب عنه بأن من عرف نصوص الشريعة حق معرفتها وتدبر آيات الكتاب العزيز وتوسع في الاطلاع على السنة المطهرة علم بأن نصوص الشريعة جمع جم ولا عيب لهم إلا ترك العمل بالآراء الفاسدة التي لم يدل عليها كتاب ولا سنة ولا قياس مقبول . وتلك شكاة ظاهر عنك عارها . نعم قد جمدوا في مسائل كان ينبغي لهم ترك الجمود عليها ، ولكنها بالنسبة إلى ما وقع في مذهب غيرهم من العمل بما لا دليل عليه ألبتة قليلة جداً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث السادس : إذا أدرك التابعي عصر الصحابة وهو من أهل الاجتهاد لم ينعقد إجماعهم إلا به كما حكاه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني وأبو الحسن السهيلي ، قال القاضي عبد الوهاب أنه الصحيح ونقله السرخسي من الحنفية عن أكثر أصحابهم . قال ولهذا قال أبو حنيفة لا يثبت إجماع الصحابة في الأشعار لأن إبراهيم النخعي كان يكرهه وهو ممن أدرك عصر الصحابة فلا يثبت إجماعهم بدون قوله والوجه في هذا القول أن الصحابة عند إدراك بعض مجتهدي التابعين فيهم هم بعض الأمة لا كلها ، وقد سئل ابن عمر عن فريضة ، فقال اسألوا ابن جبير فإنه أعلم بها وكان أنس يسأل فيقول سلوا مولانا الحسن فإنه سمع وسمعنا وحفظ ونسينا . وسئل ابن عباس عن دلج الولد فأشار إلى مسروق ، فلما بلغه جوابه تابعه عليه ، وقال جماعة إنه لا يعتبر المجتهد التابعي الذي أدرك عصر الصحابة في إجماعهم وهو مروي عن إسماعيل بن علية ونفاه القياس وحكاه الباجي عن ابن خواز منداد واختاره ابن برهان في الوجيز . وقيل إن بلغ التابعي رتبة الاجتهاد في عصر الصحابة ، ثم وقعت حادثة فأجمعوا عليها وخالفهم لم ينعقد إجماعهم ، وإن أجمعوا قبل بلوغه رتبة الاجتهاد فمن اعتبر انقرض العصر اعتد بخلافه ومن لم يعتبره لم يعتد بخلافه ، وقال القفال إذا عاصرهم وهو غير مجتهد ثم اجتهد ففيه وجهان يعتبر ولا يعتبر . قال بعضهم أنه إذا تقدم الصحابة على اجتهاد التابعي فهو محجوج بإجماعهم قطعاً ، قال الآمدي القائلون بأنه لا ينعقد إجماعهم دونهم اختلفوا فمن لم يشترط انقراض العصر قال إن كان من أهل الاجتهاد قبل إجماع الصحابة لم ينعقد إجماعهم وإلا لم يعتد بخلافه ، قال وهذا مذهب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة وهي رواية عن أحمد ومن اشترط انقراض العصر ، قال لا ينعقد إجماع الصحابة به مع مخالفته وإن بلغ الاجتهاد حال انعقاد إجماعهم أو بعد ذلك في عصرهم قال وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلاً وهو مهب بعض المتكلمين وأحمد بن حنبل في الرواية الأخرى . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث السابع : إجماع الصحابة حجة بلا خلاف ونقل القاضي عبد الوهاب عن قوم من المبتدعة أن إجماعهم ليس بحجة ، وقد ذهب إلى اختصاص حجية الإجماع بإجماع الصحابة داود الظاهري وهو ظاهر كلام ابن حبان في صحيحه وهذا هو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل فإنه قال في رواية أبي داود عنه الإجماع أن يتبع ما جاء عن النبي صضص وعن أصحابه وهو في التابعين مخير ، وقال أبو حنيفة إذا أجمعت الصحابة على شيء سلمنا وإذا أجمع التابعون زاحمناهم . قال أبو الحسن السهيلي في أدب الجدل النقل عن داود بما إذا أجمعوا على حكم من جهة القياس فاختلفوا فيه ، وقال ابن وهب ذهب داود وأصحابنا إلى أن الإجماع إنما هو إجماع الصحابة فقط وهو قول لا يجوز خلافه لأن الإجماع إنما يكون عن توقيف والصحابة هم الذين شهدوا التوقيف . فإن قيل فما تقولون في إجماع من بعدهم قلنا هذا لا يجوز لأمرين أحدهما أن النبي صضص أنبأ عن ذلك ، فقال لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين والثاني أن تسعة أقطار الأرض وكثرة العدد لا تمكن من ضبط أقوالهم ومن ادعى هذا لا يخفي على أحد كذبه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث الثامن : إجماع أهل المدينة على انفرادهم ليس بحجة عند الجمهور لأنهم بعض الأمة ، وقال مالك إذا أجمعوا لم يعتد بخلاف غيرهم . قال الشافعي في كتاب اختلاف الحديث قال بعض أصحابنا إنه حجة وما سمعت أحد ذكر قوله إلا عابه وأن ذلك عندي معيب ، وقال الجرجاني إنما أراد مالك الفقهاء السبعة وحدهم والمشهور عنه الأول ويشكل على ما روى عن مالك من حجية إجماع أهل المدينة على أن البيع بشرط البراءة لا يجوز ولا يبرئ من العيب أصلاً علمه أو جهله ، ثم خالفهم فلو كان يرى أن إجماعهم حجة لم تسع مخالفته ، وقال الباجي إنما أراد ذلك بحجية إجماع أهل المدينة فيما كان طريقة النقل المستفيض كالصاع والمد والأذان والإقامة وعدم وجوب الزكاة في الخضروات مما تقتضي العادة بأن يكون في زمن النبي صضص فإنه لو تغير عما كان عليه لعلم فأما مسائل الاجتهاد فهم وغيرهم سواء وحكاه القاضي في التقريب عن شيخه الأبهري وقيل يرجح نقلهم عن نقل غيرهم وقد أشار الشافعي إلى هذا في القديم ورجح رواية وحكى يونس بن عبد الأعلى قال قال الشافعي إذا وجدت متقدمي أهل المدينة على شيء فلا يدخل في قلبك شك أنه الحق وكلما جاءك شيء غير ذلك فلا تلتفت إليه ولا تعبأ به . وقال القاضي عبد الوهاب : إجماع أهل المدينة على ضربين نقلي واستدلالي فالأول على ثلاثة أضرب منه نقل شرع مبتدأ من جهة النبي صضص إما قول أو فعل أو إقرار فالأول كنقلهم الصاع والمد والأذان والإقامة والأوقات والأجناس ونحوهن والثاني نقلهم المتصل كعهدة الرقيق وغير ذلك كتركهم أخذ الزكاة من الخضروات مع أنها كانت تزرع بالمدينة وكان النبي صضص والخلفاء بعده لا يأخذون منها قال وهذا النوع من إجماعهم حجة يلزم عندنا المصير إليه وترك الأخبار والمقاييس به لا اختلاف بين أصحابنا فيه . قال والثاني وهو إجماعهم من طريق الاستدلال فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه أحدها أنه ليس بإجماع ولا بمرجح وهو قول أبي بكر وأبي يعقوب الرازي والقاضي أبي بكر وابن فورك والطيالسي وأبي الفرج والأبهري وأنكر كونه مذهباً لذلك . ثانيها أنه مرجح وبه قال بعض أصحاب الشافعي . ثالثها أنه حجة ولم يحرم خلافه وإليه ذهب قاضي القضاة أبو الحسين بن عمر . قال أبي العباس القرطبي أما الضرب الأول فينبغي أن لا يختلف فيه لأنه من باب النقل المتواتر ولا فرق بين القول والفعل والإقرار كل ذلك نقل محصل للعلم القطعي فإنهم عدد كثير وجم غفير تحيل العادة عليهم التواطؤ على خلاف الصدق ولا شك أن ما كان هذا سبيله أولى من أخبار الآحاد والأقيسة والظواهر ، ثم قال والنوع الاستدلالي أن عارضه خبر فالخبر أولى عند جمهور أصحابنا ، وقد صار جماعة إلى أنه أولى من الخبر بناء منهم على أنه إجماع وليس بصحيح لأن المشهود له بالعصمة إجماع كل الأمة لا بعضها . وإجماع أهل الحرمين مكة والمدينة وأهل المصرين البصرة والكوفة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة ، وقد زعم بعض أهل الأصول أن إجماع أهل الحرمين والمصرين حجة ولا وجه لذلك وقد قدمنا قول من قال بحجية إجماع أهل المدينة فمن قال بذلك فهو قائل بحجية إجماع أهل مكة والمدينة والمصرين بالأولى . قال القاضي وإنما خصوا هذه المواضع يعني القائلين بحجية إجماع أهلها لاعتقادهم تخصيص الإجماع بالصحابة ، وكانت هذه البلاد مواطن الصحابة ما خرج منها إلا الشذوذ . قال الزركشي وهذا صريح بأن القائلين بذلك لم يعمموا في كل عصر بل في عصر الصحابة فقط ، قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قيل أن المخالف أراد زمن الصحابة والتابعين فإن كان هذا مراده فمسلم لو اجتمع العلماء في هذه البقاع وغير مسلم أنهم اجتمعوا فيها ، وذهب الجمهور أيضاً إلى إجماع الخلفاء الأربعة ليس بحجة لأنهم بعض الأمة وروى عن أحمد أنه حجة ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه حجة لما ورد ما يفيد ذلك كقوله صضص بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين وقوله اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر وهما حديثان صحيحان ونحو ذلك . وأجيب بأن الحديثين دليلاً على أنهم أهل للاقتداء بهم لا على أن قولهم حجة على غيرهم فإن المجتهد مستعبد بالبحث عن الدليل حتى يظهر له ما يظنه حقاً ولو كان مثل ذلك يفيد حجية قول الخلفاء أو بعضهم لكان حديث رضيت لأمتي ما رضي لها ابن أم عبد يفيد حجية قول ابن مسعود وحديث أن أبا عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة يفيد حجية قوله وهما حديثان صحيحان وهكذا حديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم يفيد حجية قول كل واحد منهم وفيه مقال معروف لأن في رجاله عبد الرحيم العمي عن أبيه وهما ضعيفان جداً بل قال ابن معين إن عبد الرحيم كذاب وقال البخاري متروك وكذا قال أبو حاتم وله طريق أخرى فيها حمزة النصيبي وهو ضعيف جداً . قال البخاري منكر الحديث ، وقال ابن معين لا يساوي فلساً ، وقال ابن عدي عامة مروياته موضوعة وروي أيضاً من طريق جميل بن زيد وهو مجهول . وذهب الجمهور أيضاً إلى أن إجماع العشرة وحدها ليس بحجة وقالت الزيدية والإمامية هو حجة واستدلوا بقوله تعالى : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً والخطأ رجس فوجب أن يكونوا مطهرين عنه . وأجيب بأن سياق الآية يفيد أنه في نسائه صضص ويجاب عن هذا الجواب بأنه قد ورد الدليل الصحيح أنها نزلت في علي وفاطمة والحسنين وقد أوضحنا الكلام في هذا في تفسيرنا الذي سميناه فتح القدير فليرجع إليه ولكن لا يخفاك أن كون الخطأ رجس لا يدل عليه لغة ولا شرع فإن معناه في اللغة القذر ويطلق في الشرع على العذاب كما في قوله سبحانه قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب وقوله من رجز أليم والرجز الرجس . واستدلوا بمثل قوله قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى وبأحاديث كثيرة جداً تشتمل على مزيد شرفهم وعظيم فضلهم ولا دلالة فيها على حجية قولهم وقد أبعد من استدل بها على ذلك وقد عرفناك في حجية إجماع أهل الأمة ما هو الحق ووروده على القول بحجية بعضها أولى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث التاسع : اتفق القائلون بحجية الإجماع أنه لا يعتبر من سيوجد ولو اعتبر ذلك لم يكن ثم إجماع إلا عند قيام الساعة وعند ذلك لا تكليف فلا يكون في الإجماع فائدة وقد روي الخلاف في ذلك عن أبي عيسى الوارث وأبي عبد الرحمن الشافعي كما حكاه الأستاذ أبو منصور . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث العاشر : اختلفوا هل يشترط انقراض عصر أهل الإجماع في حجية إجماعهم أم لا فذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط وذهب جماعة من الفقهاء ومنهم أحمد بن حنبل وجماعة من المتكلمين منهم الأستاذ أبو بكر بن فورك إلى أنه يشترط ، وقيل إن كان الإجماع بالقول والفعل أو بأحدهما فلا يشترط وإن كان الإجماع بالسكوت عن مخالفة القائل فيشترط . روي هذا عن أبي علي الجبائي ، وقال الجويني إن كان عن قياس كان شرطاً وإلا فلا . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث الحادي عشر : في الإجماع السكوتي وهو أن يقول بعض أهل الاجتهاد بقول وينتشر ذلك في المجتهدين من أهل ذلك العصر فيسكتون ولا يظهر منهم اعتراف ولا إنكار وفيه مذاهب . الأول : أنه ليس بإجماع ولا حجة قاله داود الظاهري وابنه والمرتضى وعزاه القاضي إلى الشافعي واختاره وقال أنه آخر أقوال الشافعي ، وقال الغزالي والرازي والآمدي إنه نص الشافعي في الجديد وقال الجويني إنه ظاهر مذهبه . والقول الثاني : أنه إجماع وحجة وبه قال جماعة من الشافعية وجماعة من أهل الأصول وروي نحوه عن الشافعي . قال الأستاذ أبو إسحق : اختلف أصحابنا في تسميته إجماعاً مع اتفاقهم على وجوب العلم به ، وقال أبو الإسفرائيني هو حجة مقطوع بها وفي تسميته إجماعاً من الشافعية قولان : أحدهما المنع وإنما هو حجة كالخبر والثاني يسمى إجماعاً وهو قولنا . انتهى . واستدل القائلون بهذا القول بأن سكوتهم ظاهر في الموافقة إذ يبعد سكوت الكل مع اعتقاد المخالفة عادة فكان ذلك محصلاً للظن بالاتفاق ، وأجيب باحتمال أن يكون سكوت من سكت على الإنكار لتعارض الأدلة عنده أو لعدم حصول ما يفيده الاجتهاد في تلك الحادثة إثباتاً أو نفياً أو للخوف على نفسه أو ذلك من الاحتمالات . القول الثالث : أنه حجة وليس بإجماع قاله أبو هاشم وهو أحد الوجهين عند الشافعي كما سلف وبه قال الصيرفي واختاره الآمدي . قال الصفي الهندي ولم يصر أحد إلى عكس هذا القول يعني أنه اجتماع لا حجة ويمكن القول به كالإجماع المروي بالأحاديث عند من لم يقل بحجيته . القول الرابع : أنه إجماع بشرط انقراض العصر لأنه يبعد مع ذلك أن يكون السكوت لا عن رضا وبه قال أنه على الجبائي وأحمد في رواية عنه ونقله ابن فورك في كتاب عن أكثر أصحاب الشافعي ونقله الأستاذ أبو طاهر البغدادي عن الحذاق منهم واختاره ابن القطان والروياني . قال الرافعي إنه أصح الأوجه عند أصحاب الشافعي ، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع أنه المذهب قال : فأما قبل الانقراض ففيه طريقان إحداهما أنه ليس بحجة قطعاً والثانية على وجهين . القول الخامس : أنه إجماع إن كان فتياً لا حكماً وبه قال ابن أبي هريرة كما حكاه عنه الشيخ أبو إسحاق والماوردي والرافعي وابن السمعاني والآمدي وابن الحاجب ، ووجه هذا القول أنه لا يلزم من صدوره عن الحاكم أن يكون قاله على وجه الحكم وقيل أن الحاكم لا يعترض عليه في حكمه فلا يكون السكوت دليل الرضا ونقل ابن السمعاني عن ابن أبي هريرة أنه احتج لقوله هذا بقوله أنا نحضر مجلس بعض الحكام ونراهم يقضون بخلاف مذهبنا ولا ننكر ذلك عليهم فلا يكون سكوتنا رضا منا بذلك . القول السادس : أنه إجماع إن كان صادراً عن فتيا قاله أبو إسحاق المروزي وعلل ذلك بأن الأغلب أن الصادر من الحاكم يكون عن مشاورة وحكاه ابن القطان عن الصيرفي . القول السابع : أنه إن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج كان إجماعاً وإلا فهو حجة وفي كونه إجماعاً وجهان : حكاه الزركشي ولم ينسبه إلى قائل . القول الثامن : إن كان الساكتون أقل كان إجماعاً وإلا فلا ، قاله أبو بكر الرازي وحكاه شمس الأئمة السرخسي عن الشافعي . قال الزركشي وهو غريب لا يعرفه أصحابه . القول التاسع : إن كان في عصر الصحابة كان إجماعاً وإلا فلا . قال الماوردي في الحاوي والروياني في البحر إن كان عصر الصحابة فإذا قال الواحد منهم قولاً أو حكم به فأمسك الباقون فهذا ضربان : أحدهما مما يفوت استدراكه كإراقة دم واستباحة فرج فيكون إجماعاً لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه إذ لا يصح منهم أن يتفقوا على ترك إنكار منكر وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة لأن الحق لا يخرج عن غيرهم وفي كونه إجماعاً يمنع الاجتهاد وجهان لأصحابنا : أحدهما يكون إجماعاً لا يسوغ معه الاجتهاد ، والثاني لا يكون إجماعاً سواء كان القول فتيا أو حكماً على الصحيح . القول العاشر : أن ذلك إن كان مما يدوم ويتكرر وقوعه والخوض فيه فإنه يكون السكوت إجماعاً وبه قال إمام الحرمين الجويني قال الغزالي في المنخول المختار أنه لا يكون حجة إلا في صورتين : أحدهما سكوتهم وقد قطع بين أيديهم قاطع لا في مظنة القطع والدواعي تتوفر على الرد عليه . الثاني : ما يسكتون عليه على استمرار العصر وتكون الواقعة بحيث لا يبدي أحد خلافاً فأما إذا حضروا مجلساً فأفتى واحد وسكت آخرون فذلك اعتراض لكون المسألة مظنونة والأدب يقتضي أن لا يعترض على القضاة والمفتين . القول الحادي عشر : أنه إجماع بشرط إفادة القرائن العلم بالرضا وذلك بأن يوجد من قرائن الأحوال ما يدل على رضا الساكتين بذلك القول واختار هذا الغزالي في المستصفى وقال بعض المتأخرين أنه أحق الأقوال لأن إفادة القرائن العلم بالرضا كإفادة النطق له فيصير كالإجماع القطعي . القول الثاني عشر : أنه يكون حجة قبل استقرار المذاهب لا بعدها فإنه لا أثر للسكوت لما تقرر عند أهل المذاهب من عدم إنكار بعضهم على بعض إذا أفتى أو حكم بمذهبه مع مخالفته لمذاهب غيره وهذا التفصيل لا بد منه على جميع المذاهب السابقة هذا في الإجماع السكوتي إذا كان سكوتاً عن قول . وأما لو اتفق أهل الحل والعقد على عمل ولم يصدر منهم قول واختلفوا في ذلك ، فقيل إنه كفعل رسول الله صضص لأن العصمة ثابتة لإجماعهم كثوبتها للشارع فكانت أفعالهم كأفعاله وبه قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ، وقال الغزالي في المنخول أنه المختار ، وقيل بالمنع ونقله الجويني عن القاضي إذ لا يتصور تواطؤ قوم لا يحصون عدداً على فعل واحد من غير أرباب فالتواطؤ عليه غير ممكن ، وقيل إنه ممكن ولكنه محمول على الإباحة حتى يقوم دليل على الندب أو الوجوب وبه قال الجويني قال القرافي وهذا تفصيل حسن ، وقيل إن كل فعل خرج مخرج البيان أو مخرج الحكم لا ينعقد به الإجماع وبه قال ابن السمعاني .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث الثاني عشر : هل يجوز الإجماع على شيء وقد وقع الإجماع على خلافه فقيل إن كان الإجماع الثاني من المجمعين على الحكم الأول كما لو اجتمع أهل مصر على حكم ثم ظهر لهم ما يوجب الرجوع عنه وأجمعوا على ذلك الذي ظهر لهم ففي جواز الرجوع خلاف مبني على الخلاف المتقدم في اشتراط انقراض عصر أهل الإجماع فمن اعتبره جوز ذلك ومن لم يعتبره لم يجوزه ، أما إذا كان الإجماع من غيرهم فمنعه الجمهور لأنه يلزم تصادم الإجماعين وجوزه أبو عبد الله البصري قال الرازي وهو الأولى . واحتج الجمهور بأن كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له وقال أبو عبد الله البصري إنه لا يقتضي ذلك لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية هي حصول إجماع آخر قال الصفي الهندي ومأخذ أبي عبد الله قوي ، وحكى أبو الحسن السهيلي في آداب الجدل له في هذه المسألة أنها إذا أجمعت الصحابة على قول ثم أجمع التابعون على قول آخر فعن الشافعي جوابان : أحدهما : وهو الأصح أنه لا يجوز وقوع مثله لأن النبي صضص أخبر أن أمته لا تجتمع على ضلالة . والثاني : لو صح وقوعه فإنه يجب على التابعين الرجوع إلى قول الصحابة وقال وقيل إن كل واحد منهما حق وصواب على قول من يقول إن كل مجتهد مصيب وليس بشيء انتهى . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث الثالث عشر : في حدوث الإجماع بعد سبق الخلاف قال الرازي في المحصول : إذا اتفق أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كان ذلك إجماعاً لا تجوز مخالفته خلافاً لكثير من المتكلمين وكثير من الفقهاء الشافعية والحنفية ، وقيل هذه المسألة على وجهين : أحدهما : أن لا يستقر الخلاف وذلك بأن يكون أهل الاجتهاد في مهلة النظر ولم يستقر لهم قول كخلاف الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قتال مانعي الزكاة وإجماعهم عليه بعد ذلك ، فقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع صارت المسألة إجماعية بلا خلاف ، وحكى الجويني والهندي أن الصيرفي خالف في ذلك . الوجه الثاني : أن يستقر الخلاف ويمضي عليه مدة ، فقال القاضي أبو بكر بالمنع وإليه مال الغزالي ونقله ابن برهان في الوجيز عن الشافعي وجزم به الشيخ أبو إسحاق في اللمع ونقل الجويني عن أكثر أهل الأصول الجواز واختاره الرازي والآمدي ، وقيل بالتفصيل وهو الجواز فيما كان دليل خلافه القاطع عقلياً كان أو نقلياً ونقل الأستاذ أبو منصور إجماع أصحاب الشافعي على أنه حجة وبذلك جزم الماوردي والروياني فأما لو وقع الخلاف بين عصر ثم ماتت إحدى الطائفتين من المختلفين وبقيت الطائفة الأخرى ، فقال الأستاذ أبو إسحاق إنه يكون قول الباقين إجماعاً واختاره الرازي والهندي قال الرازي في المحصول لأن بالموت ظهر اندراج قول ذلك القسم وحده تحت أدلة الإجماع ورجح القاضي في التقريب أنه لا يكون إجماعاً قال لأن الميت في حكم الباقي الموجود والباقون هم بعض الأمة لا كلها وجزم به الأستاذ أبو منصور البغدادي في كتاب الجدل وكذا الخوارزمي في الكافي ، وحكى أبو بكر الرازي في هذه المسألة قولاً ثالثاً ، فقال إن لم يسوغوا فيه الاختلاف صار حجة لأن قول الطائفة المتمسكة بالحق لا يخلو منه زمان وقد شهدت ببطلان قول المنقرضة فوجب أن يكون قولها حجة وإن سوغوا فيه الاجتهاد لم يصر إجماعاً لإجماع الطائفتين على تسويغ الخلاف .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث الرابع عشر : إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قولين فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث اختلفوا في ذلك على أقوال : الأول : المنع مطلقاً لأنه كاتفاقهم على أنه لا قول سوى هذين القولين . قال الأستاذ أبو منصور وهو قول الجمهور قال الكيا إنه صحيح وبه الفتوى وجزم به القفال الشاشي والقاضي أبو الطيب الطبري والروياني والصيرفي ولم يحكيا خلافه إلا عن بعض المتكلمين ، وحكى ابن القطان الخلاف في ذلك عن داود . القول الثاني : الجواز مطلقاً حكاه ابن برهان وابن السمعاني عن بعض الحنفية والظاهرية ونسبه جماعة منهم القاضي عياض إلى داود وأنكر ابن حزم على من نسبه إلى داود . القول الثالث : إن ذلك القول الحادث بعد القولين إن لزم منه رفعهما لم يجز إحداثه وإلا جاز ، وروي هذا التفصيل عن الشافعي واختاره المتأخرون من أصحابه ورجحه جماعة من الأصوليين منهم ابن الحاجب واستدلوا له بأن القول الحادث الرافع للقولين مخالف لما وقع الإجماع عليه والقول الحادث الذي لم يرفع القولين غير مخالف لهما بل موافق لكل واحد منهما من بعض الوجوه . ومثل الاختلاف على قولين : الاختلاف على ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فإنه يأتي في القول الزائد على الأقوال التي اختلفوا فيها ما يأتي في القول الثالث من الخلاف . ثم لا بد من تقييد هذه المسألة بأن يكون الخلاف فيها على قولين أو أكثر قد استقر أما إذا لم يستقر فلا وجه للمنع من إحداث قول آخر . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث الخامس عشر : إذا استدل أهل العصر بدليل وأولوا بتأويل فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل آخر من غير إلغاء الأول أو إحداث تأويل غير التأويل الأول فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لأن الإجماع والاختلاف إنما هو في الحكم على الشيء بكونه كذا ، وأما الاستدلال بالدليل أو العمل بالتأويل فليس من هذا الباب . قال ابن القطان وذهب بعض أصحابنا إلى أنه ليس لنا أن نخرج عن دلالتهم ويكون إجماعاً على الدليل لا على الحكم . وأجيب عنه بأن المطلوب من الأدلة أحكامها لا أعيانها نعم إن أجمعوا على إنكار الدليل الثاني لم يجز إحداثه لمخالفة الإجماع وذهب بعض أهل العلم إلى الوقف وذهب ابن حزم إلى التفصيل بين النص فيجوز الاستدلال به ويبين غيره فلا يجوز إحداثه وبين الخفي فيجوز لجواز اشتباهه على الأولين . قال أبو الحسين البصري إلا أن يكون في صحة ما استدلوا به إبطال ما أجمعوا عليه ، وقال سليم الرازي إلا أن يقولوا ليس فيها دليل إلا الذي ذكرناه فيمتنع . وأما إذا عللوا الحكم بعلة فهل يجوز لمن بعدهم أن يعلله بعلة أخرى ؟ فقال الأستاذ أبو منصور وسليم الرازي هي كالدليل في جواز إحداثها إلا إذا قالوا لا علة إلا هذه أو تكون العلة الثانية مخالفة للعلة الأولى في بعض الفروع فتكون حينئذ الثانية فاسدة . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . البحث السادس عشر : هل يمكن وجود دليل لا معارض له اشترك أهل الإجماع في عدم العلم به قيل بالجواز إن كان عمل الأمة موافقاً له وعدمه إن كان مخالفاً له واختار هذا الآمدي وابن الحاجب والصفي الهندي ، وقيل بالجواز مطلقاً ، وقيل بالمنع مطلقاً . قال الرازي في المحصول يجوز اشتراك الأمة في عدم العلم بما لم يكلفوا به لأن عدم العلم بذلك الشيء إذا كان صواباً لم يلزم من إجماعهم عليه محذور . وللمخالف أن يقول لو اجتمعوا على عدم العلم بذلك الشيء لكان عدم العلم به سبيلاً لهم وكان يجب اتباعهم فيه حتى يحرم تفصيل العلم به . قال الزركشي في البحر هما مسألتان : إحداهما : هل يجوز اشتراك الأمة في الجهل بما لم يكلفوا به ؟ فيه قولان . الثانية : هل يمكن وجود خبر أو دليل لا معارض له وتشترك الأمة في عدم العلم به ؟ وأما ذكر واحد من المجمعين خبراً عن الرسول صضص يشهد بصحة الحكم الذي انعقد عليه الإجماع ؟ فقال ابن برهان في الوجيز أنه يجب عليه ترك العمل بالحديث ، وقال قوم إن ذلك يستحيل وهو الأصح من المذاهب فإن الله سبحانه عصم الأمة عن نسيان حديث في الحادثة ولولا ذلك خرج الإجماع عن أن يكون قطعياً وبناه في الأوسط على الخلاف في انقراض العصر فمن قال ليس بشرط منع الرجوع ومن اشترط جوزه والجمهور على الأول يتطرق إلى الحديث احتمالات من النسخ والتخصيص ما لا يتطرق إلى الإجماع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

البحث السابع عشر : لا اعتبار بقول العوام في الإجماع ولا وفاقاً ولا خلافاً عند الجمهور لأنهم ليسوا من أهل النظر في الشرعيات ولا يفهمون الحجة ولا يعقلون البرهان ، وقيل يعتبر قولهم لأنهم من جملة الأمة وإنما كان قول الأمة حجة لعصمتها من الخطأ ولا يمتنع أن تكون العصمة لجميع الأمة عالمها وجاهلها حكى هذا القول ابن الصباغ وابن برهان عن بعض المتكلمين واختاره الآمدي ونقله الجويني وابن السمعاني والصفي الهندي عن القاضي أبي بكر . قال في مختصر التقريب فإن قال قائل فإذا أجمع الأمة على حكم من الأحكام مما يحصل فيه اتفاق الخاص والعام كوجوب الصلاة والزكاة وغيرهما فما هذا سبيله يطلق القول بأن الأمة أجمعت عليه ، وأما ما أجمع عليه العلماء من أحكام الفروع التي تشذ عن العوام فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فقال بعضهم العوام يدخلون في حكم الإجماع وذلك أنهم وإن لم يعرفوا تفاصيل الأحكام فقد عرفوا على الجملة أن ما أجمع عليه علماء الأمة في تفاصيل الأحكام فهو مقطوع به فهذا مساهمة منهم في الإجماع وإن لم يعلموا على التفصيل . ومن أصحابنا من زعم لا يكونون مساهمين في الإجماع فإنه إنما يتحقق الإجماع في التفاصيل بعد العلم بها فإذا لم يكونوا عالمين بها فلا يتحقق كونهم من أهل الإجماع . قال أبو الحسين في المعتمد اختلفوا في اعتبار قول العامة في المسائل الاجتهادية ، فقال قوم العامة وإن وجب عليها اتبع العلماء فإن إجماع العلماء لا يكون حجة على أهل العصر حتى لا تسوغ مخالفتهم إلا بأن يتبعهم العامة من أهل عصرهم فإن لم يتبعوهم لم يجب على أهل العصر الثاني من العلماء اتباعهم . وقال آخرون بل هو حجة مطلقاً وحكى القاضي عبد الوهاب وابن السمعاني أن العامة معتبرة في الإجماع في العام دون الخاص . قال الرويني في البحر إن اختص بمعرفة الحكم العلماء كنصب الزكوات وتحريم نكاح المرأة وعمتها وخالتها لم يعتبر وفاق العامة معهم وإن اشترك في معرفته الخاصة والعامة كأعداد الركعات وتحريم بنت البنت فهل يعتبر إجماع العوام معهم فيه وجهان أصحهما لا يعتبر لأن الإجماع إنما يصح عن نظر واجتهاد والثاني يعم لاشتراكهم في العلم به قال سليم الرازي إجماع الخاصة هل يحتاج معهم فيه إلى إجماع العامة ؟ فيه وجهان والصحيح أنه لا يحتاج فيه إليهم . قال الجويني حكم المقلد حكم العامي في ذلك إذ لا واسطة بين المقلد والمجتهد . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

فرع إجماع العوام عند خلو الزمان عن مجتهد عند من قال بجواز خلوه عنه هل يكون حجة أم لا فالقائلون باعتبارهم في إجماع مع وجود المجتهدين يقولون بأن إجماعهم حجة والقائلون بعدم اعتبارهم لا يقولون بأنه حجة وأما من قال بأن الزمان لا يخلو عن قائم بالحجة فلا يصح عنده هذا التقدير . البحث الثامن عشر : الإجماع المعتبر في فنون العلم هو إجماع أهل ذلك الفن العارفين به دون من عداهم فالمعتبر في الإجماع في المسائل الفقهية قول جميع الفقهاء وفي المسائل الأصولية قول جميع الأصوليين وفي المسائل النحوية قول جميع النحويين ونحو ذلك ومن عدا أهل ذلك الفن هو في حكم العوام فمن اعتبرهم في الإجماع اعتبر غير أهل الفن ومن لا فلا وخالف في ذلك ابن جني فقال في كتاب الخصائص إنه لا حجة في إجماع النحاة قال الزركشي في البحر ولا خلاف في اعتبار قول المتكلم في الكلام والأصولي في الأصول وكل واحد يعتبر قوله إذا كان من أهل الاجتهاد في ذلك الفن وأما الأصولي الماهر المتصرف في الفقه ففي اعتبار خلافه في الفقه وجهان حكاهما الماوردي وذهب القاضي إلى أن خلافه معتبر قال الجويني وهو الحق وذهب معظم الأصوليين منهم أبو الحسن ابن القطان إلى أن خلافه لا يعتبر لأنه ليس من المفتين ولو وقعت له واقعة لزم أن يستفتي المفتي فيها قال الكيا والحق قول الجمهور لأأن من أحكم الأصوليين فهو مجتهد فيهما قال الصيرفي في كتاب الدلائل إجماع العلماء لا مدخل لغيرهم فيه سواء المتكلم وغيره وهم الذين تلقنوا العلم من الصحابة وإن اختلفت آراؤهم وهم القائمون بعلم الفقه وأما من انفرد بالكلام لم يدخل في جملة العلماء فلا يعد خلافاً على من ليس مثله وإن كانوا حذاقاً بدقائق الكلام . البحث التاسع عشر : إذا خالف أهل الإجماع واحد من المجتهدين فقط فذهب الجمهور إلى أنه لا يكون إجماعاً ولا حجة قال الصيرفي ولا يقال لهذا شاذ لأن الشاذ من كان في الجملة ثم شذ كيف يكون محجوباً بهم ولا يقع اسم الإجماع إلا به قال إلا أن يجمعوا على شيء من جهة الحكاية فيلزمه قبول قولهم أما من جهة الاجتهاد فلا لأن الحق قد يكون معه ، وقال الغزالي والمذهب انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ونقله الآمدي عن محمد بن جرير الطبري وأبي الحسين الخياط من معتزلة بغداد . قال الشيخ أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين والشرط أن يجمع جمهور تلك الطبقة ووجوههم ومعظمهم ولسنا نشترط قول جميعهم وكيف نشترط ذلك وربما يكون في أقطار الأرض من المجتهدين من لم نسمع به فإن السلف الصالح كانوا يعلمون ويتسترون بالعلم فربما كان الرجل قد أخذ الفقه الكثير ولا يعلم به جاره قال والدليل على هذا أن الصحابة لما استخلفوا أبا بكر انعقدت خلافته بإجماع الحاضرين ومعلوم أن من الصحابة من غاب قبل وفاة النبي صضص إلى بعض البلدان ومن حاضري المدينة من لم يحضر البيعة ولم يعتبر ذلك مع اتفاق الأكثرين قال الصفي الهندي والقائلون بأنه إجماع مرادهم أنه ظني لا قطعي واحتج ابن جرير على عدم اعتبار قول الأقل بارتكابه الشذوذ المنهي عنه . وأجيب بأن الشذوذ المنهي عنه هو ما يشق عصا المسلمين لا في أحكام الاجتهاد ، وقال الأستاذ أبو إسحاق أن ابن جرير قد شذ عن الجماعة في هذه المسألة فينبغي أن لا يعتبر خلافه . وقيل إنه حجة وليس بإجماع ورجحه ابن الحاجب فإنه قال لو قدر المخالف مع كثرة المجمعين لم يكن إجماعاً قطعياً والظاهر أنه حجة لبعد أن يكون المرجح متمسك المخالف وقيل إن عدد الأقل أن بلغ عدد التواتر لم ينعقد إجماع غيرهم وإن كانوا دون عدد التواتر انعقد الإجماع دونهم كذا حكاه الآمدي قال القاضي أبو بكر أنه الذي يصح عن ابن جرير وقيل أتباع الأكثر أولى ويجوز خلافه حكاه الهندي وقيل أنه لا ينعقد إجماع مع مخالفة الاثنين الواحد حكاهما الزركشي في البحر وقيل إن استوعب الجماعة الاجتهاد فيما يخالفهم كان خلاف المجتهد معتداً بن كخلاف ابن عباس في العول وإن أنكروه لم يعتد بخلافه وبه قال أبو بكر الرازي أبو عبد الله الجرجاني من الحنفية قال شمس الأمة السرخسي إنه الصحيح . البحث الموفى عشرين : الإجماع المنقول بطريق الآحاد حجة وبه قال الماوردي وإمام الحرمين والآمدي ونقل عن الجمهور اشتراط عدد التواتر وحكى الرازي في المحصول عن الأكثر أنه ليس بحجة فقال الإجماع المروي بطريق الآحاد حجة لأكثر الناس لأن ظن وجوب العمل به حاصل فوجب العمل به دفعاً للضرر المظنون ولأن الإجماع نوع من الحجة فيجوز التمسك بمظنونه كما يجوز بمعلومه قياساً على السنة ولأنا بينا أن أصل الإجماع فائدة ظنية فكذا القول في تفاصيله انتهى . وأما عدد أهل الإجماع فقيل لا يشترط بلوغهم عدد التواتر خلافاً للقاضي ونقل ابن برهان عن معظم العلماء أنه يجوز انحطاط عددهم عقلاً عن عدد التواتر وعن طوائف من المتكلمين أنه لا يجوز عقلاً وعلى القول بالجواز فهل يكون إجماعهم حجة أم لا ؟ فذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه حجة وهو قول الأستاذ أبي إسحاق وقال إمام الحرمين الجويني يجوز ولكن لا يكون إجماعهم حجة المجمعين عند عدد التواتر ما دام التكليف بالشريعة باقياً ومنهم من زعم أن ذلك وإن كان يتصور لكن يقطع بأن ما ذهب إليه دون عدد التواتر ليس سبيل المؤمنين لأن إخبارهم عن إيمانهم لا يفيد القطع فلا تحرم مخالفته ومنهم من زعم أنه وإن أمكن أن يعلم إيمانهم بالقرائن لا يشترط ذلك فيه بل يكفي فيه الظهور لكن الإجماع إنما يكون حجة لكونه كاشفاً عن دليل قاطع وهو يوجب كونه متواتراً وإلا لم يكن قاطعاً فيما يقوم مقام نقله متواتراً وهو الحكم بمقتضاه يجب أن يكون صادراً عن عدد التواتر وإلا لم يقطع بوجوده . قال الأستاذ وإذا لم يبق في العصر إلا مجتهد واحد فقوله حجة كإجماع ويجوز أن يقال للواحد أمة كما قال تعالى : إن إبراهيم كان أمة ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين . قال الزركشي في البحر وبه جزم ابن سريج في كتاب الودائع فقال وحقيقة الإجماع هو القول بالحق ولو من واحد فهو إجماع وكذا إن حصل من اثنين أو ثلاثة . والحجة على أن الواحد إجماع ما اتفق عليه الناس في أبي بكر رضي الله عنه لما امتنعت بنو حنيفة من الزكاة فكانت مطالبة أبي بكر لها حقاً عند الكل وما انفرد لمطالبتها غيره قال هذا كلامه وخلاف إمام الحرمين فيه أولى وهو الظاهر لأن الإجماع لا يكون إلا من اثنين فصاعداً ونقل ابن القطان عن أبي هريرة أنه حجة . قال الكيا المسألة مبنية على تصور اشتمال العصر على المجتهد الواحد والصحيح تصوره وإذا قلنا به ففي انعقاد الإجماع بمجرد قوله خلاف وبه قال الأستاذ أبو إسحاق قال والذي حمله على ذلك أنه لم يكن لاختصاص الإجماع بمحل معنى يدل عليه فسوى بين العدد والفرد ، وأما المحققون سواء فإنهم يعبرون العدد ، ثم يقولون المعتبر عدد التواتر فإذاً مستند الإجماع مستند إلى طرد العادة بتوبيخ من يخالف العصر الأول وهو يستدعي وفور عدد من الأولين وهذا لا يتحقق فيما إذا كان في العصر إلا مجتهد واحد فإنه لا يظهر فيه استيعاب مدارك الاجتهاد . خاتمة قول القائل لا أعلم خلافاً بين أهل العلم في كذا قال الصيرفي لا يكون إجماعاً لجواز الاختلاف وكذا قال ابن حزم في الأحكام ، وقال في كتاب الإعراب أن الشافعي نص عليه في الرسالة وكذلك أحمد بن حنبل ، وقال ابن القطان قول القائل لا أعلم خلافاً إن كان من أهل العلم فهو حجة وإن لم يكن من الذين كشفوا الإجماع والاختلاف فليس بحجة ، وقال الماوردي إذا قال : لا أعرف بينهم خلافاً فإن لم يكن من أهل الاجتهاد وممن أحاط بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد فاختلف أصحابنا فأثبت الإجماع بقوله وإن كان من أهل الاجتهاد وزعم قوم أن العالم إذا قال لا أعلم خلافاً فهو إجماع وهو قول فاسد . قال ذلك محمد بن نصر المروزي فإنا لا نعلم أحداً منه لأقاويل أهل العلم ولكن فوق كل ذي علم عليم ، وقد قال الشافعي في زكاة البقر لا أعلم خلافاً في أنه ليس في أقل من ثلاثين منها تبيع والخلاف في ذلك مشهور فإن قوماً يرون الزكاة على خمس كزكاة الإبل ، وقال مالك في موطئه وقد ذكر الحكم برد اليمين وهذا مما لا خلاف فيه بين أحد من الناس ولا بلد من البلدان والخلاف فيه شهير وكان عثمان رضي الله عنه لا يرى رد اليمين ويقضي بالنكول وكذلك ابن عباس ومن التابعين الحكم وغيره وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وهم كانوا القضاة في ذلك الوقت فإذا كان مثل من ذكرنا يخفي عليه الخلاف فما ظنك بغيره ؟ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المقصد الرابع في الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والإطلاق والتقييد والإجمال والتبيين والظاهر والمؤول والمنطوق والمفهوم والناسخ والمنسوخ وسنجعل لكم من هذه باباً مستقلاً إن شاء الله ، ففي الأوامر والنواهي بابان : الباب الأول في مباحث الأمر : والباب الثاني في مباحث النهي أما الباب الأول ففيه فصول ، وهي أحد عشر فصلاً ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الأول في تعريف لفظ الأمر قال في المحصول اتفقوا على أن لفظ الأمر حقيقة في القول المخصوص واختلفوا في كونه حقيقة في غيره فزعم بعض الفقهاء أنه حقيقة في الفعل أيضاً . والجمهور على أنه مجاز فيه وزعم أبو الحسين أنه مشترك بين القول المخصوص وبين الشيء وبين الصفة وبين الشأن والطريق والمختار أنه حقيقة في القول المخصوص فقط . إنا أجمعنا على أنه حقيقة في القول المخصوص فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك انتهى ويجاب عنه بأن مجرد الإجماع على كون أحد المعاني حقيقة لا ينفي حقيقة ما عداه والأولى أن يقال أن الذي سبق إلى الفهم من لفظ ألف ميم راء عند الإطلاق هو القول المخصوص والسبق إلى الفهم دليل الحقيقة والأصل عدم الاشتراك ولو كان مشتركاً لتبادر إلى الفهم جميع ما هو مشترك فيه ولو كان متواطئاً لم يفهم منه القول المخصوص على انفراده واستدلاله على أنه حقيقة في القول المخصوص بأنه لو كان حقيقة في الفعل لاطرد ويسمى الأكل أمراً والشرب أمراً ولكان يشتق للفاعل اسم الأمر وليس كذلك لأن من قام أو قعد لا يسمى آمراً وأيضاً الأمر له لوازم ولم يوجد منها شيء في الفعل فوجب أن لا يكون الأمر حقيقة في الفعل وأيضاً يصح نفي الأمر عن الفعل فيقال ما أمر به ولكن فعله . وأجيب بمنع كون من شأن الحقيقة الاطراد وبمنع لزوم الاشتقاق في كل الحقائق وبمنع عدم وجود شيء من اللوازم في الفعل وبمنع تجويزهم لنفيه مطلقاً واستدل القائلون بأنه حقيقة في الفعل بوجهين الأول : أن أهل اللغة يستعملون لفظ الأمر في الفعل وظاهر الاستعمال الحقيقة ومن ذلك قوله سبحانه حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور والمراد منه هنا العجائب التي أظهرها الله عز وجل وقوله أتعجبين من أمر الله أي من فعله وقوله وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر وقوله تجري في البحر بأمره وقوله مسخرات بأمره ومن ذلك قول الشاعر : لأمر ما يسود من يسود وقول العرب في أمثالها المضروبة « لأمر ما جدع قصير أنفه » والأصل في الإطلاق الحقيقة . الوجه الثاني : أنه قد خولف بين جمع الأمر بمعنى القول فقيل في الأول أوامر وفي الثاني أمور والاشتقاق علامة الحقيقة . وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم استعمال اللفظ في الفعل من حيث أنه فعل أما قوله حتى إذا جاء أمرنا فلا مانع من أن يراد منه القول أو الشأن وإنما يطلق اسم الأمر على الفعل لعموم كونه شأناً لا لخصوص كونه فعلاً . وكذا الجواب عن الآية الثانية ، وأما قوله سبحانه وما أمر فرعون برشيد فلم لا يجوز أن يكون المراد هو القول بل الأظهر ذلك لما تقدم من قوله فاتبعوا أمر فرعون أي أطاعوه فيما أمرهم به . سلمنا أنه ليس المراد القول فلم لا يجوز أن يكون المراد شأنه وطريقته وأما قوله وما أمرنا إلا واحدة فلم لا يجوز إجراؤه على الظاهر ويكون معناه أن من شأنه سبحانه أنه إذا أراد شيئاً وقع كلمح بالبصر . وأما قوله : تجري في البحر بأمره وقوله : مسخرات بأمره فلا يجوز حمل الأمر فيهما على الفعل لأن الجري والتسخير إنما حصل بقدرته لا بفعله فوجب حمله على الشأن والطريق وهكذا قول الشاعر المذكور والمثل المشهور . وأما قولهم أن الأصل الحقيقة فمعارض بأن الأصل عدم الاشتراك . وأجيب عن الوجه الثاني بأنه يجوز أن يكون الأمور جمع الأمر بمعنى الشأن لا بمعنى الفعل . سلمنا لكن لا نسلم أن الجمع من علامات الحقيقة . واستدل أبو الحسين بقوله بأن من قال هذا أمر لم يدر السامع أي هذه الأمور أراد فإذا قال هذا أمر بالفعل أوامر فلان مستقيم أو تحرك هذا الجسم لأمر وجاء زيد لأمر عقل السامع من الأول القول ومن الثاني الشأن ومن الثالث أن الجسم تحرك لشيء ومن الرابع أن زيداً جاء لغرض من الأغراض وتوقف الذهن عند السماع يدل على أنه متردد بين الكل وأجيب بأن هذا التردد ممنوع بل لا يفهم ما عدا القول إلا بقرينة مانعة من حمل اللفظ عليه كما إذا استعمل في موضع لا يليق بالقول .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الثاني : اختلف في حد الأمر بمعنى القول اختلف في حد الأمر بمعنى القول . فقال القاضي أبو بكر وارتضاه جماعة من أهل الأصول أنه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به . قال في المحصول وهذا خطأ لوجهين أما أولاً فلأن لفظي المأمور والمأمور به مشتقان من الأمر فيمتنع تعريفهما إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بهما لزم الدور وأما ثانياً فلأن الطاعة عند أصحابنا موافقة الأمر وعند المعتزلة موافقة الإرادة فالطاعة على قول أصحابنا لا يمكن تعريفها إلا بالأمر فلو عرفنا الأمر بها لزم الدور . وقال أكثر المعتزلة في حده : إنه قول القائل لمن دونه إفعل أو ما يقوم مقامه قال في المحصول وهذا خطأ من وجوه . الأول : أنا لو قدرنا أن الواضع ما وضع لفظه إفعل لشيء أصلاً حتى كانت هذه اللفظة من المهملات ففي تلك الحالة لو تلفظ الإنسان بها مع دونه لا يقال فيه أنه أمر ولو أنها صدرت عن النائم أو الساهي أو على سبيل انطلاق اللسان بها إتفاقاً أو على سبيل الحكاية يقال فيه أنه أمر ولو قدرنا أن الواضع وضع بإزاء معنى لفظ إفعل وبإزاء معنى لفظ فعل لكان المتكلم بلفظ فعل آمراً وبلفظ إفعل مخبراً فعلمنا أن تحديد ماهية الأمر بالصيغة المخصوصة باطل . الوجه الثاني : أن تحديد ماهية الأمر من حيث هو أمر وهي حقيقة لا تختلف باختلاف اللغات فإن التركي قد يأمر وينهي وما ذكروه لا يتناول الألفاظ العربية . فإن قلت قولنا أو ما يقوم مقامه احتراز عن هذين الإشكالين الذين ذكرتهما . قلت قوله أو ما يقوم مقامه يعني به كونه قائماً مقامه في الدلالة على كونه طلباً للفعل أو يعني به شيئاً آخر فإن كان المراد هو الثاني فلا بد من بيانه وإن كان المراد هو الأول صار معنى حد الأمر هو قول القائل لمن دونه إفعل أو ما يقوم مقامه في الدلالة على طلب الفعل كافياً وحينئذ يقع التعرض بخصوص صيغة إفعل ضائعاً . الوجه الثالث : سنبين أن الرتبة غير معتبرة وإذا ثبت فساد هذين الحدثين فنقول الصحيح أن يقال الأمر طلب الفعل بالقول على سبيل الاستعلاء ومن الناس من لم يعتبر هذا القيد الأخير انتهى . ولا يخفاك أن ما أجاب به من هذه الوجوه الثلاثة لا يرد على ذلك الحد . أما الوجه الأول فتقدير الإهمال أو الصدور لا عن قصد ليس مما يقتضي النقض به لخروجه عن الكلام المعتبر عند أهل اللغة وأما النقض بغير لغة العرب فغير وارد فإن مراد من حد الأمر بذلك الحد ليس إلا باعتبار ما يقتضيه لغة العرب لا غيرها وأما عدم اعتبار الرتبة فمصادرة على المطلوب ويرد على الحد الذي ارتضاه آخراً وقال إنه الصحيح النهي فإن طلب الفعل بالقول لأن الكف فعل ويرد على قيد الاستعلاء قوله تعالى حكاية عن فرعون ماذا تأمرون والأصل الحقيقة وقد أورد على الحد الذي ذكرته المعتزلة أنه يرد على طرده قول لقائل لمن دونه إفعل إذا صدر عن مبلغ لأمر الغير أو حاك له ويرد على عكسه إفعل إذا صدر من الأدنى على سبيل الاستعلاء ولذلك يذم بأنه أمر من هو أعلى منه . وأجيب عن الإيراد الأول بأن المراد قول إفعل مراداً به ما يتبادر منه عند الإطلاق وعن الثاني بأنه ليس قولاً لغيره إفعل وعن الثالث بمنع كونه أمراً عندهم واعترض عليه بأنه تعريف الأمر بالأمر ولا يعرف الشيء بنفسه وإن أسقط هذا القيد بقي صيغة إفعل مجردة فيلزم تجرده مطلقاً حتى عما يؤكد كقوله . وأجيب عنه بأن المراد القرائن الصارفة عما يتبادر منها إلى الفهم عند إطلاقها . وقيل في حده هو اقتضاء فعل غير كف على جهة الاستعلاء واعترض على عكسه بأكفف وانته واترك وذر فإنها أوامر لا يصدق عليها الحد لعدم اقتضاء الفعل غير الكف فيها واعترض على طرده بلا تترك ولا تنته ونحوهما فإنها نواة ويصدق عليها الحد . وأجيب بأن المحدود هو النفسي فيلتزم أن معنى لا تترك معنى الأمر النفسي ومعنى اكفف وذر النهي فاطرد وانعكس . وقيل في حده هو صيغة افعل بإرادات ثلاث وجود اللفظ ودلالتها على الأمر والامتثال واحترز بالأولى عن النائم إذ يصدر عنه صيغة إفعل من غير إرادة وجود اللفظ وبالثانية عن التهديد والتخيير والإكرام والإهانة ونحوها وبالثالثة عن الصيغة التي تصدر عن المبلغ والحاكي فإنه لا يريد الامتثال واعترض عليه بأنه إن أريد بالأمر المحدود المعنى النفسي أفسد الحد جنسه فإن المعنى ليس بصيغة . وأجيب بأن المراد المحدود اللفظ وبما في الحد المعنى الذي هو الطالب واستعمل المشترك الذي هو لفظ الأمر في معنييه اللذين هما الصيغة المعلومة والطلب بالقرينة العقلية ، وقيل في حده أنه أراد العقل واعترض عليه بأنه غير جامع لثبوت الأمر ولا إرادة كما في أمر السيد لعبده بحضرة من توعد السيد على ضربه لعبده بالإهلاك إن ظهر أنه لا يخالف أمر سيده والسيد يدعي مخالفة العبد في أمره ليدفع عن نفسه الإهلاك فإنه يأمر عبده بحضرة المتوعد له ليعصيه ويشاهد المتوعد عصيانه ويخلص من الهلاك فهاهنا قد أمر وإلا لم يظهر عذره وهو مخالف الأمر ولا يريد منه العمل لا أنه لا يريد ما يفضي إلى هلاكه وإلا كان مريداً هلاك نفسه وإنه محال . وأجيب عنه بأنه مثله يجيء في الطلب لأن العاقل لا يطلب ما يستلزم هلاكه وإلا كان طلباً لهلاكه ودفع بالمنع لجواز أن يطلب العاقل الهلاك لغرض إذا علم عدم وقوعه ورد هذا الدفع بأن ذلك إنما يصح في اللفظي أما النفسي فالطلب النفسي كالإرادة النفسية فلا يطلب الهلاك بقلبه كما لا يريده ، وقال الآمدي لو كان الأمر إرادة لوقعت المأمورات بمجرد الأمر لأن الإرادة صفة تخصص المقدور بوقت وجوده فوجودها فرع وجود مقدور مخصص ، والثاني باطل لأن إيمان الكفار المعلوم عدمه عند الله تعالى لا شك أنه مأمور به فيلزم أن يكون مراداً ويستلزم وجوده مع أنه محال ، وأجيب عن هذا بأن لا يلزم من حد الأمر بإرادة الفعل لأنه من المعتزلة والإرادة عندهم بالنسبة إليه سبحانه وتعالى ميل يتبع اعتقاد النفع أو دفع الضرر بالنسبة إليه سبحانه وتعالى العلم بما في الفعل من المصلحة ، إذا تقرر لك ما ذكرنا وعرفت ما فيه فاعلم أن الأولى بالأصول تعريف الأمر الصيفي لأن بحث هذا العلم عن الأدلة السمعية وهي الألفاظ الموصلة من حيث المعلوم بأحوالها من عموم وخصوص وغيرهما إلى قدرة إثبات الأحكام والأمر الصيغي في اصطلاح أهل العربية صيغته المعلومة سواء كانت على سبيل الاستعلاء أو لا وعند أهل اللغة في صيغته المعلومة المستعملة في الطلب الجازم مع الاستعلاء هذا باعتبار لفظ الأمر الذي هو ألف ميم را بخلاف فعل الأمر نحو اضرب فإنه لا يشترط فيه ما ذكر بل يصدق مع العلو وعدمه وعلى هذا أكثر أهل الأصول . ولم يعتبر الأشعري قيد العلو وتابعه أكثر الشافعية واعتبر العلو المعتزلة جميعاً إلا أبا الحسين منهم ووافقهم أبو إسحاق الشيرازي وابن الصباغ وابن السمعاني من الشافعية .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . الفصل الثالث اختلف أهل العلم في صيغة إفعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب اختلف أهل العلم في صيغة افعل وما في معناه هل هي حقيقة في الوجوب أو فيه مع غيره أو في غيره فذهب الجمهور إلى أنها حقيقة في الوجوب فقط وصححه ابن الحاجب والبيضاوي . قال الرازي وهو الحق وذكر الجويني أنه مذهب الشافعي قيل وهو الذي أملاه الأشعري على أصحابه وقال أبو هاشم وعامة المعتزلة وجماعة من الفقهاء وهو رواية الشافعي أنها حقيقة الندب ، وقال الأشعري والقاضي بالوقف . فقيل أنهما توقفا في أنه موضوع للوجوب والندب وقيل توقفا بأن قالا لا ندري بما هو حقيقة فيه أصلاً ، وحكى السعد في التلويح عن الغزالي وجماعة من المحققين أنهم ذهبوا إلى الوقف في تعيين المعنى الموضوع له حقيقة ، وحكى أيضاً عن ابن سريج الوقف في تعيين المعنى المراد عند الاستعمال لا في تعيين الموضوع له عنده لأنه موضوع عنده بالاشتراك للوجوب والندب والإباحة والتهديد ، وقيل أنها مشتركة بين الوجوب والندب اشتراكاً لفظياً وهو قول الشافعي في رواية عنه ، وقيل إنها مشتركة اشتراكاً لفظياً بين الوجوب والندب والإباحة ، وقيل إنها موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الطلب : أي ترجيح الفعل على الترك ونسبه شارح التحرير إلى أبي منصور الماتريدي ومشايخ سمرقند وقيل إنها للقدر المشترك بين الوجوب والندب والإباحة وهو الإذن برفع الحرج عن الفعل وبه قال المرتضى من الشيعة . وقال جمهور الشيعة إنها مشتركة بين الثلاثة المذكورة والتهديد . استدل القائلون بأنها حقيقة في الوجوب لغة وشرعاً كما ذهب إليه الجمهور أو شرعاً فقط كما ذهب إليه البلخي وأبو عبد الله البصري والجويني وأبو طالب بدليل العقل والنقل . أما العقل فإنا نعلم من أهل اللغة قبل ورود الشرع أنهم أطبقوا على ذم عبد لم يمتثل أمر سيده وأنهم يصفونه بالعصيان ولا يذم ويوصف بالعصيان إلا من كان تاركاً لواجب عليه ، وأما المنقول فقد تكرر استدلال السلف بهذه الصيغة مع تجردها عنه القرائن على الوجوب ، وشاع ذلك وذاع بلا نكير ، فأوجب العلم العادي باتفاقهم عليه . واعترض بأن استدلالهم بها على الوجوب كان في صيغ من الأمر محتفة بقرائن الوجوب بدليل استدلالهم بكثير منها على الندب ، وأجيب بأن استدلالهم بما استدلوا منها على الندب إنما كان بقرائن صارفة عن المعنى الحقيقي وهو الوجوب معينة للمعنى المجازي وهو الندب علمنا ذلك باستقراء الواقع منهم في الصيغ المنسوب إليها الوجوب والصيغ المنسوب إليها الندب في الكتاب والسنة وعلمنا بالتتبع أن فهم الوجوب لا يحتاج إلى قرينة لتبادره إلى الذهن بخلاف فهم الندب فإنه يحتاج إليها . واعترض على هذا الدليل أيضاً بأنه استدلال بالدليل الظني في الأصول لأنه إجماع سكوتي مختلف في حجيته كما تقدم ولا يستدل بالأدلة الظنية في الأصول . وأجيب بأنه لو سلم كون ذلك الدليل ظنياً لكفى في الأصول وإلا تعذر العمل بأكثر الظواهر لأنها لا تفيد إلا الظن والقطع لا سبيل إليه كما لا يخفى على من تتبع مسائل الأصول وأيضاً نحن نقطع بتبادر الوجوب من الأوامر المجردة عن القرائن الصارفة ، وذلك يوجب القطع به لغة وشرعاً . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى لإبليس ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وليس المراد منه الاستفهام بالاتفاق ، بل الذم وأنه لا عذر له في الإخلال بالسجود بعد ورود الأمر به له في ضمن قوله سبحانه للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس فدل ذلك على أن معنى الأمر المجرد عن القرائن الوجوب ولو لم يكن دالاً على الوجوب لما ذمه الله سبحانه وتعالى على الترك ، ولكان لإبليس أن يقول إنك ألزمتني السجود . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون فذمهم على ترك فعل ما قيل لهم افعلوه ، ولو كان الأمر يفيد الندب لما حسن هذا الكلام كما أنه لو قال لهم الأولى أن تفعلوا ويجوز لكم تركه فإنه ليس له أن يذمهم على تركه واعترض على هذا بأنه سبحانه وتعالى إنما ذمهم لأنهم لم يعتقدوا حقيقة الأمر لا لأنهم تركوا المأمور به ، والدليل عليه قوله ويل يومئذ للمكذبين وأيضاً فصيغة إفعل قد تفيد الوجوب عند اقتران بعض القرائن بها . فلعله سحانه وتعالى إنما ذمهم ، لأنه قد كان قد وجدت قرينة دالة على الوجوب . وأجيب عن الاعتراض الأول بأن المكذبين في قوله ويل يومئذ للمكذبين إما أن يكونوا هم الذين تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا أو غيرهم ، فإن كان الأول جاز أن يستحقوا الذم بترك الركوع والويل بسبب التكذيب ، وإن يكن الثاني لم يكن إثبات الويل للإنسان بسبب التكذيب منافياً لثبوت الذم لإنسان آخر بسبب تركه للمأمور به . وأجيب عن الاعتراض الثاني بأن الله سبحانه وتعالى إنما ذمهم لمجرد أنهم تركوا الركوع لما قيل لهم اركعوا ، فدل على أن منشأ الذم هذا القدر لا القرينة . واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وتعالى : فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي يعرضون عنه بترك مقتضاه أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم لأنه رتب على ترك مقتضى أمره إصابة الفتنة في الدنيا أو العذاب الأليم في الآخرة فأفادت الآية بما تقتضيه إضافة الجنس من العموم أن لفظ الأمر يفيد الوجوب شرعاً مع تجرده عن القرائن إذ لولا ذلك لقبح التحذير . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : أفعصيت أمري أي تركت مقتضاه فدل على أن تارك المأمور به عاص وكل عاص متوعد وهو دليل الوجوب لهذه الآية ، ولقوله ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم والأمر الذي أمره به هو قوله اخلفني في قومي وهو أمر مجرد عن القرائن ، واعترض على هذا بأن السياق لا يفيد ذلك . وأجيب بمنع كونه لا يفيد ذلك . واستدلوا أيضاً بقوله سبحانه وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة والقضاء بمعنى الحكم وأمراً مصدراً من غير لفظة أو حال أو تمييز ولا يصح أن يكون المراد بالقضاء ما هو المراد في قوله فقضاهن سبع سماوات لأن عطف الرسول عليه يمنع ذلك فتعين أن المراد الحكم ، والمراد من الأمر القول لا الفعل . واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون والمراد منه الأمر حقيقة ، وليس بمجاز عن سرعة الإيجاد كما قيل وعلى هذا يكون الوجود مراداً بهذا الأمر أي أراد الله أنه كلما وجد الأمر يوجد المأمور به فكذا في كل أمر من الله تعالى ومن رسول الله صضص واستدلوا أيضاً بما صح عنه صضص من قوله لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة وكلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره فهاهنا تفيد انتفاء الأمر لوجود المشقة فهذا يدل على أنه لم يوجد الأمر بالسواك عند كل صلاة والإجماع قائم على أنه مندوب فلو كان المندوب مأموراً به لكان الأمر قائماً عند كل صلاة ، فلما لم يوجد الأمر علمنا أن المندوب غير مأمور به واعترض على هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يقال إن مراده لأمرتهم على وجه يقتضي الوجوب بقرائن تدل عليه لا مجرد الأمر ورد بأن كلمة لولا دخلت على الأمر فوجب أن لا يكون الأمر حاصلاً والندب حاصل فوجب أن لا يكون الندب أمراً والإلزام التناقض والمراد مجرد الأمر . واستدلوا أيضاً بذلك فقال لا إنما أنا شافع فنفى صضص الأمر منه مع ثبوت الشفاعة الدالة علىالندب وذلك يدل على أن المندوب غير مأمور به وإذا كان كذلك وجب أن لا يتناول الأمر الندب . واستدلوا أيضاً بأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستدلون بالأوامر على الوجوب ولم يظهر مخالف منهم ولا من غيرهم في ذلك فكان إجماعاً واستدلوا أيضاً بأن لفظ افعل إما أن يكون حقيقة في الوجوب فقط أو في الندب فقط أو فيهما معاً أو في غيرهما والأقسام الثلاثة الآخرة باطلة فتعين الأول لأنه لو كان للندب فقط لما كان الواجب مأموراً به فيمتنع أن يكون الأمر للندب فقط ولو كان لما لزم الجمع بين الراجح فعله مع جواز تركه وبين الراجح فعله مع المنع من تركه والجمع بينهما محال ولو كان حقيقة في غيرهما لزم أن يكون الواجب والمندوب غير مأمور بهما وأن يكون الأمر حقيقة فيما لا ترجح فيه وهو باطل ومعلوم أن الأمر يفيد رجحان الوجود على العدم وإذا كان كذلك وجب أن يكون مانعاً من الترك . واستدل القائلون بأنها حقيقة في الندب بما في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة : قال سمعت رسول الله صضص يقول : ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك الذين من قبلكم من كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم فرد ذلك إلى مشيئتنا وهو معنى الندب . وأجيب عن هذا بأنه دليل للقائلين بالوجوب لا للقائلين بالندب لأن ما لا نستطيعه لا يجب علينا وإنما يجب علينا ما نستطيعه والمندوب لا حرج في تركه مع الاستطاعة . واحتجوا أيضاً بأنه لا فرق بين قول القائل لعبده اسقني وبين قوله أريد أن تسقيني فليس إلا مجرد الإخبار بكونه مريداً للفعل وليس فيه طلب للفعل وهذا أشق ما احتجوا به مع كونه مدفوعاً بما سمعت وقد احتجوا بغير ذلك مما لا يفيد شيئاً . واحتج القائلون بأن صيغة الأمر مشتركة بين الوجوب والندب أو بينهما وبين الإباحة اشتراكاً لفظياً بأنه قد ثبت إطلاقها عليهما أو عليها والأصل في الإطلاق الحقيقة وأجيب بما تقدم من أن المجاز أولى من الاشتراك وأيضاً كان يلزم أن تكون الصيغة حقيقة في جميع معاني الأمر التي سيأتي بيانها لأنه قد أطلق عليها ولو نادراً ولا قائل بذلك . واحتج القائلون بأن الصيغة موضوعة لمطلق الطلب بأنه ثبت الرجحان في المندوب كما ثبت في الواجب وجعلها للوجوب بخصوصه لا دليل عليه وأجيب بأنه قد دل الدليل عليه كما تقدم في أدلة القائلين بالوجوب وأيضاً ما ذكروه هو إثبات اللغة بلوازم الماهيات وذلك أنهم جعلوا الرجحان لازماً للوجوب والندب وجعلوا صيغة الأمر لما بهذا الاعتبار واللغة لا تثبت بذلك . واحتج القائلون بالوقف بأنه لو ثبت تعيين الصيغة لمعنى من المعاني لثبت بدليل ولا دليل . وأجيب بأن الدليل قد دل على تعيينها باعتبار المعنى الحقيقي للوجوب كما قدمنا . وإذا تقرر لك هذا عرفت أن الراجح ما ذهب إليه القائلون بأنها حقيقة في الوجوب فلا تكون لغيره من المعاني إلا بقرينة لما ذكرناه من الأدلة ومن أنكر استحقاق العبد المخالف لأمر سيده للذم وأنه يطلق عليه بمجرد هذه المخالفة اسم العصيان فهو مكابر ومباهت فهذا يقطع النزاع باعتبار العقل . وأما باعتبار ما ورد في الشرع وما ورد من حمل أهله للصيغ المطلقة من الأوامر على الوجوب ففيما ذكرناه سابقاً ما يغني عن التطويل ولم يأت من خالف هذا بشيء يعد به أصلاً . واعلم أن هذا النزاع إنما هو في المعنى الحقيقي للصيغة كما عرفت ، وأم مجرد استعمالها فقد تستعمل في معان كثيرة . قال الرازي في المحصول : قال الأصوليون صيغة افعل مستعملة في خمسة عشر وجهاً للإيجاب كقوله أقيموا الصلاة وللندب كقوله فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ويقرب من التأديب كقوله صضص لابن عباس : كل مما يليك فإن الأدب مندوب إليه وإن كان قد جعله بعضهم قسماً مغايراً للمندوب وللإرشاد كقوله فاستشهدوا فاكتبوا والفرق بين الندب والإرشاد أن الندب لثواب الآخرة والإرشاد لمنافع الدنيا فإنه لا ينتقص الثواب بترك الاستشهاد في المداينات ولا يزيد بفعله ، وللإباحة ككلوا واشربوا وللتهديد كاعملوا ما شئتم واستفزز من استطعت ويقرب منه الإنذار كقوله قل تمتعوا وإن كان قد جعلوه قسماً آخر ، وللامتنان فكلوا مما رزقكم الله وللإكرام ادخلوها بسلام آمنين وللتسخير كونوا قردة وللتعجيز فاتوا بسورة من مثله وللإهانة ذق إنك أنت العزيز الكريم وللتسوية اصبروا أو لا تصبروا وللدعاء رب اغفر لي وللتمني كقوله : - ألا أيها الليل الطويل ألا انجل - . وللاحتقار ألقوا ما أنتم ملقون وللتكوين كن فيكون انتهى . فهذه خمسة عشر معنى ومن جعل التأديب والإنذار معنيين مستقلين جعلها سبعة عشر معنى وجعل بعضهم من المعاني الأذن نحو كلوا من الطيبات والخبر نحو فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً والتفويض نحو فاقض ما أنت قاض والمشورة كقوله فانظر ماذا ترى والاعتبار نحو انظروا إلى ثمره إذا أثمر والتكذيب نحو قل هاتوا برهانكم والالتماس كقولك لنظيرك : افعل ، والتلهيف نحو موتوا بغيظكم والتصبير نحو فذرهم يخوضوا ويلعبوا فتكون جملة المعاني ستة وعشرين معنى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . الفصل الرابع التكرار وعلاقته بصيغة الأمر ذهب جماعة من المحققين إلى أن صيغة الأمر باعتبار الهيئة الخاصة موضوعة لمطلق الطلب من غير إشعار بالوحدة والكثرة واختاره الحنفية والآمدي وابن الحاجب والجويني والبيضاوي : قال السبكي وأراه رأى أكثر أصحابنا يعني الشافعية واختاره أيضاً المعتزلة وأبو الحسين البصري وأبو الحسن الكرخي قالوا جميعاً إلا أنه لا يمكن تحصيل المأمور به بأقل من مرة فصارت المرة من ضروريات الإتيان بالمأمور به لا أن الأمر يدل عليها بذاته ، وقال جماعة أن صيغة الأمر تقتضي المرة الواحدة لفظاً وعزاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني إلى أكثر الشافعية . وقال إنه مقتضى كلام الشافعي وإنه الصحيح الأشبه بمذاهب العلماء وبه قال أبو علي الجبائي وأبو هاشم وأبو عبد الله البصري وجماعة من قدماء الحنفية . وقال جماعة أنها تدل على التكرار مدة العمر مع الإمكان وبه قال أبو إسحاق الشيرازي والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين . وإنما قيدوه بالإمكان لتخرج أوقات ضروريات الإنسان وقال الغزالي في المستصفى أن مرادهم من التكرار العموم قال أبو زرعة يحتمل أنهم أرادوا التكرار المستوعب لزمان العمر وهو كذلك عند القائل لكن بشرط الإمكان دون أزمنة قضاء الحاجة والنوم وضروريات الإنسان ويحتمل أنهم أرادوا ما ذهب إليه بعض الحنفية والشافعية من أن الصيغة المقتضية للتكرار هي المعلقة على شرط أو صفة . وقيل إنها للمرة وتحتمل التكرار وهذا مروي عن الشافعي . وقيل بالوقف واختلف في تفسير معنى هذا الوقف فقيل المراد منه لا ندري أوضع للمرة أو للتكرار أو للمطلق وقيل المراد منه لا يدري مراد المتكلم للاشتراك بينها وبه قال القاضي أبو بكر وجماعة وروي عن الجويني . احتج الأولون بإطباق أهل العربية على هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص رمان وخصوص المطلوب من قيام وقعود وغيرهما إنما هو من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فحصل من مجموع الهيئة والمادة أن تمام مدلول الصيغة هو طلب الفعل فقط والبراءة بالخروج عن عهدة الأمر تحصل بفعل المأمور به مرة واحدة لتحقق ما هو المطلوب بإدخاله في الوجود بها ولهذا يندفع ما احتج به من قال إنها للمرة حيث قال إن الامتثال يحصل بالمرة فيكون لها وذلك لأن حصوله بها لا يستدعي اعتبارها جزءاً من مدلول الأمر لأن ذلك حاصل على تقدير الإطلاق كما عرفت . واحتج الأولون أيضاً بأن مدلول الصيغة طلب حقيقة الفعل والمرة والتكرار خارجان عن حقيقة فوجب أن يحصل الامتثال به في أيهما وجد ولا يتقيد بأحدهما . واعترض على هذا بأنه استدلال بمحل النزاع فإن منهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالمرة ومنهم من يقول هي الحقيقة المقيدة بالتكرار . واحتجوا أيضاً بأن المرة والتكرار من صفات الفعل كالقلة الكثرة ولا دلالة للموصوف على الصفة المعينة منهما واعترض على هذا بأنه إنما يقتضي انتفاء دلالة المادة على المرة والتكرار والكلام في الصيغة هل هي تدل على شيء منهما أم لا ؟ واحتمال الصيغة لهما لا يمنع ظهور أحدهما والمدعي إنما هو للدلالة ظاهراً لا نصاً . احتج القائلون بالتكرار أن تكرر المطلوب في النهي فعم الأزمان فوجب التكرار في الأمر لأنهما طلب . وأجيب بأن هذا قياس في اللغة وقد تقرر بطلانه وأجيب أيضاً بالفرق بينهما لأن النهي لطلب الترك ولا يتحقق إلا بالترك في كل الأوقات والأمر لطلب الإتيان بالفعل وهو يتحقق بوجوه مرة واعترض على هذا بأنه مصادرة على المطلوب لأن كون إثباته يحصل بمرة هو عين النزاع إذ للمخالف أن يقول هو للتكرار لا للمرة . وأجيب عن أصل التكرار بأنه يستلزم المنع من فعل غير المأمور به لأنه يستغرق جميع الأوقات ومن ضروريات البشر أنه يشغله شأن عن شأن آخر فيتعطل عما سواه مما هو مأمور به وعن مصالح دينه ودنياه بخلاف النهي فإن دوام الترك لا يشغله عن شيء من الأفعال . واعترض على هذا بأن النزاع إنما هو في مدلول الصيغة هل تدل على التكرار أم لا ؟ وإرادة المتكلم التكرار لا تستلزم كون التكرار مدلولاً للصيغة فيجوز أن يكون اللفظ دالاً على التكرار لكن المتكلم لا تتعلق به إرادته . واستدل القائلون بالتكرار أيضاً بأن الأمر نهى عن أضداده وهي كل ما لا يجتمع مع المأمور به ومنها تركه وهو أي النهي يمنع من المنهي عنه دائماً فيتكرر الأمر في المأمور به إذا لو لم يتكرر واكتفى بفعله مرة في وقت واحد لم يمنع من أضداده في سائر الأوقات . وأجيب بأن تكرار النهي الذي تضمنه الأمر فرع تكرر الأمر فإثبات تكرر الأمر بتكرر النهي دور لتوقف كل من التكرارين على الآخر . واحتج من قال بأنه يتكرر إذا كان معلقاً على شرط أو صفة بأنه تكرر في نحو قوله وإن كنتم جنباً فاطهروا وأجيب بأن الشرط هنا علة فيتكرر المأمور به بتكررها اتفاقاً ضرورة تكرر المعلول بتكرر علته والنزاع إنما هو دلالة الصيغة مجردة . قال الرازي في المحصول أن صيغة افعل لطلب إدخال ماهية المصدر في الوجود فوجب أن لا تدل على التكرار بيان الأولى أن المسلمين أجمعوا على أن أوامر الله تعالى منها ما جاء على التكرار كما في قوله تعالى : أقيموا الصلاة ومنها ما جاء على غير التكرار كما في الحج وفي حق العباد أيضاً قد لا يفيد التكرار . فإن السيد إذا أمر عبده بدخول الدار أو بشراء اللحم لم يعقل منه التكرار ولو ذمه السيد على ترك التكرار للأمة العقلاء ولو كرر العبد الدخول حسن من السيد أن يلومه ويقول له إني أمرتك بالدخول وقد دخلت فيكفي ذلك وما أمرناك بتكرار الدخول وقد يفيد التكرار فإنه إذا قال احفظ دابتي فحفظها ثم أطلقها يذم . إذا ثبت هذا فنقول الاشتراك والمجاز خلاف الأصل فلا بد من جعل اللفظ حقيقة في القدر المشترك بين الصورتين وما ذلك إلا طلب إدخال ماهية المصدر في الوجوه وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يدل على التكرار لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الصورتين المختلفتين لا دلالة فيه على ما به تمتاز إحدى الصورتين عن الأخرى لا بالوضع ولا بالاستلزام والأمر لا دلالة فيه ألبتة على التكرار ولا على المرة الواحدة بل على طلب الماهية من حيث هي هي إلا أنه لا يمكن إدخال تلك الماهية في الوجود بأقل من المرة الواحدة فصارت المرة الواحدة من ضروريات الإتيان بالمأمور به فلا جرم دل على المرة الواحدة من هذا الوجه ثم أطال الكلام استدلالاً للمذهب الأول ودفعاً لحجج المذاهب الآخرة مما قد تقدم حاصل معناه . وإذا عرفت جميع ما حررناه تبين أن القول الأول هو الحق الذي لا محيص عنه وأنه لم يأت أهل الأقوال المخالفة له بشيء يعتد به . هذا إذا كان الأمر مجرداً عن التعليق بعلة أو صفة أو شرط أما إذا كان معلقاً بشيء من هذه فإن كان معلقاً على علة فقد وقع الإجماع على وجوب اتباع العلة وإثبات الحكم بثبوتها فإذا تكررت تكرر وليس التكرار مستفاداً هاهنا من الأمر وإن كان معلقاً على شرط أو صفة . فقد ذهب كثير ممن قال أن الأمر لا يفيد التكرار إلى أنه مع هذا التعليق يقتضي التكرار لا من حيث الصيغة بل من حيث التعليق لها على ذلك الشرط أو الصفة إن كان في الشرط أو الصفة ما يقتضي ذلك وإلا فلا تكرار كقول السيد لعبده : اشتر اللحم إن دخلت السوق . وقول الرجل لامرأته . إن دخلت الدار فأنت طالق . وكذا لو قال أعط الرجل العالم درهماً أو أعط الرجل الفقير درهماً . والحال أنه لا دلالة للصيغة على التكرار إلا بقرينة تفيد وتدل عليه فإن حصلت حصل التكرار وإلا فلا . فلا يتم استدلال المستدلين على التكرار بصورة خاصة اقتضى الشرع أو اللغة أن الأمر فيها يفيد التكرار لأن ذلك خارج عن محل النزاع وليس النزاع إلا في مجرد دلالة الصيغة مع عدم القرينة فالتطويل في مثل هذا المقام بذكر الصور التي ذكرها أهل الأصول لا يأتي بفائدة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الخامس : اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أو لا اختلف في الأمر هل يقتضي الفور أم لا ؟ فالقائلون بأنه يقتضي التكرار يقولون بأنه يقتضي الفور لأنه يلزم القول بذلك مما لزمهم من استغراق الأوقات بالفعل المأمور على ما مر وأما من عداهم فيقولون المأمور به لا يخلو إما أن يكون مقيداً بوقت يفوت الأداء بفواته أو لا وعلى الثاني يكون لمجرد الطلب فيجوز التأخير على وجه لا يفوت المأمور به وهذا هو الصحيح عند الحنفية وعزي إلى الشافعي وأصحابه واختاره الرازي والآمدي وابن الحاجب والبيضاوي . قال ابن برهان لم ينقل عن أبي حنيفة و الشافعي نص وإنما فروعهما تدل على ذلك . قال في المحصول والحق أنه موضوع لطلب الفعل وهو القدر المشترك بين طلب الفعل على الفور وطلبه على التراخي من غير أن يكون في اللفظ إشعار بخصوص كونه فوراً أو تراخياً انتهى . وقيل أنه يقتضي الفور فيحب الإتيان به في أول أوقات الامكان للفعل المأمور به وعزى إلى المالكية والحنابلة وبعض الحنفية والشافعية ، وقال القاضي الأمر يوجب إما الفور أو العزم على الإتيان به في ثاني الحال وتوقف الجويني في أنه باعتبار اللغة للفور أو التراخي قال فيمتثل المأمور بكل من الفور والتراخي لعدم رجحان أحدهما على الاخر مع التوقف في إثمه بالتراخي لا بالفور لعدم احتمال وجوب التراخي وقيل بالوقف في الامتثال أي لا ندري هل يأثم إن بادر أو ان أخر لاحتمال وجوب التراخي . استدل القائلون بالتكرار المستلزم لاقتضاء الفور بما تقدم في الفصل الذي قبل هذا وقد تقدم دفعه واحتج من قال بأنه في غير المقيد بوقت لمجرد الطلب بما تقدم أيضاً من أن دلالته لا تزيد على مجرد الطلب بفور أو تراخي لا بحسب المادة ولا بحسب الصيغة لأن هيئة الأمر لا دلالة لها إلا على الطلب في خصوص زمان وخصوص المطلوب من المادة ولا دلالة لها إلا على مجرد الفعل فلزم أن تمام مدلول الصيغة طلب الفعل فقط وكونها دالة على الفور أو التراخي خارج عن مدلوله وإنما يفهم ذلك بالقرائن فلا بد من جعلها حقيقة للقدر المشترك بين القسمين دفعا للاشتراك والمجاز والموضوع لافادة القدر المشترك بين القسمين لا يكون فيه إشعار بخصوصية أحدهما على التعيين لأن تلك الخصوصية مغايرة لمسمى اللفظ وغير لازمة فثبت أن اللفظ لا إشعار له بخصوص كونه فوراً ولا بخصوص كونه تراخياً واحتجوا أيضاً بأنه يحسن من السيد أن يقول لعبده افعل الفعل الفلاني في الحال أو غداً ولو كان كونه فوراً داخلاً في لفظ افعل لكان الأول تكراراً والثاني نقضاً وأنه غير جائز . واحتجوا أيضاً بأن أهل اللغة قالوا لا فرق بين قولنا تفعل وبين قولنا افعل إلا أن الأول خبر والثاني إنشاء لكن قولنا تفعل لا إشعار له بشيء من الأوقات فإنه يكفي في صدقه الإتيان به في أي وقت كان فكذلك الأمر وإلا لكان بينهما فرق سوى كون أحدهما خبراً والثاني إنشاء . واحتج القائلون بالفور بأن مخبر بكلام خبري كزيد قائم ومنشىء كبعت وطالق يقصد الحاضر عند الإطلاق عن القرائن حتى يكون موجوداً للبيع والطلاق بما ذكر فكذا الأمر والجامع بينه وبين الخبر كون كل منهما من أقسام الكلام وبينه وبين سائر الإنشاآت التي يقصد بها الحاضر كون كل منها إنشاء . وأجيب بأن ذلك قياس في اللغة لأنهم قاسوا الأمر في أفادته الفور على الخبر والانشاء للجامع المذكور وهو مع اتحاد الحكم غير جائز فكيف مع اختلافه فإنه في الخبر والانشاء تعين الزمان الحاضر للمظروفية ويمتنع ذلك في الأمر لأن الحاصل لا يطلب . واحتجوا ثانياً بأن النهي يفيد الفور فكذا الأمر والجامع بينهما كونهما طلباً . وأجيب بأنه قياس في اللغة وقد تقدم بطلانه وأيضاً الفور في النهي ضروري لأن المطلوب الترك مستمراً على ما مر بخلاف الأمر وأيضاً المطلوب بالنهي هو الامتثال لأنه يفيد الفور ، فالمراد أن الفور ضروري في الامتثال للنهي . واحتجوا ثالثاً بأن الأمر نهي عن الأضداد والنهي للفور فيلزم أن يكون الأمر للفور . وأجيب بما تقدم من الدفع بمثل هذا في الفصل الذي قبل هذا . واحتجوا رابعاً بأن الله ذم إبليس على عدم الفور بقوله ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك حيث قال وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا فدل على أن للفور وإلا لما استحق الذم لأنه لم يتضيق عليه وقته . وأجيب عن هذا بأن ذلك حكاية حال فلعله كان مقروناً بما يدل على الفور ولا يخفى ما في هذا الجواب من الضعف فإنه لو كان مجرد التجويز مسوغاً لدفع الأدلة لم يبق دليل إلا وقيل فيه مثل ذلك . وأجيب أيضاً بأن هذا الأمر لإبليس مقيد بوقت وهو وقت نفخ الروح في آدم بدليل قوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فذم إبليس على تركه الامتثال للأمر في ذلك الوقت المعين . واحتجوا خامساً بقوله سبحانه وتعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وقوله فاستبقوا الخيرات وأجيب بأن هاتين الآيتين لو دلتا على وجوب الفور لما فيهما من الأمر بالمسارعة والاستباق لم يلزم منه دلالة نفس الأمر على الفور . واحتجوا سادساً بأنه لو جاز التأخير لجاز إما ألى بدل أو غير بدل والقسمان باطلان فالقول بجواز التأخير باطل . أما فساد القسم الأول فهو أن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل من كل الوجوه فإذا أتى بهذا البدل وجب أن يسقط عنه التكليف وبالانفاق ليس كذلك . وأما فساد القسم الثاني فذلك يمنع من كونه واجباً لأنه يفهم من قولنا ليس بواجب إلا أنه يجوز تركه إلى غير بدل . وأجيب باختيار الشق الأول ويقوم البدل مقام المبدل في ذلك الوقت لا في كل الأوقات فلا يلزم من الإتيان بالبدل سقوط الأمر بالمبدل ورد بأنه إذا كان مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهية مرة واحدة في أي وقت كان فهذا البدل قائم مقامه في هذا المعنى فقد حصل ما هو المقصود من الأمر بتمامه فوجب سقوط الأمر بالكلية وإنما يتم ما ذكروه من الجواب بتقدير اقتضاء الأمر للتكرار وهو باطل كما تقدم واحتجوا سابعاً بأنه لو جاز التأخير لوجب أن يكون إلى وقت معين أو إلى آخر أزمنة الامكان والأول منتف لأن الكلام في غير الموقت والثاني تكليف ما لا يطلق لكونه غير معين عند المكلف والتكليف بإيقاع الفعل في وقت مجهول تكليف بما لا يطاق . وأجيب بالنقض الاجمالس والنقض التفصيلي أما الاجمالي فلجواز التصريح بالإطلاق بأن يقول الشارع إفعل ولك التأجير فإنه جائز إجماعاً بإيجاب التأخير إلى آخر أزمنة الإمكان أم جواز التأخير إلى وقت يعينه المكلف فلا يلزم منه تكليف ما لا يطاق لتمكنه من الامتثال في أي وقت أراد إيقاع الفعل فيه . واحتج القاضي لما ذهب إليه أنه ثبت في خصال الكفارة بأنه لو أتى بإحداها أجزأ ولو أخل بها عصى وأن العزم يقوم مقام الفعل فلا يكون عاصياً إلا بتركهما . وأجيب بأن الطاعة إنما هي بالفعل بخصوصه فهو مقتضى الأمر فوجوب العزم ليس مقتضاه . واستدل الجويني على ما ذهب إليه من الوقف بأن الطلب متحقق والشك في جواز التأخير فوجب الفور ليخرج عن العهدة بيقين . واعتراض عليه بأن هذا الاستدلال لا يلائم ما تقدم له من التوقف في كون الأمر للفور وأيضاً وجوب المبادرة ينافي قوله المتقدم حيث قال أقطع بأن المكلف مهما أتى بالمأمور فهو موقع بحكم الصيغة للمطلوب واعتراض عليه أيضاً بأن التأخير لا نسلم أنه مشكوك فيه بل التأخير جائز حقاً لما تقدم من الأدلة فالحق قول من قال أنه لمطلق الطلب من غير تقييد بفور ولا تراخ ولا ينافي هذا اقتضاء بعض الأوامر للفور كقول القائل أسقني أطعمني فإنما ذلك من حيث أن مثل هذا الطلب يراد منه الفور فكان ذلك قرينة على إرادته به وليس النزاع في مثل هذا إنما النزاع في الأوامر المجردة عن الدلالة على خصوص الفور أو التراخي كما عرفت .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل السادس في الأمر المعين ذهب الجمهور من أهل الأصول ومن الحنفية والشافعية والمحدثين إلى أن الشيء المعين إذا أمر به كان ذلك الأمر به نهياً عن الشيء المعين المضاد له سواء كان الضد واحداً كما إذا أمره بالإيمان فإنه يكون نهياً عن الكفر وإذا أمره بالحركة فإنه يكون نهياً عن السكون أو كان الضد متعدداً كما إذا أمره بالقيام فإنه يكون نهياً عن القعود والاضطجاع والسجود وغير ذلك . وقيل ليس نهياً عن الضد ولا يقتضيه عقلاً واختاره الجويني والغزالي وابن الحاجب وقيل أنه نهي عن واحد من الأضداد غير معين وبه قال جماعة من الحنفية والشافعية والمحدثين ومن هؤلاء القائلين بأنه نهي عن الضد من عمم فقال أنه نهي عن الضد في الأمر الإيجابي والأمر الندبي ففي الأول نهي تحريم وفي الثاني نهي كراهة ومنهم من خصص ذلك بالأمر الإيجابي دون الندبي ومنهم أيضاً من جعل النهي عن الشيء أمراً بضده كما جعل الأمر بالشيء نهياً عن ضده ومنهم من اقتصر على كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده وسكت عن النهي وهذا معزو إلى الأشعري ومتابعيه . واتفق المعتزلة على أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده والنهي عن الشيء ليس أمراً بضده وذلك لنفيهم الكلام النفسي ومع اتفاقهم على هذا النفي أن نفي كون كل واحد منهما عيناً لإثبات ضده أو نفيه اختلفوا هل يوجب كل من الصيغتين حكماً في الضد أم لا فأبو هاشم ومتابعوه قالوا لا يوجب شيء منهما حكماً في الضد بل الضد مسكوت عنه وأبو الحسين وعبد الجبار قالا الأمر يوجب حرمة الضد وفي عبارة أخرى عنهم يدل عليها وفي عبارة ثالثة عنهم يقتضيها ، وقال الرازي والقاضي أبو زيد وشمس الأئمة السرخسي وصدر الإسلام وأتباعهم من المتأخرين الأمر يقتضي كراهة الضد ولو كان إيجاباً والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة ولو كان النهي تحريماً ، وقال جماعة منهم صدر الإسلام وشمس الأئمة وغيرهما أن النزاع إنما هو في أمر الفور لا التراخي وفي الضد الوجودي المستلزم للترك لا في الترك قالوا وليس النزاع في لفظ الأمر والنهي بأن يقال للفظ الأمر نهي وللفظ نهي وللفظ النهي أمر للقطع بأن الأمر موضوع بصيغة افعل والنهي موضوع بصيغة لا تفعل وليس النزاع أيضاً في مفهومها للقطع بأنهما متغايران بل النزاع في أن طلب الفعل الذي هو الأمر عين طلب ترك ضده الذي هو النهي وطلب الترك الذي هو النهي عين طلب فعل ضده الذي هو الأمر وهكذا حرروا محل النزاع . وفائدة الخلاف في كون الأمر بالشيء نهياً عن ضده استحقاق العقاب بترك المأمور به فقط إذا قيل بأنه ليس نهياً عن ضده أو به وبفعل الضد إذا قيل بأنه نهى عن فعل الضد لأنه خالف أمراً ونهياً وعصى بهما وهكذا في النهي . استدل القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده بأنه لو لم يكن الأمر بالشيء نهياً عن ضده لمكان إما مثله أو ضده أو خلافه واللازم باطل بأقسامه أما الملازمة فلأن كل متغايرين إما أن يتساويا في صفات النفس أو لا والمعنى بصفات النفس ما لا يحتاج الوصف به إلى تعقل أمر زائد عليه كالإنسانية للإنسان والحقيقة والوجود بخلاف الحدوث والتحيز فإن تساويا فيها فهما مثلان كسوادين أو بياضين وإلا فإما أن يتنافيا بأنفسهما أي يمتنع اجتماعهما في محل واحد بالنظر إلى ذاتيهما أولاً فإن تنافيا بأنفسهما فضدان كالسواد والبياض وإلا فخلافان كالسواد والحلاوة وأما انتفاء اللازم بأقسامه فلأنهما لو كانا ضدين أو مثلين لم يجتمعا في محل واحد وهما يجتمعان إذ جواز الأمر بالشيء والنهي عن ضده معاً ووقوعه ضروري ولو كانا خلافين لجاز اجتماع كل واحد منهما مع ضد الآخر ومع خلافه لأن الخلافين حكمهما كذلك كما يجتمع السواد وهو خلاف الحلاوة مع الحموضة ومع الرائحة فكان يجوز أن يجتمع الأمر بالشيء مع ضد النهي عن ضده وهو الأمر بضده وذلك محال لأنه يكون الأمر حينئذ طلب ذلك الشيء في وقت طلب فيه عدمه ، وأجيب بمنع كون لازم كل خلافين ذلك أي جواز اجتماع كل مع ضد الآخر لجواز تلازمهما الضد للآخر وحينئذ فالنهي جواز الانفكاك في المتغايرين كالجوهر مع العرض والعلة مع المعلول فلا يجامع أحد الخلافين على تقدير تلازمهما الضد الآخر وحينئذ فالنهي إذا ادعى كون الأمر إياه إذا كان طلب ترك ضد المأمور به اخترنا كونهما خلافين ولا يجب اجتماع النهي اللازم من الأمر مع ضد طلب المأمور به كما زعموا كالأمر بالصلاة والنهي عن الأكل فإنهما خلافان ولا يلزم من كونهما خلافين اجتماع الصلاة المأمور بها مع إباحة الأكل الذي هو ضد النهي عن الأكل . واستدلوا أيضاً بأن فعل السكون عين ترك الحركة وطلب فعل السكون طلب لترك الحركة وطلب تركها هي النهي . وأجيب بأن النزاع على هذا يرجع لفظياً في تسمية فعل المأمور به تركاً لضده وفي تسميته طلبه نهياً فإن كان ذلك باعتبار اللغة فلم يثبت فيها ما يفيده ذلك . ورد بمنع كون النزاع لفظياً بل هو في وحدة الطلب القائم بالنفس بأن يكون طلب الفعل عين طلب ترك ضده . وأجيب ثانياً بحصول القطع بطلب الفعل مع عدم خطور الضد وإنما يتم ما ذكروه من كون فعل السكون عين ترك الحركة فيما كان إحدهما ترك الآخر لا في الأضداد الوجودية فطلب ترك أحدهما لا يكون طلباً للمأمور به لأنه يتحقق تركه في ضمن ضد آخر . واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده ولا نقيضه بأنه لو كان الأمر بالشيء عين النهي عن الضد ومستلزماً له لزم تعقل الضد والقطع حاصل بتحقق الأمر بالشيء مع عدم خطور الضد على البال واعترض بأن الذي لا يخطر بالبال من الأضداد إنما هو الأضداد الجزئية وليست مرادة للقائل بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والنهي عن الشيء أمر بضده ، بل المراد الضد العام ، وهو ما لا يجامع المأمور به وتعقله لازم للأمر والنهي إذا طلب الفعل موقوف على العلم بعدمه لانتفاء طلب الحاصل المعلوم حصوله والعلم بالعدم ملزوم للعلم بالضد الخاص والضد الخاص ملزوم للضد العام ، فلا بد من تعقل الضد العام في الأمر بالشيء وكذلك لا بد منه في النهي عن الشيء . ولا يخفى ما في هذا الاعتراض من عدم التوارد ، فإن شرط التوارد الذي هو مدار الاعتراض كون مورد الإيجاب والسلب للمتخاصمين بحيث يكون قول كل منهما على طرف النقيض لقول الآخر والمستدل إنما نفى خطور الضد الخاص على الإطلاق فقول المعترض إن الذي لا يخطر هو الأضداد الجزئية موافقة معه فيها فلا تتحقق المناظرة بينهما باعتبار ذلك . نعم يجاب عنه بأن مراد المعترض من ذلك بيان غلط المستدل من حيث أنه اشتبه عليه مراد القائل بأن الأمر بالشيء نهي عن الضد فزعم أن مراده الأضداد الجزئية ، وليس كذلك ، بل الضد العام ، ولا يصح نفي خطورة بالبال لما تقدم فحينئذ تنعقد المناظرة بينهما ويتحقق التوارد ، وأيضاً هذا الاعتراض متناقض في نفسه ، فإن قول المعترض إن ما لا يخطر بالبال هو الأضداد الجزئية يناقض قوله إن العلم بعدم الفعل ملزوم العلم بالضد الخاص ، لأن الإيجاب الجزئي نقيض السلب الكلي عند اتحاد النسبة . وأجيب بمنع توقف الأمر بالفعل على العمل بعدم التلبس بذلك الفعل في حال الأمر به لأن المطلوب مستقبل فلا حاجة للطالب إلى الالتفات إلى ما في الحال من وجود الفعل أو عدمه ولو سلم توقف الأمر بالفعل على العلم بعدم التلبس به فالكف عن الفعل المطلوب مشاهد محسوس فقد تحقق ما توقف عليه الأمر بالفعل من العلم بعدم التلبس به ولا يستلزم شهود الكف بالسكون عن الحركة اللازمة لمباشرة الفعل المأمور به ولو سلم لزوم تعقل الضد في الجملة فمجرد تعلقه ليس ملزوماً لتعلق الطلب تركه الذي هو معنى النهي عن الضد لجواز الاكتفاء في الأمر بالشيء بمنع ترك الفعل المأمور به فترك المأمور به ضد له وقد تعقل حيث منع عنه لكنه فرق بين المنع عن الترك وبين طلب الكف عن الترك . وتوضيحه أن الآمر بفعل غير مجوز تركه فقد يخطر بباله تركه من حيث إنه لا يجوزه ملحوظاً بالتبع لا قصداً وبهذا الاعتبار يقال منع تركه ولا يقال طلب الكف عن تركه لأنه يحتاج إلى توجه قصدي . واستدل القائلون بأن الأمر بالشيء يتضمن النهي عن ضده بأن أمر الإيجاب طلب فعل يذم بتركه فاستلزم النهي عن تركه وعما يحصل الترك به وهو الضد للمأمور به فاستلزم الأمر المذكور النهي عن ضده . واعترض على هذا الدليل بأنه لو تم لزم تصور الكف عن الكف عن المأمور به لكل أمر إيجاب وتصور الكف عن الكف لازم لطلب الكف عن الكف واللازم باطل للقطع بطلب الفعل مع عدم خطور الكف عن الكف ولو سلم تصور الكف عن الكف منع كون الذم بالترك جزء الأمر الإيجابي أو لازم مفهومه لزوماً عقلياً واستلزام الأمر الإيجابي النهي عن تركه فرع كون الذم بالترك جزءاً أو لازماً ، وما قيل من أنه لو سلم أن الأمر بالشيء متضمن للنهي عن ضده لزم أن لا مباح إذ ترك المأمور به وضده يعم المباحات والمفروض أن الأمر يستلزم النهي عنها والمنهي منه لا يكون مباحاً فغير لازم إذ المراد من الضد المنهي عنه الضد المفوت لأمر وليس كل ضد مفوتاً ولا كل مقدر من المباحات ضداً مفوتاً كخطوة في الصلاة وابتلاع ريقه وفتح عينه ونحو ذلك فإنها أمور مغايرة بالذات للصلاة وبهذا الاعتبار يطلق الضد للصلاة لكنها لا تفوت الصلاة . وزاد القائلون بأن النهي عن الشيء يتضمن الأمر بضده كما أن الأمر بشيء يتضمن النهي عن ضده دليلاً آخر فقالوا أن النهي طلب ترك فعل وتركه بفعل أحد أضداده فوجب أحد أضداده وهو الأمر لأن ما لا يحصل الواجب إلا به واجب . ودفع بأنه يلزم كون كل من المعاصي المضادة واجباً كالزنا فإنه من حيث كونه تركاً للواط لكونه ضداً له يكون واجباً ويكون اللواط من حيث كونه تركاً للزنا واجباً . ودفع أيضاً بأنه يستلزم أن لا يوجد مباح لأن كل مباح ترك المحرم وضد له فإن قيل غاية ما يلزم وجوب أحد المباحات المضادة لا كلها فيقال أن وجوب أحد الأشياء لا على التعيين بحيث يحصل ما هو الواجب بأداء كل واحد منها ينافي الإباحة كما في خصال الكفارة ودفع أيضاً بمنع وجوب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به . ورد بأنه لو لم يجب ما لا يتم الواجب أو المحرم إلا به لجاز تركه وذلك يستلزم جواز ترك المشروط في الواجب وجواز فعل المشروط في المحرم بدون شرطه الذي لا يتم إلا به واستدل المخصصون لأمر الإيجاب بأن استلزام الذم للترك للنفي إنما هو في أمر الوجوب واستدل القائل بأن الأمر يقتضي كراهة الضد ولو إيجاباً والنهي يقتضي كون الضد سنة مؤكدة بمثل ما استدل به القائلون بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده إن كان واحد وإلا فعن الكل وإن النهي أمر بالضد المتحد وفي المتعدد بواحد غير معين . ويجاب عنه بأن ذكر الكراهة في جاتب الأمر وذكر السنية في جانب النهي يوجب الاختلاف بينهم ، وإذا عرفت ما حررناه من الأدلة والردود بها فاعلم أن الأرجح في هذه المسألة أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده بالمعنى الأعم فإن اللازم بالمعنى الأعم هو أن يكون تصور الملزوم واللازم معاً كافياً في الجزم باللزوم بخلاف اللازم بالمعنى الأخص فإن العلم بالملزوم هناك يستلزم العلم باللازم وهكذا النهي عن الشيء فإنه يستلزم الأمر بضده بالمعنى الأعم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل السابع الاتيان بالمأمور به على وجهه والخلاف الواقع بين أهل الأصول هل يوجب الإجزاء أو لا إعلم أن الإتيان بالمأمور به على وجهه الذي أمر به الشارع قد وقع الخلاف فيه بين أهل الأصول . هل يوجب الأجزاء أم لا ؟ وقد فسر الأجزاء بتفسيرين أحدهما حصول الإمتثال به والآخر سقوط القضاء به فعلى التفسير الأول أن الإتيان بالمأمور به على وجهه يقتضي تحقق الإجزاء المفسر بالامتثال وذلك متفق عليه فإنه معنى الامتثال وحقيقته ذلك وإن فسر بسقوط القضاء فقد اختلف فيه جماعة من أهل الأصول أن الإتيان بالمأمور به على وجه يستلزم سقوط القضاء وقال القاضي عبد الجبار لا يستلزم . استدل القائلون بالاستلزام بأنه لو لم يستلزم سقوط القضاء لم يعلم امتثال أبداً واللازم منتف فالملزوم مثله أما الملازمة فلأنه حينئذ يجوز أن يأتي بالمأمور به ولا يسقط عنه بل يجب عليه فعله مرة أخرى قضاء وكذلك القضاء إذا فعله لم يسقط كذلك وأما انتفاء اللازم فمعلوم قطعاً واتفاقاً ورأياً إن القضاء عبارة عن استدراك ما قد فات من مصلحة الأداء والفرض أنه قد جاء بالمأمور به على وجهه ولم يفت منه شيء وحصل المطلوب بتمامه فلو أتى به استدراكاً لكان تحصيلاً للحاصل . قال في المحصول فعل المأمور به يقتضي الإجزاء خلافاً لأبي هاشم وأتباعه . لنا وجوه : الأول : أنه أتى بما أمر به فوجب أن يخرج عن العهدة وإنما قلنا إنه أتى بما أمر به لأن المسألة مرفوضة فيما إذا كان الأمر كذلك وإنما قلنا يلزم أن يخرج عن العهدة لأنه لو بقي الأمر بعد ذلك لبقي إما متناولاً للمأتي أو لغيره والأول باطل لأن الحاصل لا يمكن تحصيله . والثاني : باطل لأنه يلزم أن يكون الأمر قد كان متناولاً لغيره ذلك الذي وقع مأتيا به ولو كان كذلك لما كان المأتي به تمام متعلق الأمر وقد فرضناه كذلك هذا خلف . والثاني أنه لا يخلو إما يجب عليه فعله ثانياً وثالثاً أو يتفصى عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم والأول باطل لما بينا على أن الأمر يفيد التكرار والثاني هو المطلوب لأنه لا معنى للأجزاء إلا كونه كافياً في الخروج عن عهدة الأمر . والثالث : أنه لو لم يقتض الأجزاء لكان يجوز أن يقول السيد لعبده إفعل فإذا فعلت لا يجزىء عنك لو قال ذلك أحد لعد مناقضاً . احتج المخالف بوجوه : الأول : أن النهي لا يدل على الفساد بمجرده فالأمر يجب أن لا يدل على الأجزاء بمجرده . والثاني : أن كثيراً من العبادات يجب على الشارع فيها إتمامها والمضي فيها ولا تجزئه عن المأمور به كالحجة الفاسدة والصوم الذي جامع فيه . والثالث : أن الأمر بالشيء لا يفيد إلا كونه مأموراً به فأما أن الإتيان به يكون سبباً لسقوط التكليف فذاك لا يدل عليه بمجرد الأمر . والجواب عن الأول أنا إن سلمنا أن النهي لا يدل على الفساد لكن الفرق بينه وبين الأمر أن نقول النهي يدل على منعه من فعله وذلك لا ينافي أن نقول إنك لو أتيت به لجعلته سبباً لحكم آخر أما الأمر فلا دلالة فيه إلا على اقتضائه المأمور به مرة واحدة فإذا أتى به فقد أتى بتمام المقتضى فوجب أن لا يبقى الأمر بعد ذلك مقتضياً لشيء ، وعن الثاني أن تلك الأفعال مجزئة بالنسبة إلى الأمر الوارد بإتمامها وغير مجزئة بالنسبة إلى الأمر الأول لأن الأمر الأول اقتضى إيقاع المأمور به لا على حد الوجه الذي وقع به على وجه آخر وذلك الوجه لم يوجد وعن الثالث إن الإتيان بتمام المأمور به يوجب أن لا يبقى الأمر مقتضياً بعد ذلك وذلك هو المراد بالإجزاء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الثامن اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول اختلفوا هل القضاء بأمر جديد أو بالأمر الأول ؟ هذه المسألة لها صورتان : الصورة الأولى : الأمر المقيد كما إذا قال افعل في هذا الوقت فلم يفعل حتى مضى فالأمر الأول هل يقتضي إيقاع ذلك الفعل فيما بعد ذلك الوقت فقيل لا يقتضي لوجهين : الأول : أن قول القائل لغيره افعل هذا الفعل يوم الجمعة لا يتناول الأمر وإذا لم يتناوله لم يدل عليه بنفي ولا إثبات . الثاني : أن أوامر الشرع تارة لا تستلزم وجوب القضاء كما في صلاة الجمعة وتارة تستلزمه ومع الاحتمال لا يتم الاستدلال فلا يلزم القضاء إلا بأمر جديد وهو الحق وإليه ذهب الجمهور وذهب جماعة من الحنابلة والحنفية والمعتزلة إلى أن وجوب القضاء يستلزمه بالأداء في الزمان المعين لأن الزمان غير داخل في الأمر بالفعل ورد بأنه داخل لكونه من ضروريات الفعل المعين وقته وإلا لزم أن يجوز التقديم على ذلك الوقت المعين واللازم باطل فالملزوم مثله . الصورة الثانية : الأمر المطلق وهو أن يقول افعل ولا يقيده بزمان معين فإذا لم يفعل المكلف ذلك في أول أوقات الإمكان فهل يجب فعله فيما بعد أو يحتاج إلى دليل فمن لم يقل بالفور يقول إن ذلك الأمر المطلق يقتضي الفعل مطلقاً فلا يخرج المكلف عن العهدة إلا بفعله ومن قال بالفور قال إنه يقتضي الفعل بعد أول أوقات الإمكان وبه قال أبو بكر الرازي ومن القائلين بالفور من يقول إنه لا يقتضيه بل لا بد في ذلك من دليل زائد . قال في المحصول ومنشأ الخلاف أن قول القائل لغيره افعل هل معناه افعل في الزمان الثاني ؟ فإن عصيت ففي الثالث فإن عصيت ففي الرابع ثم كذلك أبداً أو معناه في الثاني من غير بيان حال الزمان الثالث والرابع فإن قلنا بالأول اقتضى الأمر الأول الفعل في سائر الأزمان وإن قلنا بالثاني لم يقتضه والحق أن الأمر المطلق يقتضي الفعل من غير تقييد بزمان فلا يخرج المكلف عن عهدته إلا بفعله وهو أداء وإن طال التراخي لأن تعيين بعض أجزاء الوقت له لا دليل عليه واقتضاؤه الفور لا يستلزم أنه بعد أول أوقات الإمكان قضاء بل غاية ما يستلزمه أن يكون المكلف آثماً بالتأخير عنه إلى وقت آخر . وقد استدل للقائلين بأن الأمر المقيد بوقت معين لا يقتضي إيقاع ذلك الفعل في وقت آخر بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لكان مقتضياً للقضاء واللازم باطل فالملزوم مثله أما الملازمة فبينة إذ الوجوب أخص من الاقتضاء وثبوت الأخص يستلزم ثبوت الأعم وأما انتفاء اللازم فلأنا قاطعون بأن قول القائل صم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة بوجه من وجوه الاقتضاء ولا يتناوله أصلاً واستدل لهم أيضاً بأنه لو وجب القضاء بالأمر الأول لاقتضاه ولو اقتضاه لكان أداء فيكونان سواء فلا يأثم بالتأخير وأجيب عن بأن الأمر المقيد بوقت أمر بإيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين فإذا فات قبل إيقاع الفعل فيه بقي الوجوب مع نقص فيه فكان إيقاعه فيما بعد قضاء ، ويرد هذا بمنع بقاء الوجوب بعد انقضاء الوقت المعين ، واستدل القائلون بأن القضاء بالأمر الأول بقولهم الوقت للمأمور به كالأجل للدين فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في أجله المعين بل يجب القضاء فيما بعده فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين ويجاب عن هذا بالفرق بينهما بالإجماع على عدم سقوط الدين إذا انقضى أجله ولم يقضه من هو عليه وبأن الدين يجوز تقديمه على أجله المعين بالإجماع واستدلوا محل النزاع فإنه لا يجوز تقديمه عليه بالإجماع . واستدلوا أيضاً بأنه لو وجب بأمر جديد لكان أداء لأنه أمر بفعله بعد ذلك الوقت المعين فكان كالأمر بفعله ابتداء . ويجاب عنه بأنه لا بد في الأمر بالفعل بعد انقضاء ذلك الوقت من قرينة تدل على أنه يفعل استدراكاً لما فات أما مع عدم القرينة الدالة على ذلك فما قالوه يلزم ولا يضرنا ولا ينفعهم . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل التاسع اختلفوا هل الأمر بالشيء أو بذلك الشيء أم لا اختلفوا هل الأمر بالشيء أو بذلك الشيء أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى الثاني وذهب جماعة إلى الأول . احتج الأولون بأنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء لكان قول القائل لسيد العبد مر عبدك ببيع ثوبي تعدياً على صاحب العبد بالتصرف في عبده بغير إذنه ولكان قول صاحب الثوب بعد ذلك للعبد لا تبعه مناقضاً لقوله للسيد مر عبدك ببيع ثوبي لورود الأمر والنهي على فعل واحد . وقال السبكي إن لزوم التعدي ممنوع لأن التعدي هو أمر عبد الغير بغير أمر سيده فإن أمره للعبد متوقف على أمر سيده وليس بشيء لأن النزاع في أن قوله مر عبدك الخ هل هو أمر للعبد ببيع الثوب أم لا ، لا في أن السيد إذا أمر عبده بموجب مر عبدك هل يتحقق عند ذلك أمر للعبد من قبل القائل مر عبدك يجعل السيد سفيراً أو وكيلاً . وأما استدلالهم بما ذكروه من المناقضة ، فقد أجيب عنه بأنه المراد هنا منعه من البيع بعد طلبه منه وهو نسخ لطلبه منه . واحتج الآخرون بأوامر الله سبحانه لرسوله صضص بأن يأمرنا فإنا مأمورون بتلك الأوامر وكذلك أمر الملك لوزيره بأن أمر فلاناً بكذا فإن الملك هو الآمر بذلك المأمور لا الوزير . وأجيب بأنه فهم ذلك في الصورتين من قرينة أن المأمور أولاً هو رسول ومبلغ عن الله وأن الوزير هو مبلغ عن الملك لا من لفظ الأمر المتعلق بالمأمور الأول ومحل النزاع هو هذا . أما لو قال قل لفلان افعل كذا فالأول آمر والثاني مبلغ بلا نزاع ، كذا نقل عن السبكي وابن الحاجب واختار السعد التسوية بينهما والأول أولى قال في المحصول فلو قال زيد لعمرو كل ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك فالأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء في هذه الصورة ولكنه بالحقيقة إنما جاء من قوله كل ما أوجب عليك فلاناً فهو واجب أما لو لم يقل ذلك كما في قوله صضص : مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع فإن ذلك لا يقتضي الوجوب على الصبي انتهى . وهذا الحديث ثابت في السنن ومما صلح مثالاً لمحل النزاع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في قوله صضص لعمر وقد طلق ابنه عبد الله امرأته وهي حائض مرة فليراجعها وقيل إنه ليس بما يصلح مثالاً لهذه المسألة لأنه قد صرح فيه بالأمر من الشارع بالمراجعة حيث قال فليراجعها بلام الأمر وإنما يكون مثالاً لو قال مره بأن يراجعها والظاهر أنه من باب قل لفلان افعل كذا وقد تقدم الخلاف فيه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل العاشر اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية يقتضي الآمر بها أو بشيء من جزئياتها اختلفوا أهل الأمر بالماهية الكلية يقتضي الآمر بها أو بشيء من جزئياتها على التعيين أم هو أمر بفعل مطلق تصدق عليه الماهية ويخبر به عنها صدق الكلي على جزئياته من غير تعيين ؟ فذهب الجمهور إلى الثاني وقال بعض الشافعية بالأول . احتج الأولون بأن الماهية الكلية يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب وإلا امتنع الامتثال وهو خلاف الإجماع ووجه ذلك أنها لو وجدت في الأعيان لزم تعدها كلية في ضمن الجزئية فمن حيث أنها موجودة تكون شخصية جزئية ومن حيث إنها الماهية الكلية تكون كلية وأنه محال فمن قال لآخر بع هذا الثوب فإن هذا لا يكون أمر ببيعه بالغبن ولا بالثمن الزائد ولا بالثمن المساوي لأن هذه الأنواع مشتركة في مسمى البيع وتمييزه كل واحد منها بخصوص كونه بالغبن أو بالثمن الزائد أو المساوي وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له فالأمر بالبيع الذي هو جهة الاشتراك لا يكون أمراً بما به يمتاز كل واحد من الأنواع عن الآخر بالذات ولا يالاستلزام وإذا كان كذلك فالأمر بالجنس لا يكون ألبتة أمراً بشيء من أنواعه لكن إذا دلت القرينة على إرادة بعض الأنواع حمل اللفظ عليه . قال في المحصول وهذه قاعدة شريفة برهانية ينحل بها كثير من القواعد الفقهية إن شاء الله . ومما يوضح المقام ويحصل به المرام من هذا الكلام ما ذكره أهل علم المعقول من أن الماهيات ثلاث . الأول : الماهية لابشرط شيء من القيود ولا بشرط عدمها وهي التي يسميها أهل المنطق الماهية المطلقة ويسمونها الكلي الطبيعي ، والخلاف في وجودها في الخارج معروف والحق أن وجود الطبيعي بمعنى وجود أشخاصه . والثانية : الماهية بشرط لا شيء : أي بشرط خلوها عن القيود ويسمونها الماهية المجردة ولا خلاف بينهم في أنها لا توجد في الخارج . والثالثة : الماهية بشرط شيء من القيود ولا خلاف في وجودها في الخارج . وتحقيقه أن الماهية قد تؤخذ بشرط أن تكون مع بعض العوارض كالإنسان بقيد الوحدة ، فلا يصدق على المتعدد وبالعكس وكالمقيد بهذا الشخص ، فلا يصدق على فرد آخر ، وتسمى الماهية المخلوطة والماهية بشرط شيء ولا ارتياب في وجودها في الأعيان ، وقد تؤخذ بشرط التجرد عن جميع العوارض ، وتسمى المجردة والماهية بشرط لا شيء ولا خفاء في أنها لا توجد في الأعيان بل في الأذهان ، وقد تؤخذ لا بشرط أن تكون مقارنة أو مجردة بل مع تجويز أن يقارنها شيء من العوارض وأن لا يقارنها وتكون مقولاً على المجموع حال المقارنة وهي الكلي الطبيعي والماهية لا بشرط شيء والحق وجودها في الأعيان لكن لا من حيث كونها جزءاً من الجزئيات المحققة على ما هو رأي الأكثرين بل من حيث إنه يوجد شيء تصدق هي عليه وتكون عينه بحسب الخارج ، وإن تغايرا بحسب المفهوم وبمجموع ما ذكرناه يظهر لك بطلان قول من قال إن الأمر بالماهية الكلية يقتصر الأمر بها ولم يأتوا بدليل يدل على ذلك دلالة مقبولة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . الفصل الحادي عشر اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين هل يكون الثاني للتأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة أو للتأسيس فيكون المطلوب الفعل مكرراً اختلفوا إذا تعاقب أمران بمتماثلين هل يكون الثاني للتأكيد فيكون المطلوب الفعل مرة واحدة أو للتأسيس فيكون المطلوب الفعل مكرراً وذلك نحو أن يقول صل ركعتين صل ركعتين فقال الجبائي وبعض الشافعية أنه للتأكيد وذهب الأكثر إلى أنه للتأسيس ، وقال أبو بكر الصيرفي بالوقف في كونه تأسيساً أو تأكيداً فكان الحمل على ما هو أكثر وإلحاق الأقل به أولى وبأن الأصل البراءة من التكليف المتكرر فلا يصار إليه مع الاحتمال . ويجاب بمنع كون التأكيد أكثر في محل النزاع فإن دلالة كل لفظ على مدلول مستقل هو الأصل الظاهر وبمنع صحة الاستدلال بأصلية البراءة أو ظهورها فإن تكرار اللفظ يدل على مدلول كل واحد منهما أصلاً وظاهراً لأن أصل كل كلام وظاهره الإفادة لا الإعادة وأيضاً التأسيس أكثر والتأكيد أقل وهذا معلوم عند كل من يفهم لغة العرب . وإذا تقرر لك رجحان هذا المذهب عرفت منه بطلان ما احتج به القائلون بالوقف من أنه قد تعارض الترجيح في التأسيس والتأكيد . أما لو لم يكن الفعلان من نوع واحد فلا خلاف أن العمل بهما متوجه نحو صل ركعتين صم يوماً وهكذا إذا كانا من نوع واحد ولكن قامت القرينة الدلالة على أن المراد التأكيد نحو صم اليوم صم اليوم ونحو صل ركعتين صل ركعتين فإن التقيد باليوم وتعريف الثاني يفيدان أن المراد بالثاني هو الأول وهكذا إذا اقتضت العادة أن المراد التأكيد نحو اسقني ماء وهكذا إذا كان التأكيد بحرف العطف نحو صل ركعتين وصل ركعتين لأن التكرير المفيد للتأكيد لم يعهد إيراده بحرف العطف وأقل الأحوال أن يكون قليلاً والحمل على الأكثر أولى . أما لو كان الثاني مع العطف معرفاً بالظاهر التأكيد نحو صل ركعتين وصل الركعتين لأن دلالة اللام على إرادة التأكيد أقوى من دلالة حرف العطف على إرادة التأسيس . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب الثاني في النواهي وفيه مباحث ثلاثة البحث الأول : اعلم أن النهي في اللغة معناه المنع . يقال نهاه عن كذا أي منعه عنه ومنه سمي العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب ويمنعه عنه وهو في الاصطلاح القول الإنشائي الدال على طلب كف عن فعل على جهة الاستعلاء فخرج الأمر لأنه طلب فعل غير كف وخرج الالتماس والدعاء لأنه لا استعلاء فيهما وأورد على هذا الحد قول القائل كف بقيد عن كذا وأجيب بأنه يلتزم كونه من جملة أفراد النهي فلا يرد النقض به ولهذا قيل إن اختلافهما باختلاف الحيثيات والاعتبارات فقولنا كف عن الزنا باعتبار الإضافة إلى الكف أمر وإلى الزنا نهي وأوضح صيغ النهي لا تفعل كذا ونظائرها ويلحق بها اسم لا تفعل من أسماء الأفعال كمه فإن معناه لا تفعل وصه فإن معناه لا تتكلم وقد تقدم في حد الأمر ما إذا رجعت إليه عرفت ما يريد في هذا المقام من الكلام اعتراضاً ودفعاً . البحث الثاني : اختلفوا في معنى النهي الحقيقي فذهب الجمهور إلى أن معناه الحقيقي هو التحريم وهو الحق ورد فيما عداه مجازاً كما في قوله صضص لا تصلوا في مبارك الإبل فإنه للكراهة . وكما في قوله تعالى : ربنا لا تزغ قلوبنا فإنه للدعاء وكما في قوله تعالى : لا تسألوا عن أشياء فإنه للإرشاد وكما في قول السيد لعبده الذي لم يمتثل أمره لا تمتثل أمري فإنه للتهديد وكما في قوله تعالى : ولا تمدن عينيك فإنه للتحقير وكما في قوله تعالى : ولا تحسبن الله غافلاً فإنه لبيان العاقبة وكما في قوله تعالى : لا تعتذروا اليوم فإنه للتأييس وكما في قولك لمن يساويك لا تفعل فإنه للالتماس . والحاصل أنه يرد مجازاً لما ورد له الأمر كما تقدم ولا يخالف الأمر إلا في كونه يقتضي التكرار في جميع الأزمنة وفي كونه للفور فيجب ترك الفعل في الحال . قيل ويخالف الأمر أيضاً في كون تقدم الوجوب قرينة دالة على أنه للإباحة ونقل الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني الإجماع على أنه لا يكون تقدم الوجوب قرينة للإباحة وتوقف الجويني في نقل الإجماع ومجرد هذا التوقف لا يثبت له في نقل الأستاذ . واحتج القائلون بأنه حقيقة في التحريم بأن العقل يفهم الحتم من الصيغة المجردة عن القرينة وذلك دليل الحقيقة واستدلوا أيضاً باستدلال السلف بصيغة النهي المجردة عن التحريم وقيل أنه حقيقة في الكراهة واستدلوا على ذلك بأن النهي إنما يدل على مرجوحية المنهي عنه وهو لا يقتضي التحريم . وأجيب بمنع ذلك بل السابق إلى الفهم عند التجرد هو التحريم وقيل مشترك بين التحريم والكراهة فلا يتعين أحدهما إلا بدليل وإلا كان جعله لأحدهما ترجيحاً من غير مرجح وقالت الحنفية إنه يكون للتحريم إذا كان الدليل قطعياً ويكون للكراهة إذا كان الدليل ظنياً ورد بأن النزاع إنما هو في طلب الترك وهذا طلب قد يستفاد بقطعي فيكون قطعياً وقد يستفاد بظني فيكون ظنياً . البحث الثالث : في اقتضاء النهي للفساد . فذهب الجمهور إلى أنه إذا تعلق النهي بالفعل بأن طلب الكف عنه فإن كان لعينه أي لذات الفعل أو لجزئه وذلك بأن يكون منشأ النهي قبحاً ذاتياً كان النهي مقتضياً للفساد المرادف للبطلان سواء كان ذلك الفعل حسياً كالزنا وشرب الخمر أو شرعياً كالصلاة والصوم . والمراد عندهم أنه يقتضيه شرعاً لا لغة وقيل إنه يقتضي الفساد لغة كما يقتضيه شرعاً وقيل أن النهي لا يقتضي الفساد إلا في العبادات فقط دون المعاملات وبه قال أبو الحسين البصري والغزالي والرازي وابن الملاحي والرصاص . واستدل الجمهور على اقتضائه للفساد شرعاً بأن العلماء في جميع الأعصار لم يزالوا يستدلون به على الفساد في أبواب الربويات والأنكحة والبيوع وغيرها وأيضاً لو لم يفسد لزم من نفيه حكمة يدل عليها النهي ومن ثبوته حكمة تدل عليها الصحة واللازم باطل لأن الحكمتين إن كانتا متساويتين تعارضتا وتساقطتا فكان فعله كلا فعل وامتنع النهي عنه لخلوه عن الحكمة وإن كانت حكمة النهي مرجوحة فأولى لفوات الزائد من مصلحة الصحة وهي مصلحة خالصة وإن كانت راجحة امتنعت الصحة لخلوه عن المصلحة أيضاً بل لفوت قدر الرجحان من مصلحة النهي . واستدلوا على عدم اقتضائه للفساد لغة بأن فساد الشيء عبارة عن سلب أحكامه وليس في لفظ النهي ما يدل عليه لغة قطعاً . واستدل القائلون بأنه يقتضيه لغة كما يقتضيه شرعاً بأن العلماء لم يزالوا يستدلون به على الفساد . وأجيب بأنهم إنما استدلوا به على الفساد لدلالة الشرع عليه لا لدلالة اللغة . واستدلوا ثانياً بأن الأمر يقتضي الصحة لما تقدم والنهي نقيضه والنقيضان لا يجتمعان فيكون النهي مقتضياً للفساد . وأجيب بأن الأمر يقتضي الصحة شرعاً لا لغة فاقتضاء الأمر للصحة لغة ممنوع كما أن اقتضاء النهي للفساد لغة ممنوع. واستدال القائلون بأنه لا يقتضي الفساد إلا في العبادات دون المعاملات بأن العبادات دون المعاملات بأن العبادات المنهى عنها لو صحت لكانت مأموراً بها ندباً لعموم أدلة مشروعية العبادات فيجتمع النقيضان لأن الأمر لطلب الفعل والنهي لطلب الترك وهو محال وأما عدم اقتضائه للفساد في غير العبادات فلأنه لو اقتضاه في غيرها لكان غسل النجاسة بماء مغصوب والذبح بسكين مغصوبة وطلاق البدعة والبيع في وقت النداء والوطء في زمن الحيض غير مستتبعة لآثارها من زوال النجاسة وحل الذبيحة وأحكام الطلاق والملك وأحكام الوطء واللازم باطل فالملزوم مثله . وأجيب بمنع كون النهي في الأمور المذكورة لذات الشيء أو لجزئه بل لأمر خارج ولو سلم لكان عدم اقتضائها للفساد لدليل خارجي فلا يرد النقيض بها . وذهب جماعة من الشافعية والحنفية والمعتزلة إلى أنه لا يقتضي الفساد لا لغة ولا شرعاً لا في العبادات ولا في المعاملات . قالوا لأنه لو دل على الفساد لغة أو شرعاً لناقض التصريح بالصحة لغة أو شرعاً باطل أما الملازمة فظاهرة ، وأما بطلان اللازم فلأن الشارع لو قال نهيتك عن الربا نهي تحريم ولو فعلت لكان البيع المنهى عنه موجباً للملك لصح من غير تناقض لا لغة ولا شرعاً . وأجيب بمنع الملازمة لأن التصريح بخلاف النهي قرينة صارفة له عن الظاهر ولم ندع إلا أن ظاهره الفساد فقط . وذهبت الحنفية إلى ما لا تتوقف أن معرفته على الشرع كالزنا وشرب الخمر يكون النهي عنه لعينه ويقتضي الفساد إلا أن يقوم الدليل على أنه منهي عنه لوصفه أو المجاور له فيكون النهي حينئذ عنه لغيره فلا يقتضي الفساد كالنهي عن قربان الحائض وأما الفعل الشرعي وهو ما يتوقف معرفته على الشرع فالنهي عنه لغيره فلا يقتضي الفساد ولم يستدلوا على ذلك بدليل مقبول . والحق أن كل مهي من غير فرق بين العبادات والمعاملات يقتضي تحريم المنهي عنه وفساده المرادف للبطلان اقتضاء شرعياً ولا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على عدم اقتضائه لذلك فيكون هذا الدليل قرينة صارفة له من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي . ومما يستدل به على هذا ما ورد في الحديث المتفق عليه وهو قوله صضص كل أمر ليس عليه أمرنا فهو رد والمنهي عنه ليس عليه أمرنا فهو رد وما كان رداً أي مردوداً كان باطلاً وقد أجمع العلماء مع اختلاف أعصارهم على الاستدلال بالنواهي على أن المنهي عنه ليس من الشرع وأنه باطل لا يصح وهذا هو المراد بكون النهي مقتضياً للفساد وصح عنه صضص أنه قال : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه فأفاد وجوب اجتناب المنهي عنه وذلك هو المطلوب ودع عنك ما روعوا به من الرأي هذا إذا كان النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه أما لو كان النهي عنه لوصفه وذلك نحو النهي عن عقد الربا لاشتماله على الزيادة فذهب الجمهور إلى أنه لا يدل على فساد المنهي عنه بل على فساد نفس الوصف واحتجوا لذلك بأن النهي عن الشيء لوصفه لو دل على فساد الأصل لناقض التصريح بالصحة كما مر وأيضاً كان يلزم أن لا يعتبر طلاق الحائض ولا ذبح ملك الغير لحرمته إجماعاً وذهب جماعة إلى أنه يقتضي فساد الأصل محتجيين بأن النهي ظاهر في الفساد من غير فرق بين كونه لذاته أو لصفاته وما قيل من جواز التصريح بالصحة فملتزم إن وقع ويكون دليلاً على خلاف ما يقتضيه الظاهر ، وقد استدل أهل العلم على فساد صوم يوم العيد بالنهي الوارد عن صومه وليس ذلك لذاته ولا لجزئه لأنه صوم وهو مشروع بل لكونه صوماً في يوم العيد وهو وصف لذات الصوم . قال بعض المحققين من أهل الأصول أن النهي عن الشيء لوصفه هو أن ينهي عن الشيء مقيداً بصفة نحو لا تصل كذا ولا تبع كذا وحاصله ما ينهي عن وصفه لا ما يكون الوصف علة للنهي . وأما النهي عن الشيء لغيره نحو النهي عن الصلاة في الدار المغصوبة فقيل لا يقتضي الفساد لعدم مضادته لوجوب أصله لتغاير المتعلقين والظاهر أنه يضاد وجود أصله لأن التحريم هو إيقاع الصلاة في ذلك المكان كما صرح به الشافعي وأتباعه وجماعة من أهل العلم فهو كالنهي عن الصوم في يوم العيد لا فرق بينهما ، وأما الحنفية فيفرقون بين النهي عن الشيء لذاته ولجزئه ولوصف لازم ولوصف مجاور ويحكمون في بعض بالصحة وفي بعض بالفساد في الأصل أو في الوصف ولهم في ذلك فروق وتدقيقات لا تقوم بمثلها الحجة ، ثم النهي عن الشيء لذاته أو لجزئه الذي لا يتم إلا به يقتضي فساده في جميع الأحوال والأزمنة والنهي عنه للوصف الملازم يقتضي فساده ما دام ذلك الوصف والنهي عنه لوصف مفارق أو لأمر خارج يقتضي النهي عنه عند إيقاعه متصفاً بذلك الوصف وعند إيقاعه في ذلك الأمر الخارج عنه لأن النهي عن إيقاعه مقيداً بهما يستلزم فساده ما داما قيدا له . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

في العموم وفيه ثلاثون مسألة المسألة الأولى : في حده وهو في اللغة شمول أمر لمتعدد سواء كان الأمر لفظاً أو غيره ومنه قولهم عمهم الخير إذا شملهم وأحاط بهم وأما حده في الاصطلاح ، فقال في المحصول هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد كقوله الرجال فإنه مستغرق لجميع ما يصلح له ولا تدخل عليه النكرات كقولهم رجل لأنه يصلح لكل واحد من رجال الدنيا ولا يستغرقهم ولا التثنية ولا الجميع لأن لفظ رجلان ورجال يصلح لكل اثنين وثلاثة ولا يفيد أن الاستغراق ولا ألفاظ العدد كقولنا خمسة لأنه يصلح لكل خمسة ولا يستغرقه . وقولنا بحسب وضع واحد احتراز عن اللفظ المشترك والذي له حقيقة ومجاز فإن عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معاً انتهى . وقد سبقه إلى بعض ما ذكره في هذا الحد أبو الحسين البصري فقال العام هو اللفظ المستغرق لما يصلح له ورد عليه المشترك إذا استغرق جميع أفراد معنى واحد واندفع الاعتراض عنه بزيادة قيد بوضع واحد ثم ورد عليه نحو عشرة ومائة ونحوهما لأنه يستغرق ما يصلح له من المتعدد الذي يفيده وهو معنى الاستغراق ودفع بمثل ما ذكره في في المحصول ، وقال أبو علي الطبري هو مساواة بعض ما تناوله لبعض واعترض عليه بلفظ التثنية فإن أحدهما مساو للآخر وليس بعام ، وقال القفال الشاشي أقل العموم شيئان كما أن الخصوص واحد وكأنه نظر إلى المعنى اللغوي وهو الشمول والشمول حاصل في التثنية وإلا فمن المعلوم أن التثنية لا تسمى عموماً لا سيما إذا قلنا أقل الجمع ثلاثة فإذا سلب عن التثنية أقل الجمع فسلب العموم عنها أولى وقال المازري العموم عند أئمة الأصول هو القول المشتمل على شيئين فصاعداً والتثنية عندهم عموم لما يتصور فيها من معنى الجمع والشمول الذي لا يتصور في الواحد ولا يخفي ما يرد عليه . وقال الغزالي هو اللفظ الواحد الدال من جهة واحدة على شيئين فصاعداً واعترض عليه أنه ليس بجامع ولا مانع أما كونه ليس بجامع فلخروج لفظ المعدوم والمستحيل فإنه عام ومدلوله ليس بشيء وأيضاً الموصولات مع صلاتها مع جملة العام وليست بلفظ واحد وأما أنه ليس بمانع فلأن مثنى يدخل في الحد مع أنه ليس بعام وكذلك قل جمع لمعهود وليس بعام . وقد أجيب عن الأول بأن المعدوم والمستحيل شيء لغة وإن لم يكن شيئاً في الاصطلاح وعن الثاني بأن الموصولات هي التي ثبت لها العموم والصلات مبينات لها وقال ابن فورك اشتهر من كلام الفقهاء أن العموم هو اللفظ المستغرق وليس كذلك لأن الاستغراق عموم ما دونه عموم وأقل العموم اثنان ، وقال ابن الحاجب أن العام هو ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقاً ضربة فقوله ما دل جنس وقوله على مسميات يخرج نحو زيد وقوله باعتبار أمر اشتركت فيه يخرج نحو عشرة فإن العشرة دلت على آحاد لا باعتبار أمر اشتركت فيه لأن آحاد العشرة أجزاء العشرة لا جزئياتها فلا يصدق على واحد واحد أنه عشرة وقوله مطلقاً ليخرج المعهود فانه يدل على مسميات باعتبار ما اشتركت فيه مع قيد خصصه بالمعهودين وقوله ضربة أي دفعة واحدة ليخرج نحو رجل مما يدل على مفرداته بدلاً لا شمولاً . ويرد عليه خروج نحو علماء البلد مما يضاف من العمومات إلى ما يخصصه مع أنه عام قصد به الاستغراق ووجه ورود ذلك عليه من حيث اعتباره في التعريف بقيد الإطلاق مع أن العام المضاف قد قيد بما أضيف هو إليه . وأجيب بأن الذي اشتركت المسميات فيه هو علماء البلد مطلقاً لا العالم وعالم البلد لم يتقيد بقيد وإنما قيد العلماء ، وورد عليه أيضاً أنه قد اعتبر الأفراد في العام وعلماء البلد مركب وأجيب بأن العام إنما هو المضاف من حيث أنه مضاف إليه خارج . وأورد عليه الجمع المنكر كرجال فإنه يدل على مسميات وهي آحاده باعتبار ما اشتركت فيه وهو مفهوم رجل مطلقاً لعدم العهد وليس بعام عند من يشترط الاستغراق . وقد أورد على المعتبرين للاستغراق في حد العام مطلقاً مفرداً كان أو جمعاً أن دلالته على الفرد تضمينه إذ ليس الفرد مدلولاً مطابقياً ، لأن المدلول المطابقي هو مجموع الأفراد المشتركة في المفهوم المعتبر فيه على ما صرحوا به ولا لازماً ولا يمكن جعله أي الفرد مما يصدق عليه العام لصيرورته بمنزلة كلمة واحدة في الاصطلاح العلماء ، وليس مما يصدق على إفراده بدلاً ، بل شمولاً ولا يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بكل جزئي . وأجيب بأنه يلزم من تعليقه بالكل تعليقه بالجزء لزوماً لغوياً وأن ذلك مما يكفي في الرسوم وفيه نظر . وإذا عرفت ما قيل في حد العام علمت أن أحسن الحدود المذكورة هو ما قدمنا عن صاحب المحصول لكن مع زيادة قيد دفعة فالعام هو اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد دفعة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية : ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ فإذا قيل هذا لفظ عام صدق على سبيل الحقيقة ، وقال القاضي أبو بكر إن العموم والخصوص يرجعان إلى الكلام ثم الكلام الحقيقي هو المعنى القائم دون الصيغ انتهى . واختلف الأولون في اتصاف المعاني بالعموم بعد اتفاقهم على أنه حقيقة في الألفاظ ، فقال بعضهم أنها تتصف به حقيقة كما تتصف به الألفاظ ، وقال بعضهم أنها تتصف به مجازاً ، وقال بعضهم أنها لا تتصف به لا حقيقة ولا مجازاً . احتج القائلون بأنه حقيقة فيهما بأن العموم حقيقة في شمول أمر لمتعدد فكما صح في الألفاظ باعتبار شمول لفظ لمعان متعدد بحسب الوضع صح في المعاني باعتبار شمول لفظ لمعان متعددة بحسب لا يتصور شمول أمر معنوي لأمور متعددة كعموم المطر الخصب ونحوهما ، وكذلك ما يتصوره الإنسان من المعاني الكلية فإنها شاملة لجزئياتها المتعددة الداخلة تحتها ، ولذلك يقول المنطقيون : العام ما لا يمنع تصوره وقوع الشركة فيه والخاص بخلافه . وأجيب بأن العام شمول أمر لمتعدد وشمول المطر والخصب ونحوهما ليس كذلك إذا لموجود في مكان غير الموجود في المكان الآخر وإنما هو أفراد من المطر والخصب وأيضا ما ذكروه عن المنطقيين غير صحيح فانهم يطلقون ذلك على الكلي لا على العام : ورد بمنع كونه يعتبر في معنى العموم لغة هذا القيد بل يكفي الشمول سواء كان هناك أمر واحد أو لم يكن . ومنشأ الخلاف هذا هو ما وقع من الخلاف في معنى العموم فمن قال معناه شمول أمر لمتعدد إلا الموجود الذهني شخصيته منع من إطلاقه حقيقة على المعاني فلا يقال هذا المعنى عام لأن الواحد بالشخص لا شمول ولا يتصف بالشمول لمتعدد إلا الموجود الذهني ووحدته ليست بشخصية فيكون عنده إطلاق العموم على المعاني مجازاً لا حقيقة كما صرح به الرازي . ومن فهم من اللغة أن الأمر الواحد الذي أضيف إليه الشمول في معنى العموم أعم من الشخصي ومن النوعي أجاز إطلاق العام على المعاني حقيقة . وقيل إن محل النزاع إنما هو من صحة تخصيص المعنى العام كما يصح تخصيص اللفظ العام لا في اتصاف المعاني بالعموم ، وفيه بعد فإن نصوص هؤلاء المختلفين مصرحة بأن خلافهم في اتصاف المعاني بالعموم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة : هل يتصور العموم في الأحكام حتى يقال حكم قطع السارق عام أنكره القاضي وأثبته الجويني وابن القشيري وقال المازري الحق بناء هذه المسألة على أن الحكم يرجع إلى قول أو إلى وصف يرجع إلى الذات فإن قلنا بالثاني لم يتصور العموم لما تقدم في الأفعال وإن قلنا يرجع إلى قول فقوله سبحانه السارق يشمل كل سارق فنفس القطع فعل والأفعال لا عموم لها . قال القاضي أبو عبد الله الصيمري الحنفي في كتابه مسائل الخلاف في أصول الفقه دعوى العموم في الأفعال لا تصح عند أصحابنا ودليلنا أن العموم ما اشتمل على أشياء متغايرة والفعل لا يقع إلا على درجة واحدة ، وقال الشيخ أبو إسحاق لا يصح العموم إلا في الألفاظ ، وأما في الأفعال فلا يصح لأنها تقع على صفة واحدة ، فإن عرفت صفته مثل قول الراوي جمع بين الصلاتين في السفر فهذا مقصور على السفر ومن الثاني قوله في السفر فلا يدري أنه كان طويلاً أو قصيراً فيجب التوقف فيه ولا يدعي فيه العموم ، وقال ابن القشيري أطلق الأصوليون أن العموم والخصوص لا يتصور إلا في الأقوال ولا يدخل في الأفعال أعني في ذواتها فأما في أسمائها فقد يتحقق ولهذا لا نتحقق ادعاء العموم في أفعال النبي صضص . قال شمس الأئمة السرخسي ذكر أبو بكر الجصاص أن العموم حقيقة في المعاني والأحكام كما هو في الأسماء والألفاظ وهو غلط فإن المذهب عندنا أنه لا يدخل المعاني حقيقة وإن كان يوصف به مجازاً . قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة الجمهور على أنه لا يوصف بالعموم إلا القول فقط وذهب قوم من أهل العراق إلى أنه يصح ادعاؤه في المعاني والأحكام ومرادهم بذلك حمل الكلام على عموم الخطاب وإن لم يكن هناك صيغة كقوله حرمت عليكم الميتة فإنه لما لم يصح تناول التحريم لها عمها بتحريم جميع التصرفات من الأكل والبيع واللمس وسائر أنواع الأنتفاع وإن لم يكن للأحكام ذكر في التحريم بعموم ولا خصوص وكذلك قوله إنما الأعمال بالنيات عام في الأجزاء والكمال والذي يقوله أكثر الأصوليين والفقهاء واختصاصه بالقول وإن وصفهم الجور والعدل بأنه عام مجاز انتهى . فعرفت بما ذكرناه وقوع الخلاف في اتصاف الأحكام بالعموم كما وقع الخلاف في اتصاف المعاني به . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة : اعلم أن العام عمومه شمولي وعموم المطلق بدلي وبهذا يصح الفرق بينهما فمن أطلق على المطلق اسم العموم فهو باعتبار أن موارده غير منحصرة فصح إطلاق اسم العموم عليه باعتبار الحيثية . والفرق بين عموم الشمول البدل أن عموم الشمول كلي يحكم فيه على كل فرد وعموم البدل كلي من حيث أنه لا يمنع تصور مفهومه من وقوع الشركة فيه ولكن لا يحكم فيه على كل فرد فرد بل على فرد شائع في أفراده يتناولها على سبيل البدل ولا يتناول أكثر من واحد منها دفعة قال في المحصول اللفظ الدال على الحقيقة من حيث هي هي من غير أن يكون فيها دلالة على شيء من قيود تلك الحقيقة سلباً كان ذلك القيد أو إيجاباً فهو المطلق وأما اللفظ الدال على تلك الحقيقة مع قيد الكثرة فإن كانت الكثرة كثرة معينة بحيث لا تتناول ما يدل عليها فهو اسم العدد وإن لم تكن الكثرة كثرة معينة فهو العام وبهذا ظهر خطأ من قال المطلق هو الدال على واحد لا بعينه فإن كونه واحداً وغير معين قيدان زائدان على الماهية انتهى ، فيجعل في كلامه هذا معنى المطلق عن التقييد فلا يصدق إلا على الحقيقة من حيث هي هي وهو غير ما عليه الاصطلاح عند أهل هذا الفن وغيرهم كما عرفت مما قدمنا ، وقد تعرض بعض أهل العلم للفرق بين العموم والعام فقال العام هو اللفظ المتناول والعموم تناول اللفظ لما يصلح له فالعموم مصدر والعام فاعل مشتق من هو المصدر وهما متغايران لأن المصدر والفعل غير الفاعل قال الزركشي في البحر ومن هذا يظهر الإنكار على عبد الجبار وابن برهان وغيرهما في قولهم العموم اللفظ المستغرق ، فإن قيل أرادوا بالمصدر اسم الفاعل قلنا استعماله فيه مجاز ولا ضرورة لارتكابه مع إمكان الحقيقة وفرق القرافي بين الأعم والعام بأن الأعم إنما يستعمل في المعنى والعام في اللفظ ، فإذا قيل هذا أعم تبادر الذهن للمعنى وإذا قيل هذا عام تبادر الذهن للفظ .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المسألة الخامسة : ذهب الجمهور إلى العموم له صيغة موضوعة له حقيقة وهي أسماء الشرط والاستفهام والموصلات والجموع المعرفة تعريف الجنس والمضافة واسم الجنس والنكرة والمنفية والمفردة والمحلي باللام ولفظ كل وجميع ونحوها وسنذكر إن شاء الله الاستدلال على عموم هذه الصيغ ونحوه ذكراً مفصلاً . قالوا لأن الحاجة ماسة إلى الألفاظ العامة لتعذر جمع الآحاد على المتكلم فوجب أن يكون لها ألفاظ موضوعة حقيقة لأن الغرض من وضع اللغة الإعلام والإفهام . واحتجوا أيضاً بأن السيد إذا قال لعبده لا تضرب أحداً فهم منه العموم حتى لو ضرب واحداً عد مخالفاً والتبادر دليل الحقيقة والنكرة في النفي للعموم حقيقة فللعموم صيغة وأيضاً لم يزل العلماء يستدلون بمثل والسارق والسارقة فاقطعوا و الزانية والزاني فاجلدوا وقد كان الصحابة يحتجون عند حدوث الحادثة عند الصيغ المذكورة على العموم ، ومنه ما ثبت عنه صضص لما سئل عن الحمر الأهلية ، فقال لم ينزل علي في شأنها إلا هذه الآية الجامعة فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وما ثابت أيضاً من احتجاج عمرو بن العاص لما أنكر عليه ترك الغسل من الجنابة والعدول إلى التيمم مع شدة البرد ، فقال سمعت الله يقول ولا تقتلوا أنفسكم فقرر ذلك رسول الله صضص وكم يعد العاد من مثل هذه المواد . وما أجيب به عن ذلك بأنه إنما فهم بالقرائن جواب ساقط لا يلتفت إليه ولا يعول عليه وقال محمد ابن المنتاب من المالكية ومحمد بن شجاع البلخي من الحنفبة أنه ليس للعموم صيغة تخصه ، وأن ما ذكروه من الصيغ موضوع في الخصوص وهو أقل الجمع أما اثنان أو ثلاثة على الخلاف في أقل الجمع ولا يقتضي العموم إلا بقرينة قال القاضي في التقريب والإمام في البرهان يزعمون أن الصيغ الموضوعة للجمع نصوص في الجمع محتملات فيما عداه إذا لم تثبت قرينة تقتضي تعديها على أقل المراتب انتهى . ولا يخفاك أن قولهم موضوع للخصوص مجرد دعوى ليس عليها دليل والحجة قائمة عليهم لغة وشرعاً وعرفاً وكل من يفهم لغة العرب واستعمالات الشرع لا يخفي عليه هذا . وقال جماعة من المرجئة أن شيئاً من الصيغ لا يقتضي بذاته ولا مع القرائن بل إنما يكون العموم عند إرادة المتكلم ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري . قال في البرهان نقل مصنفوا المقامات عن أبي الحسن الأشعري والواقفية أنهم لا يثبتون لمعنى العموم صيغة لفظية وهذا النقل على الإطلاق زلل فإن أحداً لا ينكر إمكان التعبير عن معنى الجمع بترديد ألفاظ تشعر به كقول القائل رأيت القوم واحداً واحداً لم يفتن منهم أحد وإنما كرر هذه الألفاظ لقطع توهم من يحسبه خصوصاً إلى غير ذلك وإنما أنكر الواقفية لفظة واحدة مشعرة بمعنى الجمع انتهى . ولا يخفاك أن هذا المذهب مدفوع بمثل ما دفع به الذي قبله وبزيادة على ذلك وهو أن إهمال القرائن المقتضية لكونه عاماً شاملاً عناد ومكابرة ، وقال قوم بالوقف ونقله القاضي في التقريب عن أبي الحسن ومتبعيه أن الصيغة وإن تقيدت بالقرائن فإنها لا تشعر بالجمع بل تبقى على التردد هذا وإن صح النقل فيه فهو مخصوص عندي بالتوابع المؤكدة لمعنى الجمع كقول القائل رأيت القوم أجمعين أكتعين أبصعين فلا يظن بذي عقل أن يتوقف فيها انتهى . وقد اختلف الواقفية في محل الوقف على تسعة أقوال : الأول : وهو المشهور من مذهب أئمتهم القول به على الإطلاق من غير تفصيل . الثاني : أن الوقف إنما هو في الوعد والوعيد دون الأمر والنهي حكاه أبو بكر الرازي عن الكرخي . قال وربما ظن مذهب أبي حنيفة لأنه كان لا يقطع بوعيد أهل الكبائر من المسلمين ويجوز أن يغفر الله لهم في الآخرة . الثالث : القول بصيغ العموم في الوعد والوعيد والتوقف فيما عدا ذلك وهو قول جمهور المرجئة . الرابع : الوقف في الوعيد بالنسبة إلى عصاة هذه الأمة دون غيرها . الخامس : الوقف في الوعيد دون الوعد قال القاضي وفرقوا بينهما بما يليق بالشطح والترهات دون الحقائق . السادس : الفرق بين أن لا يسمع قبل اتصالها به شيئاً من أدلة السمع وكانت وعداً ووعيداً فعلم أن المراد بها للعموم وإن كان قد سمع قبل اتصالها به أدلة الشرع وعلم انقسامها إلى العموم والخصوص فلا يعلم حينئذ العموم في الأخبار التي اتصلت به حكاه القاضي في مختصر التقريب . السابع : الوقف في حق من لم يسمع خطاب الشرع عنه صضص وأما من سمع منه وعرف تصرفاته فلا وقف فيه كذا حكاه المازري . الثامن : التفصيل بين أن يتقيد بضرب من التأكيد فيكون للعموم دون ما إذا لم يتقيد . التاسع : إن لفظة المؤمن والكافر حيثما وقعت في الشرع أفادت العموم دون غيرها حكاه المازري عن بعض المتأخرين ، وقد علمت اندفاع مذهب الوقف على الإطلاق بعدم نوازن الأدلة التي تمسك بها المختلفون في العموم بل ليس بيد غير أهل المذهب الأول شيء مما يصح إطلاق اسم الدليل عليه فلا وجه للتوقف ولا مقتضى له . والحاصل أن كون المذهب الأول هو الحق الذي لا سترة به ولا شبهة فيه ظاهر لكل من يفهم فهماً صحيحاً ويعقل الحجة ويعرف مقدارها في نفسها ويعرف مقدار ما يخالفها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة : في الاستدلال على أن كل صيغة من تلك الصيغ للعموم وفيه فروع : الفرع الأول : في من وما وأين ومتى للاستفهام فهذه الصيغ إما أن تكون للعموم فقط أو للخصوص أو لهما على سبيل الاشتراك أو لا لواحد منهما والكل باطل إلا الأول . أما أنه لا يجوز أن يقال أنها موضوعة للخصوص فقط فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المجيب أن يجيب بذكر كل العقلاء لأن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال لكن لا نزاع في حسن ذلك وأما أنه لا يجوز أن يقال بالاشتراك فلأنه لو كان كذلك لما حسن الجواب إلا بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثلاً إذا قال من عندك فلا بد أن تقول سألتني عن الرجال أو النساء فإذا قال عن الرجال فلا بد أن تقول سألتني عن العرب أو العجم فإذا قال عن العرب فلا بد أن تقول عن ربيعة أو مضر وهكذا إلى أن تأتي على جميع الأقسام الممكنة وذلك لأن اللفظ أما أن يقال أنه مشترك بين الاستغراق وبين مرتبة معينة في الخصوص أو بين الاستغراق وبين جميع المراتب الممكنة في الخصوص والأول باطل لأن أحداً لم يقل به والثاني يقتضي أن لا يحس من المجيب ذكر الجواب إلا بعد الاستفهام عن كل تلك الأقسام لأن الجواب لا بد أن يكون مطابقاً للسؤال فإذا كان السؤال محتملا لأمور كثيرة فلو أجاب قبل أن يعرف ما عنه وقع السؤال لاحتمل أن لا يكون الجواب مطابقاً للسؤال وذلك غير جائز فثبت أن لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات لكنها غير واجبة أما أولاً فلأنه لا عام إلا وتحته عام آخر وإذا كان كذلك كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال ، وأما ثانياً فإنا نعلم بالضرورة من عادة أهل اللسان أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات . وأما أنه لا يجوز أن تكون هذه الصيغة غير موضوعة للعموم والخصوص فمتفق عليه فبطلت هذه الثلاثة ولم يبق إلا القسم الأول . الفرع الثاني : في صيغة ما ومن في المجازاة فإنها للعموم ويدل عليه أن قول القائل من دخل داري فأكرمه لو كان مشتركاً بين العموم والخصوص لما حسن من المخاطب أن يجري على موجب الأمر إلا عند الاستفهام عن جميع الأقسام لكنه قد حسن ذلك بدون استفهام فدل على عدم الاشتراك كما سبق في الفرع الذي قبل هذا وأيضاً لو قال من دخل داري فأكرمه حسن منه استثناء كل واحد من العقلاء من هذا الكلام وحسن ذلك معلوم من عادة أهل اللغة ضرورة والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله فيه وذلك أنه لا نزاع أن المستثنى من الجنس يصح دخوله تحت المستثنى منه فأما أن لا يعتبر مع الصحة الوجوب أو يعتبر والأول باطل وإلا لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع المنكر كقولك جاءني فقهاء إلا زيداً وبين الاستثناء من الجمع المعرف كقولك جاءني الفقهاء إلا زيداً والفرق بينهما معلوم بالضرورة من عادة العرب فعلمنا أن الاستثناء من الجمع المعرف يقتضي إخراج ما لولاه لوجب دخوله تحت اللفظ وهو المطلوب . الفرع الثالث : في أن صيغة كل وجميع يقيدان الاستغراق ويدل على ذلك أنك إذا قلت جاءني كل عالم في البلد أو جميع علماء البلد فإنه يناقضه قولك ما جاءني كل عالم في البلد وما جاءني جميع علماء البلد ولذلك يستعمل كل واحد من هذين الكلامين في تكذيب الآخر والتناقض إلا إذا أفاد لكل الاستغراق لأن النفي عن الكل لا يناقض الثبوت في البعض وأيضاً صيغة الكل والجميع مقابلة لصيغة البعض ولولا أن صيغتهما غير محتملة للبعض لم تكن مقابلة وأيضاً إذا قال القائل ضربت كل من في الدار أو ضربت جميع من في الدار سبق إلى الفهم الاستغراق ولو كانت صيغة الكل أو الجمع مشتركة بين الكل والبعض لما كان كذلك لأن اللفظ المشترك لما كان بالنسبة إلى المفهومين على السوية امتنع أن تكون مبادرة الفهم إلى أحدهما أقوى منها إلى الآخر وإذا قال السيد لعبده اضرب كل من دخل داري أو جميع من دخل داري فضرب كل واحد ممن دخل لم يكن للسيد أن يعترض عليه بضرب جميعهم وله أن يعترض عليه إذا ترك البعض منهم ومثله لو قال رجل لرجل أعتق كل عبيدي أو جميع عبيدي ثم مات لم يحصل الامتثال إلا بعتق كل عبد له ولا يحصل امتثاله بعتق البعض وأيضاً لا يشك عارف بلغة العرب أو بين قول القائل جاءني رجال وجاءني كل الرجال وجميع الرجال فرقاً ظاهراً وهو دلالة الثاني على الاستغراق دون الأول وإلا لم يكن بينهما فرق ومعلوم أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير عن الاستغراق جاءوا بلفظ كل وجميع وما يفيد مقادهما ولو لم يكونا للاستغراق لكان استعمالهم لهما عند إرادتهم للاستغراق عبثاً . قال القاضي عبد الوهاب : ليس بعد كل في كلام العرب كلمة أعم منها ولا فرق بين أن تقع مبتدأ بها أو تابعة تقول كل امرأة أتزوجها فهي طالق وجاءني القوم كلهم فيفيد أن المؤكد به عام وهي تشمل العقلاء وغيرهم والمذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع فلذلك كانت أقوى صيغ العموم وتكون في الجميع بلفظ واحد تقول كل النساء وكل القوم وكل رجل وكل امرأة . قال سيبويه معنى قولهم كل رجل كل رجال فأقاموا رجلاً مقام رجال لأن رجلاً شائع في الجنس والرجال ولا يؤكد بها المثنى استغناء عنه بكل ولا يؤكد بها إلا ذو أجزاء ولا يقال جاء زيد كله انتهى . وقد ذكر علماء النحو والبيان الفرق بين أن يتقدم النفي على كل وبين أن تتقدم هي عليه فإذا تقدمت على حرف النفي نحو كل القوم لم يقم أفادت التنصيص على انتفاء قيام كل فرد فرد وإن تقدم النفي عليها مثل لم يقم كل القوم لم تدل إلا على نفي المجموع وذلك بصدق بانتفاء القيام عن بعضهم ويسمى الأول عموم السلب والثاني سلب العموم من جهة أن الأول يحكم فيه بالسلب عن كل فرد والثاني لم يفد العموم في حق كل أحد إنما أفاد نفي الحكم عن بعضهم . قال الفراء وهذا شيء اختصت به كل من بين سائر صيغ العموم قال وهذه القاعدة متفق عليها عند أرباب البيان وأصلها قوله صضص كل ذلك لم يكن لما قال له ذو اليدين أقصرت الصلاة أم نسيت انتهى . وإذا عرفت هذا في معنى كل فقد تقرر أن لفظ جميع هو بمعنى كل الإفرادي وهو معنى قولهم أنها للعموم الإحاطي لا وقيل يفترقان من جهة كون دلالة على كل فرد بطريق النصوصية بخلاف جميع وفرقت الحنفية بينهما بأن كل تعم الأشياء على سبيل الإنفراد وجميع تعمها على سبيل الاجتماع ، وقد روى أن الزجاج حكى هذا الفرق عن المبرد . الفرع الرابع : لفظ أي فإنها من جملة صيغ العموم إذا كانت شريطة واستفهامية كقوله تعالى أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقوله أيكم يأتيني بعرشها وقد ذكرها في صيغ العموم الأستاذ أبو منصور البغدادي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وإمام الحرمين الجويني وابن الصباغ وسليم الرازي والقاضيان أبو بكر وعبد الوهاب والرازي والآمدي والصفي والهندي وغيرهم قالوا وتصلح للعاقل وغيره . قال القاضي عبد الوهاب في التخليص إلا أنها تتناول على جهة الانفراد دون الاستغراق ولهذا إذا قلت أي الرجلين عندك لم يجب إلا بذكر واحد قال ابن السمعاني في القواطع وأما كلمة أي فقيل كالنكرة لأنها تصحبها لفظاً ومعنى تقول أي رجل فعل هذا وأي دار دخل قال الله تعالى : أيكم يأتيني بعرشها وهي في المعنى نكرة لأن المراد بها واحد منهم انتهى . قال الزركشي في البحر . وحاصل كلامهم أنها للاستغراق البدلي والشمولي لكن ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق أنها للعموم والشمولي وتوسع القرافي فعدى عمومها إلى الموصولة والموصوفة في النداء ومنهم من لم يعده كالغزالي وابن القشيري لأجل النحاة أنها بمعنى بعض إذا أضيفت إلى معرفة وقول الفقهاء أي وقت دخلت الدار فأنت طالق لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول كما في كلما . والحق أن عدم التكرار لا ينافي العموم وكون مدلولها أحد الشيئين قدر مشترك بينهما وبين بقية الصيغ في الاستفهام . وقال صاحب اللباب من الحنفية وأبو زيد في التقويم كلمة أي نكرة لا تقتضي العموم بنفسها إلا بقرينة ألا ترى إلى قوله أيكم يأتيني بعرشها ولم يقل يأتوني لو قال لغيره أي عبيدي ضربته فهو حر فضربهم لم يعتق إلا واحد فإن وصفها بصفة عامة كانت للعموم بقوله أي عبيدي ضربك فهو حر فضربوه جميعاً عتقوا لعموم فعل الضرب . وصرح الكيا الطبري بأنها ليست من صيغ العموم فقال وأما أي فهي اسم مفرد يتناول جزءاً من الجملة المضافة قال الله سبحانه وتعالى : أيكم يأتيني بعرشها فجاء به واحد وقال أيكم أحسن عملاً وصرح القاضي حسين والشاشي أنه لا فرق بين الصورتين المذكورتين وأن العبيد يعتقون جميعاً فيهما وجزم ابن الهمام في التحرير بأنها في الشرط والاستفهام ككل مع النكرة وكالبعض مع المعرفة وهو المناسب لما جوزه النحاة فيها فإن الفرق بين قول القائل أي رجل تضرب اضرب وبين أي الرجل تضرب اضرب ظاهر لا يخفى . الفرع الخامس : النكرة في النفي فإنها تعم وذلك لوجهين : الأول : أن الأنسان إذا قال أكلت اليوم شيئاً فمن أراد تكذيبه قال ما أكلت اليوم شيئاً فذكرهم هذا النفي عن تكذيب ذلك الإثبات يدل على اتفاقهم على كونه مناقضاً له فلو كان قوله ما أكلت اليوم شيئاً لا يقتضي العموم لما تناقضا لأن السلب الجزئي لا يناقض الإيجاب الجزئي . الوجه الثاني : أنها لو لم تكن النكرة في النفي للعموم لما كان قولنا لا إله إلا الله نفياً لجميع الإلهة سوى الله سبحانه وتعالى فتقرر بهذا أن النكرة المنفية بما أو لن أو لم أو ليس أو لا مفيدة للعموم وسواء دخل حرف النفي على فعل نحو ما رأيت رجلاً أو على الاسم نحو لا رجل في الدار ونحو ما أحد قائماً وما قام أحد ، وقال القاضي عبد الوهاب في الإفادة قد فرق أهل اللغة بين النفي في قوله ما جاءني أحد وما جاءني من أحد وبين دخوله على النكرة من أسماء الجنس فيما جاءني رجل وما جاءني من رجل فرأوا تساوي اللفظين في الأول وأن من زائدة فيه وافتراق المعنى في الثاني لأن قوله ما جاءني رجل يصلح أن يراد به الكل وأن يراد به رجل واحد فإذا دخلت من أخلصت النفي للاستغراق ، وقال إمام الحرمين الجويني هي للعموم ظاهراً عند تقدير من فإن دخلت من كانت نصاً والمشهور في علم النحو الخلاف بين سيبويه والمبرد . فسيبويه قال إن العموم مستفاد من النفي قبل دخول من والمبرد قال أنه مستفاد من لفظ من والحق ما قاله سيبويه وكون من تفيد النصوصية بدخولها لا ينافي الظهور الكائن قبل دخولها . قال أبو حيان مذهب سيبويه أن ما جاءني من أحد وما جاءني من رجل من في الموضعين لتأكيد استغراق الجنس وهذا هو الصحيح انتهى ولو لم تكن من صيغ العموم قبل دخول من لما كان نحو قوله تعالى : لا يعزب عنه مثقال ذرة لا تجزي نفس عن نفس شيئا مقتضياً للعموم ، وقد فرق بعضهم بين حروف النفي الداخلة على النكرة بفرق لا طائل تحته فلا نطول بذكره . واعلم أن حكم النكرة الواقعة في سياق النهي حكم النكرة الواقعة في سياق النفي وما خرج عن ذلك من الصور فهو لنقل العرف له عن الوضع اللغوي . الفرع السادس : لفظ معشر ومعاشر وعامة وكافة وقاطبة وسائر من صيغ العموم في مثل قوله يا معشر الجن والإنس و« نحن معاشر الأنبياء لا نورث » و« جاءني القوم عامة » وقاتلوا المشركين كافة و« ارتدت العرب قاطبة » وجاءني سائر الناس إن كانت مأخوذة من سور البلد وهو المحيط بها كما قاله الجوهري وإن كانت من أسأر بمعنى أبقى فلا تعم ، وقد حكى الأزهري الاتفاق عن أنها مأخوذة من المعنى الثاني وغلطوا الجوهري . وأجيب عن الأزهري بأنه قد وافق الجوهري على ذلك السيرافي في شرح كتاب سيبويه و أبو منصور الجواليقي في شرح أدب الكاتب وابن بري وغيرهم والظاهر أنه للعموم وإن كانت بمعنى الباقي لأن المراد بها شمول ما دخلت عليه سواء كانت بمعنى الجميع أو الباقي كما تقول اللهم اغفر لي ولسائر المسلمين وخالف في ذلك القرافي والقاضي عبد الوهاب . إرشاد الفحول - الجزء الثاني2.

===========================================================


تابع الجزء الثاني





إرشاد الفحول - الجزء الثاني2.













الفرع السابع : الالف واللام الحرفية لا الإسمية تفيد العموم إذا دخلت على الجمع سواء كان سالماً أو مكسراً وسواء كان من جموع القلة أو الكثرة وكذا إذا دخلت على اسم الجمع كركب وصحب وقوم ورهط وكذا إذا دخلت على اسم الجنس . وقد اختلف في اقتضائها للعموم إذا دخلت على هذه المذكورات على مذاهب ثلاثة . الأول : أنه إذا كان هناك معهود حمل على العهد فإن لم يكن حملت على الاستغراق واليه ذهب جمهور أهل العلم . الثاني : انها تحمل على الاستغراق إلا ان يقوم دليل على العهد . الثالث : انها تحمل عند فقد العهد على الجنس من غير استحقاق وحكاه صاحب الميزان عن ابي علي الفارسي وابي هاشم والراجح المذهب الأول ، وقال ابن الصباغ هو إجماع الصحابة . قال في المحصول مستدلاً على هذا المذهب لنا وجوه . الأول : ان الأنصار لما طلبوا الامامة احتج عليهم أبو بكر بقوله صضص الائمة من قريش والأنصار سلموا تلك الحجة ولو لم يدل الجمع المعرف بلام الجنس على خص هذه الصورة وامثالها عن الموضوع اللغوي على أنه قد حكى الروياني في البحر عن ابن عباس و احمد بن حنبل انها تطلق الاربع جميعاً بخلاف ما عدا هذه الصورة وامثالها فانه يحمل على العموم كما لو قال مالي صدقة ومن هذا قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم وقوله صضص هو الطهور ماؤه والحل ميتته . الفرع التاسع : الاسماء الموصولة كالذي والتي والذين واللات . وذو الطائية وجمعها وقد صرح القرافي والقاضي عبد الوهاب بانها من صيغ العموم ، وقال ابن السمعاني جميع الاسماء المبهمة تقتضي العموم ، وقال اصحاب الاشعري انها تجري في بابها مجرى اسم منكور كقوله سبحانه : والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، إن الذين سبقت لهم منا الحسنى ، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما وما خرج من ذلك فلقرينة تخصصه عن موضوعه اللغوي . الفرع العاشر : نفب المساواة بين الشيئين كقوله لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة فذهب جمهور الشافعية وطوائف من الاصوليين والفقهاء إلى أنه يقتضي العموم وذهبت الحنفية والمعتزلة و الغزالي والرازي إلى أنه ليس بعام . استدل الأولون بانه نكرة في سياق النفي لأن الجملة نكرة باتفاق النحاة وكذلك توصف بها النكرات دون المعارف . واستدل الرازي في المحصول لللاخرين بوجهين : الأول : أن نفي الاستواء مطلقاً أي في الجملة أعم من نفي الاستواء من كل الوجوه أو من بعضها والدال على القدر المشترك بين الامرين لا اشعار فيه بهما فلا يلزم من نفيه نفيهما . الثاني : أنه أما أن يكفي في إطلاق لفظ المساواة الاستواء من بعض الوجوه أو لا بد فيه من الاستواء من كل الوجوه والأول باطل وإلا لوجوب إطلاق لفظ المساواة على جميع الأشياء لأن كل شيئين لا بد أن يستويا في بعض الأمور من كونهما معلومين وموجودين ومذكورين وفي سلب ما عداهما عنهما ومتى صدق عليه المساوي وجب أن يكذب عليه غير المساوي لأنهما في العرف كالمتناقضين فإن من قال هذا يساوي ذاك فمن أراد تكذيبه قال لا يساويه والمناقضان لا يصدقان معاً فوجب أن لا يصدق على شيئين ألبتة لأنهما متساويان وغير متساويين ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنه يعتبر في المساواة المساواة من كل الوجوه وحينئذ يكفي في نفي المساواة الاستواء من بعض الوجوه لأن نقيض الكلي هو الجزئي فإذا قلنا لا يستويان لا يفيد نفي الاستواء من جميع الوجوه . وأجيب عن الدليل الأول بأن عدم إشعار الأعم بالأخص إنما هو في طريق الإثبات لا في طريق النفي فإن الأعم يستلزم نفي الأخص ولولا ذلك لجاز مثله في كل نفي فلا يعلم نفي أبداً إذ يقال في لا رجل رجل أعم من الرجل بصيغة العموم فلا يشعر به وهو خلاف ما ثبت بالدليل . وأجيب عن الدليل الثاني بأنه إذا قيل لا مساواة فإنما يراد نفي مساواة يصح انتفاؤه وإن كان ظاهراً في العموم وهو من قبيل ما يخصصه العقل نحو الله خالق كل شيء أي خالق كل شيء يخلق . والحاصل أن مرجع الخلاف إلى أن المساواة في الإثبات هل مدلولها لغة المشاركة في كل الوجوه حتى يكون اللفظ شاملاً أو مدلولها المساواة في بعض الوجوه حتى يصدق بأي وجه فإن قلنا بالأول لم يكن النفي للعموم لأن نقيض الكلي الموجب جزئي سالب وإن قلنا بالثاني كان للعموم لأن نقيض الجزئي الموجب كلي سالب . وخلاصة هذا أن صيغة الاستواء أما لعموم سلب التسوية أو الاستغراق لما صحت تلك الدلالة لأن قوله الأئمة من قريش لو كان معناه بعض الأئمة من قريش لوجب أن لا ينافي وجود إمام من قوم آخرين . قال الوجه الثاني : إن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي الاستغراق فوجب أن يفيد في أصله الاستغراق أما أنه يؤكد فكقوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون وأما أنه بعد التأكيد يقتضي الاستغراق فبالإجماع وأما أنه بعد التأكيد أن الألف واللام إذا دخلا في الاسم صار معرفة كما نقل عن أهل اللغة فيجب صرفه إلى ما به تحصل المعرفة وإنما تحصل المعرفة عند إطلاقه بالصرف إلى الكل معلوم للمخاطب ، فأما الصرف إلى ما دون فإنه لا يفيد المعرفة لأن بعض المجموع ليس أولى من بعض فكان مجهولاً . قال الوجه الرابع : أنه يصح استثناء أي واحد كان منه وذلك يفيد العموم على ما تقدم ، وممن حكى إجماع الصحابة على إفادة هذا التعريف للعموم ابن الهمام في التحرير ، وحكى ايضاً إجماع أهل اللغة على صحة الاستثناء . قال الزركشي في البحر وظاهر كلام الأصوليين أنها تحمل على الاستغراق لعموم فائدته ولدلالة اللفظ عليه ونقله ابن القشيري عن المعظم و صاحب الميزان عن أبي بكر السراج النحوي فقال إذا تعارض جهة العهد والجنس يصرف إلى الجنس وهذا هو الذي أورده الماوردي والروياني في أول كتاب البيع قالا لأن الجنس يدخل تحت العهد والعهد لا يدخل تحت الجنس ، وروى عن إمام الحرمين الجويني أنه مجمل لأن عمومه ليس من صيغته بل من قرينة نفي المعهود فتعين الجنس لأنه لا يخرج عنها وهو قول ابن القشيري قال الكيا الهراس أنه الصحيح لأن الألف واللام للتعريف وليست إحدى جهتي التعريف بأولى من الثانية فيكتسب اللفظ جهة الإجمال لاستوائه بالنسبة إليهما انتهى . والكلام في هذا البحث يطول جداً فقد تكلم فيه أهل الأصول وأهل النحو وأهل البيان بما هو معروف وليس المراد هنا إلا بيان ما هو الحق وتعيين الراجح من المرجوح ومن أمعن النظر وجود التأمل علم أن الحق الحمل على الاستغراق إلا أن يوجد هناك ما يقتضي العهد وهو ظاهر في تعريف الجنس . وأما تعريف الجمع مطلقاً واسم الجمع فكذلك أيضاً لأن التعريف يهدم الجمعية ويصيرها للجنس وهذا يدفع ما قيل من أن استغراق المفرد أشمل . الفرع الثامن : تعريف الإضافة وهو من مقتضيات العموم كالألف واللام من غير فرق بين كون المضاف جمعاً نحو عبيد زيد أو اسم جمع نحو جاءني ركب المدينة أو اسم جنس نحو وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ومنعت العراق درهمها ودينارها ومنعت الشام قفيزها وصاعها وقد صرح الرازي أن المفرد المضاف يعم من اختياره بأن المعرف بالألف واللام لا يعم قال الصفي الهندي في النهاية وكون المفرد المضاف للعموم وإن لم يكن منصوصاً لكن نفيه التسوية بين الإضافة ولام التعريف يقتضي العموم والحق أن عموم الإضافة أقوى ولهذا لو حلف لا يشرب الماء حنث بشرب القليل منه لعدم تناهي إفراده ولو حلف لا يشرب ماء البحر لا يحنث إلا بكله انتهى . وفي هذا الفرق نظر ولا ينافي إفادة إضافة اسم الجنس للعموم ما وقع من الخلاف فيمن قال زوجتي طالق وله أربع زوجات فإن من قال أنها لا تطلق إلا واحدة استدل بأن العرب قد لسلب عموم التسوية فعلى الأول يمتنع ثبوت شيء من إفرادها وعلى الثاني لا يمتنع ثبوت البعض وهذا يقتضي ترجيح المذهب الثاني لأن حرب النفي سابق وهو يفيد سلب العموم لا عموم السلب وأما الآية التي وقع المثال بها فقد صرح فبها بما يدل على أن النفي باعتبار بعض الأمور وذلك قوله أصحاب الجنة هم الفائزون فإن يفيد أنهما لا يستويان في الفوز بالجنة وقد رجح الصفي الهندي أن نفي الاستواء من باب المجمل من المتواطئ لا من باب العام وتقدمه إلى ترجيح الإجمال الكيا الطبري . الفرع الحادي عشر : إذا وقع الفعل في سياق النفي أو الشرط فإن كان غير متعد فهل يكون النفي له نفياً لمصدره وهو نكرة فيقتضي العموم أم لا حكى القرافي عن الشافعية والمالكية أنه يعم وقال إن القاضي عبد الوهاب في الإفادة نص على ذلك وإن كان متعدياً ولم يصرح بمفعوله نحو لا أكلت وإن أكلت ولا كان له دلالة على مفعول معين فذهبت الشافعية والمالكية و أبو يوسف وغيرهم إلى أنه يعم وقال أبو حنيفة لا يعم واختاره القرطبي من المالكية والرازي من الشافعية وجعله القرطبي من باب الأفعال اللازمة نحو يعطي ويمنع فلا يدل على مفعول لا بالخصوص ولا بالعموم . قال الاصفهاني لا فرق بين المتعدي واللازم والخلاف فيهما على السواء . وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني والغزالي والآمدي والصفي الهندي أن الخلاف إنما هو في الفعل المتعدي إذا وقع في سياق النفي أو الشرط هل يعم مفاعيله أم لا في الفعل اللازم فإنه لا يعم . والذي ينبغي التعويل عليه أنه لا فرق بينهما في نفس مصدريهما فيكون النفي لهما نفياً لهما ولا فرق بينهما وبين وقوع النكرة في سياق النفي وأما فيما عدا المصدر فالفعل المتعدي لا بد له من مفعول به فحذفه مشعر بالتعميم كما تقرر في علم المعاني وذكر القرطبي أن القائلين بتعميمه قالوا لا يدل على جميع ما يمكن أن يكون مفعولاً على جهة الجمع بل على جهة البدل قال وهؤلاء أخذوا الماهية مقيدة ولا ينبغي لأبي حنيفة أن ينازع في ذلك . الفرع الثاني عشر : الأمر للجميع بصيغة الجمع كقوله أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة عمومه وخصوصه يكون باعتبار ما يرجع إليه أن السيد إذا أشار إلى جماعة من عبيده وقال قوموا فمن تخلف عن القيام منهم استحق الذم وذلك يدل على أن اللفظ للشمول فلا يجوز أن يضاف ذلك إلى القرينة قال في المحصول لأن تلك القرينة أن كانت من لوازم هذه الصيغة فقد حصل مرادنا وإلا فلنفرض هذه الصيغة مجردة عنها ويعود الكلام انتهى . وممن صرح أن عموم صيغة الجمع في الأمر وخصوصها يكون باعتبار مرجعها الإمام الرازي في المحصول والصفي الهندي في النهاية وذكر القاضي عبد الجبار عن الشيخ أبي عبد الله البصري أن قول القائل افعلوا يحمل على الاستغراق وقال أبو الحسين البصري الأولى أن يصرف إلى المخاطبين سواء كانوا ثلاثة أو أكثر وأطلق سليم الرازي في التقريب أن المطلقات لا عموم فيها . فائدة قال إمام الحرمين الجويني و ابن القشيري أن أعلى صيغ العموم أسماء الشرط والنكرة في النفي وادعيا القطع بوضع ذلك للعموم وصرح الرازي في المحصول أن أعلاها أسماء الشرط والاستفهام ثم النكرة المنفية لدلالتها بالقرينة لا بالوضع وعكس الصفي الهندي فقدم النكرة المنفية على الكل وقال ابن السمعاني أبين وجوه العموم وألفاظ الجمع ثم اسم الجنس المعرف باللام وظاهره أن الإضافة دون ذلك في المرتبة وعكس الإمام الرازي في تفسيره فقال الإضافة أدل على العموم من الألف واللام والنكرة المنفية أدل على العموم منها إذا كانت في سياق النفي والتي بمن أدل من المجردة عنها قال أبو علي الفارسي أن مجيء أسماء الأجناس معرفة بالألف واللام أكثر من مجيئها مضافة . وقال الكيا الطبري في التلويح ألفاظ العموم أربعة : أحدها عام بصيغة ومعناه كالرجال والنساء ، والثاني عام لا بصيغته كالرهط ونحوه من أسماء الأجناس قال وهذا لا خلاف فيه ، والثالث ألفاظ مبهمة نحو ما ومن وهذا يعم كل أحد ، والرابع النكرة في سياق النفي نحو لم أر رجلاً وذلك يعم لضرورة صحة الكلام وتحقيق غرض المتكلم من الإفهام إلا أنه لا يتناول الجميع بصيغته والعموم فيه من القرينة فلهذا لم يختلفوا فيه وقد قدمنا في الفرع الثالث ما يفيد أن لفظ كل أقوى صيغ العموم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة : قال جمهور أهل الأصول أن جمع القلة المنكر ليس بعام لظهوره في العشرة فما دونها وأما جمع الكثرة المنكر فذهب جمهور المحققين إلى أنه ليس بعام وخالف في ذلك الجبائي وبعض الحنفية و ابن حزم وحكاه ابن برهان عن المعتزلة واختاره البزدوي وابن الساعات وهو أحد وجهي الشافعية كما حكاه الشيخ أبو حامد الإسفرائني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي . احتج الجمهور بأن الجمع المنكر لا يتبادر منه عند إطلاقه عن قرينة العموم نحو رأيت رجالاً استغراق الرجال كما أن رجلاً عند الإطلاق لا يتبادر منه الاستغراق لإفراد مفهومه ولو كان للعموم لتبادر منه ذلك فليس الجمع المنكر عاماً كما أن رجلاً كذا قال في المحصول لنا أن لفظ رجال يمكن نعته بأي جمع شئنا فيقال رجال ثلاثة وأربعة وخمسة فمفهوم قولك رجال يمكن أن يجعل مورد التقسيم لهذه الأقسام والمورد للتقسيم بالأقسام يكون مغايراً لكل واحد من تلك الأقسام فلا يكون دالاً عليها وأما الثلاثة فهي مما لا بد فيه فيثبت أنه يفيد الثلاث فقط . احتج القائلون أنه يفيد العموم بأنه قد ثبت إطلاقه على كل مرتبة من مراتب الجموع فإذا حملناه على الجميع فقد حملناه على جميع حقائقه فكان أولى وأجيب بمنع إطلاقه على كل مرتبة حقيقة بل هو للقدر المشترك بينها كما تقدم ولا دلالة له على الخصوص أصلاً . واحتجوا ثانياً بأنه لو لم يكن للعموم لكان مخصصاً بالبعض واللازم منتف لعدم المخصص وامتناع التخصيص بلا خصوص . وأجيب بالنقص برجل ونحوه مما ليس للعموم ولا مختصاً بالبعض بل شائع يصلح للجمع ولا يخفاك ضعف ما استدل به هؤلاء القائلون بأنه للعموم فإن دعوى عموم رجال لكل رجل مكابرة لما هو معلوم من اللغة ومعاندة لما يعرفه كل عارف بها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة : اختلفوا في أقل الجمع وليس النزاع في لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين كما ذكر ذلك إمام الحرمين الجويني والكيا الهراس وسليم الرازي فإن جمع موضوعها يقتضي ضم شيء إلى شيء وذلك حاصل في الاثنين والثلاثة وما زاد على ذلك بلا خلاف قال سليم الرازي بل قد يقع على الواحد كما يقال جمعت الثوب بعضه إلى بعض قال الشيخ أبو إسحاق الإسفرائني لفظ الجمع في اللغة له معنيان الجمع من حيث الفعل المشتق منه الذي هو مصدر جمع يجمع جمعاً والجمع الذي هو لقب وهو اسم العدد قال وبعض من لم يهتد إلى هذا الفرق خلط الباب فظن أن الجمع الذي هو بمعنى اللقب من جملة الجمع الذي هو بمعنى الفعل فقال إذا كان الجمع بمعنى الضم فالواحد إذا أضيف إلى الواحد فقد جمع بينهما فوجب أن يكون جمعاً وثبت أن الاثنين أقل الجمع وخالف بهذا القول جميع أهل اللغة وسائر أهل العلم وذكر إمام الحرمين الجويني أن الخلاف ليس في مدلول مثل قوله قد صغت قلوبكما وقول القائل ضربت رؤوس الرجلين وقطعت بطونهما بل الخلاف في الصيغ الموضوعة للجمع سواء كان للسلامة أو التكسير وذكر مثل هذا الأستاذ أبو منصور والغزالي . إذا عرفت هذا ففي أقل الجمع مذاهب : الأول : أن أقله اثنان وهو المروي عن عمر وزيد بن ثابت وحكاه عبد الوهاب عن الأشعري وابن الماجشون . قال الباجي وهو قول القاضي أبي بكر بن العربي وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك واختاره الباجي ونقله صاحب المصادر عن القاضي أبي يوسف وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أهل الظاهر وحكاه سليم الأشعري وبعض المحدثين قال ابن حزم هو قول جمهور أهل الظاهر وحكاه ابن الدهان النحوي عن محمد بن داود وأبي يوسف والخليل ونفطويه ، قال وسأل سيبويه الخليل فقال الاثنان جمع وعن ثعلب أن التثنية جمع عند أهل اللغة واختاره الغزالي . واستدلوا بقوله سبحانه قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة لأنهم طلبوا إلهاً مع الله ، ثم قالوا كما لهم آلهة فدل على أنه إذا صار لهم إلهان صاروا بمنزلة الآلهة واستدلوا أيضاً بقوله تعالى : فإن كان له إخوة فأطلق الأخوة والمراد أخوان فما فوقهما إجماعاً . وأجيب بأنه قد ورد للاثنين مجازاً كما يدل على ذلك ما روى عن ابن عباس أنه قال لعثمان ليس الأخوان أخوة في لسان قومك فقال عثمان لا أنقض أمراً كان قبلي وتوارثه الناس أخرجه ابن خزيمة والحاكم وصححه ابن عبد البر والبيهقي فلم ينكر ذلك عثمان بل عدل إلى التأويل وهو الحمل على خلاف الظاهر بالإجماع ، وبمثل هذا يجاب عما استدلوا به من قوله تعالى : إنا معكم مستمعون والمراد موسى وهارون ، وأيضاً قد قيل بمنع كون المراد موسى وهارون فقط بل هما من فرعون وأما استدلالهم بما عنه صضص أنه قال الاثنان فما فوقهما جماعة فهو استدلال خارج عن محل النزاع لأنه لم يقل الاثنان فما فوقهما جمع بل قال جماعة يعني أنهما تنعقد بهما صلاة الجماعة . المذهب الثاني : أن أقل الجمع ثلاثة وبه قال الجمهور وحكاه ابن الدهان النحوي عن جمهور النحاة وقال ابن خروف في شرح كتاب سيبويه أنه مذهب سيبويه وهذا هو القول الحق الذي عليه أهل اللغة والشرع وهو السابق إلى الفهم عند إطلاق الجمع والسبق دليل الحقيقة ولم يتمسك من خالفه بشيء يصلح للاستدلال به . المذهب الثالث : إن أقل الجمع واحد هذا حكاه بعض أهل الأصول وأخذه من كلام إمام الحرمين وقد ذكر ابن فارس في فقه العربية صحة إطلاق الجمع وإرادة الواحد ومثله قوله تعالى : فناظرة بم يرجع المرسلون المراد بالمرسلين نوح قال القفال الشاشي في كتابه في الأصول بعد ذكر الأدلة وقد يستوي حكم التثنية وما دونها بديل كمخاطب للواحد بلفظ الجمع في قوله قال رب ارجعون ، و إنا له لحافظون وقد تقول العرب للواحد افعلا افعلوا وهو ظاهر في أن ذلك مجاز وظاهر كلام الغزالي أنه مجاز بالاتفاق وذكر المازري أن القاضي أبا بكر حكى الاتفاق على أنه مجاز ولم يأت من ذهب إلى أنه حقيقة بشيء يعتد به أصلاً بل جاء باستعمالات وقعت في الكتاب العزيز وفي كلام العرب خارجة على طريقة المجاز كما تقدم وليس النزاع في جواز التجوز بلفظ الجمع عن الواحد أو الاثنين بل النزاع في كون ذلك معناه حقيقة . المذهب الرابع : الوقف . حكاه الأصفهاني في شرح المحصول عن الآمدي قال الزركشي وفي ثبوته نظر وإنما أشعر به كلام الآمدي فإنه قال في آخر المسألة وإذا عرف مأخذ الجمع من الجانبين فعلى الناظر الاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم هذا كلام ومجرد هذا لا يكفي في حكايته مذهبا انتهى ، ولا يخفاك أن هذا الموطن ليس من مواطن الوقف فإن موطنه إذا توازنت الأدلة موازنة يصعب الترجيح بينهما وأما مثل هذه المسألة فلم يأت من خالف الجمهور بشيء يصدق عليه اسم الدليل فضلاً عن أن يكون صالحاً لموازنة ما يخالفه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة : الفعل المثبت إذا كان له جهات فليس بعام في أقسامه لأنه يقع على صفة واحدة فإن عرف تعين وإلا كان مجملاً يتوقف فيه مثل قول الراوي صلى بعد غيبوبة الشفق فلا يحمل على الأحمر والأبيض وكذلك صلى في الكعبة فلا يعم الفرض والنفل هكذا قال القاضي . والقفال الشاشي والأستاذ أبو منصور ، والشيخ أبو حامد الإسفرائني ، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ، وسليم الرازي وابن السمعاني ، وإمام الحرمين الجويني ، وابن القشيري ، والإمام فخر الدين الرازي واستدلوا على ذلك بأنه إخبار عن فعل ومعلوم أن الفاعل لم يفعل كل ما اشتمل عليه تسمية ذلك الفعل مما لا يمكن استيعاب فعله فلا معنى للعموم في ذلك قال الغزالي وكما لا عموم له بالنسبة إلى أحوال الفعل فلا عموم له بالنسبة إلى الأشخاص بل يكون خاصاً في حقه صضص إلا أن يدل دليل من خارج لقوله صضص صلوا كما رأيتموني أصلي وهذا غير مسلم فإن دليل التأسي به صضص كقوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ونحو ذلك يدل على أن ما فعله صضص فسائر أمته مثله إلا أن يدل دليل على أنه خاص به وأطلق ابن الحاجب أن الفعل المثبت ليس بعام في أقسامه ثم اختار في نحو قوله نهى عن بيع الغرر وقضى بالشفعة للجار أنه يعم الغرر والجار مطلقاً وقد تقدمه إلى ذلك شيخه ابن الأنباري والآمدي وهو الحق لأن مثل هذا ليس بحكاية للفعل الذي فعله بل حكاية لصدور النهي منه عن بيع الغرر والحكم منه بثبوت الشفعة للجار لأن عبارة الصحابي يجب أن تكون مطابقة للمقول لمعرفته باللغة وعدالته ووجوب مطابقة الرواية لمسموع . وبهذا تعرف ضعف ما قاله في المحصول من أن قول الصحابي ينهى عن بيع الغرر والحكم منه ثبوت الشفعة لا يفيد العموم لأن الحجة في المحكي لا في الحكاية والذي رآه الصحابي حتى روى النهي يحتمل أن يكون خاصاً بصورة واحدة وان يكون عاماً ومع الاحتمال لا يجوز القطع بالعموم . قال وأيضاً قول الصحابي قضى رسول الله صضص بالشاهد واليمين لا يفيد العموم وكذا قول الصحابي سمعت رسول الله صضص يقول قضيت بالشفعة لاحتمال كونه حكاية عن قضاء لجار معروف ويكون الألف واللام للتعريف وقوله قضيت حكاية عن فعل معين ماض فأما قول النبي صضص قضيت بالشفعة وقول الراوي أنه قضى بالشفعة للجار فالاحتمال فيهما قائم ولكن جانب العموم راجح في الصورتين كليهما ، أما قوله نهى عن بيع الغرر وقضى بالشاهد واليمين فرجحان عمومه وضعف دعوى احتمال كونه خاصاً في غاية الوضوح لما قدمنا نقل الآمدي عن الاكثرين مثل ما ذكره صاحب المحصول وهو خلاف الصواب وإن قال به الأكثرون لأن الحجة في الحكاية لثقة الحاكي ومعرفته ، وحكى عن بعض أهل الأصول التفصيل بين أن يقترن الفعل بحرف أن فيكون للعموم كقوله قضى أن الخراج بالضمان وبين أن لا يقترن فيكون خاصاً نحو قضى بالشفعة للجار وقد حكى هذا القول القاضي في التقريب والأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق والقاضي عبد الوهاب وصححه وحكاه عن أبي بكر القفال وجعل بعض المتأخرين النزاع لفظياً من جهة أن المانع للعموم ينفي عموم الصيغة المذكورة نحو أمر وقضى والمثبت للعموم فيها هو باعتبار دليل خارجي انتهى . وأما نحو قول الصحابي كان النبي صضص يفعل كذا فلا يجري فيه الخلاف المتقدم لأن لفظ كان هو الذي دل على التكرار لا لفظ الفعل الذي بعدها نحو كان يجمع وإنما الخلاف في قول الراوي ونحوه وهذا إذا دلت قرينة على عدم الخصوص كوقوعه بعد إجمال أو إطلاق أو عموم فيفهم أنه بيان فنتبعه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة العاشرة : ذهب الجمهور إلى أن قوله تعالى : خذ من أموالهم صدقة يقتضي أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع المال إلا أن يخص بدليل قال الشافعي مخرج هذه الآية عام في الأموال وكان يحتمل أن يكون بعض الأموال دون بعض الأموال دون بعض فدلت السنة على أن الزكاة في بعض المال دون بعض وقال في موضع آخر ولولا دلالة السنة لكان ظاهر القرآن أن الأموال كلها سواء وأن الزكاة في جميعها لا في بعضها دون بعضه . واستدل الجمهور على ما ذهبوا إليه بأن هذه الصيغة من صيغ العموم لأنها جمع مضاف وقد تقدم أن ذلك من صيغ العموم فيكون المعنى خذ من كل واحد واحد من أموالهم صدقة إذ معنى العموم ذلك وهو المطلوب . وأجيب عن هذا بمنع كون معنى العموم ذلك وذهب الكرخي من الحنفية وبعض أهل الأصول ورجحه ابن الحاجب إلى أنه لا يعم بل إذا أخذ من جميع أموالهم صدقة واحدة فقد أخذ من أموالهم صدقة وإلا لزم أخذ الصدقة من كل درهم ودينار ونحوهما واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله . وأجيب بأن الجمع لتضعيف المفرد خصوصاً مثل المال والعلم والمال قد يراد به المفرد فيكون معنى الجمع المعرف باللام أو الإضافة جميع الأفراد وقد يراد به الجنس فيكون معناه جميع الأنواع بالأموال والعلوم والتعويل على القرائن ، وقد دل العرف وانعقد الإجماع على أن المراد في مثل خذ من أموالهم الأنواع لا الإفراد وأما ما يتوهم من أن معنى الجمع العام هو المجموع من حيث هو مجموع أو كل واحد من المجموع لا من الآحاد حتى بنوا عليه أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فمدفوع بأن اللام والإضافة يهدمان الجمع ويصيرانه للجنس وذهب الآمدي إلى الوقف ، فقال وبالجملة فالمسألة محتملة ومأخذ الكرخي دقيق انتهى . وقد اختلف النقل عن الكرخي فنقل عنه ابن برهان ما تقدم ونقل عنه أبو بكر الرازي أنه ذهب إلى أنه يقضي عموم وجوب الأخذ في سائر أصناف الأموال . ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم العموم أن لفظ من الداخلة على الأموال تمنع من العموم وأجاب عن ذلك القرافي بأن لا بد من تعلقها بمحذوف وهو صفة للصدقة والتقدير كائنة أو مأخوذة من أموالهم وهذا لا ينافي العموم لأن معنى كائنة أو مأخوذة من أموالهم أن لا يبقى نوع من المال إلا ويؤخذ منه الصدقة وقال بعضهم الجار والمجرور الذي هو من أموالهم أن كان متعلقاً بقوله خذ فالمتجه ما قال الكرخي لأن التعلق مطلق والصدقة نكرة في سياق الإثبات فيحصل الامتثال بصدقة واحدة من نوع واحد وإن كان متعلقاً بقوله صدقة فالقول قول الجمهور لأن الصدقة إنما تكون من أموالهم إذا كانت من كل نوع من أموالهم قال الزركشي وفيه نظر لأنه إذا كان المعتبر دلالة العموم الكائنة في أموالهم فإنها كلية فالواجب حينئذ من كل نوع من أنواع الأموال عملاً بمقتضى العموم ولا نظر إلى تنكير صدقة وأنه نكرة في سياق الإثبات فلا عموم له على الوجهين أيضاً انتهى . ولا يخفاك أن دخول من هاهنا على الاموال لا ينافي ما قاله الجمهور بل هو عين مرادهم لأنها لو حذفت لكانت الآية دالة على أخذ جميع أنواع الأموال فلما دخلت أفاد ذلك أنه يؤخذ من كل بعضه وذلك البعض هو ما ورد تقديره في السنة المطهرة من العشر في بعض ونصف العشر في بعض آخر وربع العشر في بعض آخر ونحوه هذه المقادير الثابتة بالشريعة كزكاة المواشي ثم هذا العموم المستفاد من هذه الآية قد جاءت السنة المطهرة بما يفيد تخصيصه ببعض الأنواع دون بعض فوجب بناء العام على الخاص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الحادية عشرة : الألفاظ الدالة على الجمع بالنسبة إلى دلالتها على المذكر والمؤنث على أقسام الأول ما يختص به أحدهما ولا يطلق على الآخر بحال كرجال للمذكر ونساء للمؤنث فلا يدخل أحدهما في الآخر بالإجماع إلا بدليل خارج من قياس أو غيره . الثاني : ما يعم الفريقين بوضعه وليس لعلامة التذكير والتأنيث في مدخل كالناس والأنس والبشر فيدخل فيه كل منهما بالإجماع . الثالث : ما يشملهما بأصل وضعه ولا يخص بأحدهما إلا ببيان وذلك نحو ما ومن فقيل أنه لا يدخل فيه النساء إلا بدليل ولا وجه لذلك بل الظاهر أنه مثل الناس والبشر ونحوهما كما في قوله سبحانه وتعالى ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى فلولا عمومه لهما لم يحسن التقسيم من بعد ذلك وممن حكى الخلاف في هذه الصورة من الأصولين أبو الحسين في المعتمد والكيا الهراس في التلويح وحكاه غيرهما عن بعض الحنفية وإنهم لأجل ذلك قالوا أن المرتدة لا تقتل لعدم دخولها في قوله صضص من بدل دينه فاقتلوه لكن الموجود في كتبهم أنها تعم الجميع وصرح به البزدوي و شراح كتابه و ابن الساعاتي وغيرهم إذ نقل الرازي في المحصول الإجماع على أنه لو قال من دخل داري من أرقائي فهو حر دخل فيه الإماء وكذلك لو علق بهذا اللفظ وصية أو توكيلاً أو إذناً في أمر لم يختص بالذكر وأما إمام الحرمين الجويني فخص الخلاف بما إذا كان شرطية قال الصفي الهندي والظاهر أنه لا فرق بينهما وبين من الموصولة والاستفهامية وإن الخلاف جار في الجميع انتهى . ولا يخفاك أن دعوى اختصاص من بالذكور لا ينبغي أن ننسب إلى من له أدنى فهم بل لا ينبغي أن تنسب إلى من يعرف لغة العرب . الرابع : ما يستعمل بعلامة التأنيث في المؤنث وبحذفها في المذكر وذلك الجمع السالم نحو مسلمين للذكور ومسلمات للإناث ونحو فعلوا وفعلن فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل النساء فيما هو للذكور إلا بدليل كما لا يدخل الرجال فيما هو النساء إلا بدليل . قال القفال وأصل هذا أن الأسماء وضعت للدلالة على المسمى فحصل كل نوع بما يميزه فالألف والتاء جعلتا علماً لجمع الإناث والواو والياء والنون لجمع الذكور والمؤمنات غير المؤمنين وقاتلوا خلاف قاتلن ثم قد تقوم قرائن تقتضي استواءهما فيعلم بذلك دخول الإناث في الذكور وقد لا تقوم قرائن فيلحقن بالذكور بالاعتبار والدلائل كما يلحق المسكوت عنه بالمذكور بدليل . ومما يدل على هذا إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر فلولا أن التسمية للمذكر لم يكن حظه فيها كحظ المؤنث ولكن معناه أنهما إذا اجتمعا استثقل إفراد كل منهما بوصف فغلب المذكر وجعل الحكم له فدل على أن المقصود هو الرجال والنساء توابع انتهى . قال الأستاذ أبو المنصور الرازي وهذا قول أصحابنا واختاره القاضي أبو الطيب وابن السمعاني والكيا الهراس ونصره ابن برهان والشيخ أبو إسحاق الشيرازي ونقله عن معظم الفقهاء ونقله ابن القشيري عن معظم أهل اللغة وذهبت الحنفية كما حكاه عنهم سليم الرازي وابن السمعاني وابن الساعاتي إلى أنه يتناول الذكور والإناث وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي حنيفة وحكاه الباجي عن ابن خوازمنداد وروى نحوه عن الحنابلة والظاهرية والحق ما ذهب إليه الجمهور من عدم التناول إلا على طريقة التغليب عند قيام المقتضى لذلك لاختصاص الصيغة لغة ووقوع التصريح بما يختص بالنساء مع ما يختص بالرجال في نحو إن المسلمين والمسلمات وقد ثبت في سبب نزول هذه الآية أن أم سلمة قالت يا رسول الله إن النساء قلن ما نرى الله سبحانه ذكر إلا الرجال فنزلت . قال ابن الأنباري لا خلاف بين الأصوليين والنحاة أن جمع المذكر لا يتناول المؤنث بحال وإنما ذهب بعض الأصوليين إلى تناوله الجنسين لأنه لما كثر اشتراك الذكور والإناث في الأحكام لم تقصر الأحكام على الذكور . قال الزركشي في البحر وحاصلة الإجماع على عدم الدخول حقيقة وإنما النزاع في ظهوره لاشتهاره عرفاً . قال الصفي الهندي وكلام إمام الحرمين يشعر بتخصيص الخلاف بالخطابات الواردة من الشرع لقرينة عليه وهي المشاركات في الأحكام الشرعية قال واتفق الكل أن المذكر لا يدخل تحته وإن ورد مقترناً بعلامة التأنيث ومن أقوى ما احتج به القائلون بالتعميم إجماع أهل اللغة على أنه إذا اجتمع المذكر والمؤنث غلب المذكر ، وعلى هذا ورد قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعاً في خطاب آدم وحواء وإبليس . ويجاب على هذا بأنه لم يكن ذلك بأصل الوضع ولا بمقتضى اللغة ، بل بطريق التغليب لقيام الدليل عليه وذلك خارج عن محل النزاع ولا يلزم من صحة إرادة الشيء من الشيء إرادته منه ، إذا ورد مطلقاً بغير قرينة ولم يذكر أحد من أهل اللغة ولا من علماء العربية أن صيغة الذكور عند إطلاقها موضوعة لتناول الجمع وهذا ظاهر واضح لا ينبغي الخلاف في مثله ولم يأت القائلون بالتناول بدليل يدل على ما قالوه لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع ولا من جهة العقل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية عشرة : ذهب الجمهور إلى أن الخطاب بمثل يا أيها الناس ونحوها من الصيغ يشمل العبيد والإماء وذهب جماعة إلى أنه لا يعمهم شرعاً وقال أبو بكر الرازي من الحنفية إن كان الخطاب في حقوق الله فإنه يعمهم دون حقوق الآدميين فلا يعمهم . والحق ما ذهب إليه الأولون ولا ينافي ذلك خروجهم في بعض الأمور الشرعية ، فإن ذلك إنما كان لدليل يدل على رفع الخطاب عنهم بها . قال الأستاذ أبو منصور والقاضي أبو الطيب والكيا الطبري أن الذي عليه اتباع الأئمة الأربعة وهو الصحيح من مذهب الشافعي أنهم يدخلون إتباعاً لموجب الصيغة ولا يخرجون إلا بدليل ولم يأت القائلون بخلاف ما ذهب إليه الجمهور بدليل يدل على ما ذهبوا إليه فإن ما زعموه من إجماع أهل العلم على عدم وجوب بعض الأمور الشرعية عليهم لا يصلح للاستدلال على محل النزاع لأن عدم وجوب ذلك عليهم لدليل خارجي اقتضى ذلك فكان كالمخصص لعموم الصيغة الشاملة لهم . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة عشرة : ذهب الجمهور إلى دخول الكافر في الخطاب الصالح له وللمسلمين نحو يا أيها الناس إذا ورد مطلقاً وذهب بعض الشافعية إلى اختصاصه بالمسلمين ، وقيل يدخلون في حقوق الله تعالى لا في حقوق الآدميين . قال الصفي الهندي والقائلون بعدم دخول العبيد والكفار أن زعموا أنه لا يتناولهم من حيث اللغة فهو مكابرة ، وإن زعموا التناول لكن الكفر والرق في الشرع خصصهم فهو باطل للإجماع على أنهما مكلفان في الجملة وأما الخطاب الخاص بالمسلمين أو المؤمنين فحكى ابن السمعاني عن بعض الحنفية أنه لا يشمل غيرهم من الكفار ، ثم اختار التعميم لهم ولغيرهم لعموم التكليف بهذه الأمور والمسلمين خصصوا من باب خطاب التشريف لا خطاب التخصيص بدليل قوله يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا وقد ثبت تحريم الربا في حق أهل الذمة . قال الزركشي وفيه نظر ، لأن الكلام في التناول بالصيغة لا بأمر خارج وقال بعضهم لا يتناولهم لفظاً وإن قلنا أنهم مخاطبون إلا بدليل منفصل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة عشرة : الخطاب الوارد شفاهاً في عصر النبي صضص يا أيها الناس يا أيها الذين آمنوا ويسمى خطاب المواجهة قال الزركشي لا خلاف في شموله من بعدهم من المعدومين حال صدوره ، لكن هل هو باللفظ أو بدليل آخر من إجماع أو قياس فذهب جماعة من الحنفية والحنابلة إلى أنه يشملهم باللفظ وذهب الأكثرون إلى أنه لا يشملهم باللفظ لما عرف بالضرورة من دين الإسلام أن كل حكم تعلق بأهل زمانه صضص فهو شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة كما في قوله سبحانه لأنذركم به ومن بلغ وقوله صضص بعثت إلى الناس كافة وقوله تعالى هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم إلى قوله وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال ابن دقيق العيد في شرح العنوان الخلاف في أن خطاب المشافهة هل يشمل غير المخاطبين قليل الفائدة ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف عند التحقيق لأنه إما أن ينظر إلى مدلول اللفظ لغة ولا شك أنه لا يتناول غير المخاطبين وإما أن يقال أن المحكم يقصر على المخاطبين إلا أن يدل دليل على العموم في تلك المسألة بعينها وهذا باطل لما علم قطعاً من الشريعة أن الأحكام عامة إلا حيث يرد التخصيص انتهى . وبالجملة فلا فائدة لنقل ما احتج بها المختلفون في هذه المسألة لأنا نقطع بأن الخطاب الشفاهي إنما يتوجه إلى الموجودين وإن لم يتناولهم الخطاب فلهم حكم الموجودين في التكليف بتلك الأحكام حيث كان الخطاب مطلقاً ولم يرد ما يدل على تخصيصهم بالموجودين .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة عشرة : الخطاب الخاص بالأمة نحو : يا أيها الأمة لا يشمل الرسول صضص قال الصفي الهندي بلا خلاف وكذا قال القاضي عبد الوهاب في كتاب الإفادة وأما إذا كان الخطاب بلفظ يشمل الرسول نحو يا أيها الناس ، يا أيها الذين آمنوا ، يا عبادي فذهب الأكثرون إلى أنه يشمله وقال جماعة لا يشمله وان لم يكن كذلك كان شاملاً له واستنكر هذا التفصيل إمام الحرمين الجويني لأن القول فيهما جميعاً مسند إلى الله سبحانه والرسول مبلغ خطابه إلينا فلا معنى للتفرقة . وفصل بعض أهل الأصول بتفصيل آخر فقال إن كان الخطاب من الكتاب فهو مبلغ عن الله سبحانه مندرج تحت عموم الخطاب وإن كان من السنة فإما أن يكون مجتهداً أو لا فإن قلنا مجتهد فيرجع إلى أن المخاطب هل يدخل تحت الخطاب أم لا وإن لم يكن مجتهداً فهو مبلغ والمبلغ داخل تحت الخطاب والحق أن الخطاب بالصيغة التي تشمله يتناوله بمتقضى اللغة العربية لا شك في ذلك لا شبهة حيث كان الخطاب من جهة الله سبحانه تعالى ، وإن كان الخطاب من جهته صضص فعلى الخلاف الآتي في دخول المخاطب في خطابه . وما قيل من أنه لا فائدة في الخلاف في هذه المسألة مدفوع بظهور الفائدة في الخطابات العامة وإذا فعل صضص ما يخالفها . فإن قلنا أنه داخل في العموم كان فعله تخصيصاً وإن قلنا ليس بداخل لم يكن فعله مخصصاً لذلك العموم بل يبقى على عمومه . وأما الخطاب المختص بالرسول صضص نحو يا أيها النبي الرسول ويا أيها النبي فذهب الجمهور إلى أنه لا يدخل تحته الأمة إلا بدليل من خارج وقيل أنه يشمل الأمة روى ذلك عن أبي حنيفة وأحمد واختاره إمام الحرمين وابن السمعاني . قال في المحصول وهؤلاء أن زعموا أن ذلك مستفاد من اللفظ فهو جهالة وإن زعموا أنه مستفاد من دليل آخر وهو قوله وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وما يجري مجرى ذلك فهو خارج عن هذه المسألة لأن الحكم عندنا إنما أوجب على الأمة لا بمجرد الخطاب المتناول للنبي صضص فقط بل بالدليل الآخر انتهى . قال الزركشي وما قالوه بعيد إلا أن يحمل على التعبير بالكبير عن اتباعه فيكون مجازاً لا حقيقة . وحكى إمام الحرمين أنه قال إما أن ترد الصيغة في التخصيص أو لا فإن وردت فهو خاص ، وإلا فهو عام لأنا لم نجد دليلاً قاطعاً على التخصيص ولا على التعميم انتهى . ولا يخفاك ضعف هذا التفصيل وركاكة ما أخذه لأن النزاع إنما هو في نفس الصيغة وهي خاصة بلا شك فورودها في محل التخصيص لا يزيدها تخصيصاً باعتبار اللفظ ورودها في محل التعميم لا يوجب من حيث اللفظ أن تكون عامة فإن كان ذلك في حكم الدليل على فهو غير محل النزاع .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة عشرة : الخطاب الخاص بواحد من الأمة أن صرح بالاختصاص به كما في قوله صضص تجزئك ولا تجزئ أحداً بعد فلا شك في اختصاصه بذلك المخاطب وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب فذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج ، وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية أنه يعم بدليل ما روى من قوله صضص حكمي على الواحد حكمي على الجماعة ، وما روى عنه صضص إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة ونحو ذلك ولا يخفى أن الاستدلال بهذا خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه كان له حكمه بذلك الدليل ، وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة هل تعم بمجردها أم لا فمن قال إنها تعمها بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب ولا تقتضيه بوجه من الوجوه . قال القاضي أبو بكر هو عام بالشرع لا بالوضع للقطع باختصاصه به لغة . قال إمام الحرمين الجويني لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف إذ لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي وقيل بل الخلاف معنوي لا لفظي لأنا نقول الأصل ما هو هل هو مورده الشرعي أو مقتضى اللغة قال الصفي الهندي لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي . قال الزركشي والحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعاً والخلاف في أن للعادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرب إليها أولاً فأصحابنا يعنى الشافعية يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة والخصم يقول إنها تقتضي بذلك انتهى . والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه الحق ، ويوجبه الإنصاف عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة ، بل بالدليل الخارجي ، وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صضص الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيداً لإلحاق غير ذلك المخاطب به في ذلك الحكم عند الإطلاق إلى أن يقوم الدليل الدال على اختصاصه بذلك . فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص لا كما قيل أن الراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم لأنه قد قام كما ذكرناه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة عشرة : اختلفوا في المخاطب بكسر الطاء هل يدخل في عموم خطابه ؟ فذهب الجمهور إلى أنه يدخل ولا يخرج عنه إلا بدليل . قال الأستاذ أبو منصور وهو الصحيح من مذهب الشافعي . قال الأستاذ أبو منصور وفائدة الخلاف فيما إذا ورد منه صضص لفظ عام في إيجاب حكمه أو حظره أو إباحته هل يدل ذلك على دخوله فيه أم لا قال ابن برهان في الأوسط ذهب معظم العلماء إلى أن الأمر لا يدخل تحت الخطاب ونقل عبد الجبار وغيره من المعتزلة دخوله انتهى . ونقله لهذا القول عن معظم العلماء يخالف نقل الأستاذ أبي منصور والرازي في المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى وغيرهم فإنهم جعلوا دخول المخاطب في خطابه مذهب الأكثرين ، وقال إمام الحرمين الجويني أن خطابه يتناوله بنفسه ولكنه خارج عنه عادة فذهب إلى التفصيل وتابعه على هذا التفصيل الكيا الهراس . قال الصفي الهندي هذه المسألة قد تعرض في الأمر مرة وفي النهي مرة وفي الخبر مرة والجمهور على دخوله انتهى . والذي ينبغي اعتماده أن يقال إن كان مراد القائل بدخوله في خطابه أن ما وضع للمخاطب يشمل المتكلم وضعاً فليس كذلك وإن كان المراد أنه يشمله حكماً فمسلم إذا دل عليه دليل وكان الوضع شاملاً له كألفاظ العموم.ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة عشرة : اختلفوا في المقتضي هل هو عام أم لا ؟ ولا بد من تحرير تصويره قبل نصب الخلاف فيه فنقول المقتضي بكسر الضاد هو اللفظ الطالب للإضمار بمعنى أن اللفظ لا يستقيم إلا بإضمار شيء وهناك مضمرات متعددة فهل يقدر جميعها أو يكتفي بواحد منها وذلك التقدير هو المقتضى بفتح الضاد وقد ذكروا لذلك أمثلة مثل قوله تعالى : الحج أشهر معلومات ومثل قوله صضص رفع عن أمتي الخطأ والنسيان فإن هذا الكلام لا يستقيم بلا تقدير لوقوعهما من الأمة فقدروا في ذلك تقديرات مختلفة كالعقوبة والحساب والضمان ونحو ذلك ونحو قوله صضص إنما الأعمال بالنيات وأمثال ذلك كثيرة فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحمل على العموم في كل ما يحتمله لأنه أعم فائدة وذهب بعضهم إلى أنه يحمل على الحكم المختلف فيه لأن ما سواه معلوم بالإجماع قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وهذا كله خطأ لأن الحمل على الجميع لا يجوز وليس هناك لفظ يقتضي العموم ولا يحمل على موضع الخلاف لأنه ترجيح بلا مرجع انتهى . وذهب الجمهور إلى أنه لا عموم له بل يقدر منها ما دل الدليل على إرادة فإن لم يدل دليل على إرادته واحد منها بعينه كان مجملاً بينها وبتقدير الواحد منها الذي قام الدليل على أنه المراد يحصل المقصود وتندفع الحاجة فكان ذكر ما عداه مستغنى عنه . وأيضاً قد تقرر أنه يجب التوقف فيما تقتضيه الضرورة على قدر الحاجة وهذا هو الحق وقد اختاره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي وابن السمعاني وفخر الدين الرازي والآمدي وابن الحاجب . قال الرازي في المحصول مستدلاً للقائلين بعموم المقتضى بأن إضمار أحد الحكمين ليس بأولى من إضمار الآخر فإما أن لا يضمر حكم أصلاً وهو غير جائز لأنه تعطيل لدلالة اللفظ أو يضمر الكل وهو المطلوب وهكذا استدل لهم ولم يجب عن ذلك . وأجاب الآمدي عنه بأن قولهم ليس إضمار البعض أولى من البعض إنما يلزم أن لو قلنا بإضمار حكم معين وليس كذلك بل إضمار حكم ما والتعيين إلى الشارح ثم أورد عليه بأنه يلزم الإجمال . وأجاب بأن إضمار الكل يلزم منه تكثير مخالفة الأصلي وكل منهما يعني الإجمال وإضمار الكل خلاف الأصل . قال ابن برهان وإذا قلنا ليس بمجمل فقيل يصرف إطلاقه في كل عين إلى المقصود واللائق به وقيل يضمر الموضع المختلف فيه لأن المجمع عليه مستغن عن الدليل حكى ذلك الشيخ أبو إسحاق الشيرازي . قال الأصفهاني في شرح المحصول أن قلنا المقتضى له عموم أضمر الكل وإن قلنا لا عموم له فهل يضمر ما يفهم من اللفظ بعرف الاستعمال قبل الشرع أو يضمر حكم من غير تعيين وتعيينه إلى المجتهد والأول اختيار الغزالي والثاني اختيار الآمدي والثالث التوقف انتهى . وهذا الخلاف في هذه المسألة إنما هو فيما إذا لم يفهم بدليل يدل على تعيين أحد الأمور الصالحة للتقدير أما إذا قام الدليل على ذلك فلا خلاف في أنه يتعين للتقدير ما قام الدليل على تقديره كقوله سبحانه حرمت عليكم الميتة و حرمت عليكم أمهاتكم فإنه قد قام الدليل على أن المراد في الآية الأولى تحريم الأكل وفي الثانية الوطء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة عشرة : اختلفوا في المفهوم هل له عموم أم لا ؟ فذهب الجمهور إلى أن له عموماً وذهب القاضي أبو بكر الغزالي وجماعة من الشافعية إلى أنه لا عموم له . قال الغزالي من يقول بالمفهوم قد يظن أن له عموماً ويتمسك به ثم رده بأن العموم من عوارض الألفاظ والمفهوم ليست دلالته لفظية فإذا قال في سائمة الغنم الزكاة فنفى الزكاة عن المعلوفة ليس بلفظ حتى يعم أو يخص . أورد ذلك صاحب المحصول فقال إن كنت لا تسميه عموماً لأنك لا تطلق لفظ العام إلا على الإلفاظ فالنزاع لفظي وإن كنت تعني به أنه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه فهو باطل لأن البحث على أن المفهوم هل له عموم أم لا ومتى ثبت كون المفهوم حجة لزم القطع بانتفائه عما عداه لأنه لو ثبت الحكم في غير المذكور لم يكن لتخصيصه بالذكر فائدة انتهى . قال القرافي والظاهر من حال الغزالي أنه إنما خالف في التسمية لأن لفظ العموم إنما وضع للفظ لا للمعنى . قال ابن الحاجب إنما أراد الغزالي أن العموم لم يثبت بالمنطوق به فقط بل بواسطته وهذا مما لا خلاف فيه وقال الخلاف لا يتحقق في هذه المسألة . قال ابن الأنباري في شرح البرهان أن القائل بأن للمفهوم عموماً مستنده أنه إذا قيل له في سائمة الغنم الزكاة فقد تضمن ذلك قولاً آخر وهو لا زكاة في المعلوفة وهو ولو صرح بذلك لكان عاماً في المقصود أما إذا وجدنا صورة من صور المفهوم موافقة للمنطوق به فهل نقول بطل المفهوم بالكلية حتى لا يتمسك به في غير تلك الصورة ؟ . أو نقول يتمسك به فيما وراء ذلك هذا موضع نظر . قال والأشبه بناء ذلك على أن مستند المفهوم ماذا هل هو البحث عن فوائد التخصيص كما هو اختيار الشافعي فلا يصح أن يكون له عموم وإن قلنا استناده إلى عرف لغوي فصحيح وخرج من كلامه وكلام الشيخ أن الخلاف معنوي وليس الخلاف لفظياً كما زعموا انتهى . قال العضد في شرحه لمختصر المنتهى وإذا حرر محل النزاع لم يتحقق خلاف لأنه أن فرض النزاع في أن مفهومي المرافقة والمخالفة يثبت بهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق من الصور أو لا فالحق النفي وهو مراد الغزالي وهم لا يخالفونه فيه ولا ثالث هاهنا يمكن فرضه محل النزاع . والحاصل أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق أو ما يستغرق في الجملة انتهى . قال الزركشي ما ذكروه من عموم المفهوم حتى يعمل به فيما عدا المنطوق يجب تأويله على أن المراد ما إذا كان المنطوق جزئياً وبيانه أن الإجماع على أن الثابت بالمفهوم إنما هو نقيض المنطوق والإجماع على أن نقيض الجزئي المثبت كلي سالب ومن هاتين المقدمتين يعلم أن ما كان منطوقه كلياً سالباً كان مفهومه جزئياً سالباً فيجب تأويل قولهم أن المفهوم عام على ما إذا كان المنطوق به خاصاً ليجتمع أطراف الكلام انتهى . وقد تقدم في مسألة الخلاف في كون العموم من عوارض الألفاظ فقط أم من عوارض الألفاظ والمعاني ؟ وكذلك سيأتي إن شاء الله تعالى في بحث المفهوم ما إذا تأملته زادك بصيرة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الموفية للعشرين : قال الإمام الشافعي ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال قال في المحصول مثاله أن ابن غيلان أسلم على عشر نسوة فقال النبي صضص أمسك أربعاً منهن وفارق سائرهن ولم يسأل عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع والترتيب فكان إطلاقه القول دالاً على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معاً أو على الترتيب ، وهذا فيه نظر لاحتمال أنه صضص عرف خصوصاً فأجاب بناء على معرفته ولم يستفصل انتهى . ويجاب عنه بأن هذا الاحتمال إنما يصار إليه إذا كان راجحاً وليس بمساو فضلاً عن أن يكون راجحاً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الحادية عشرون : ذكر علماء البيان أن حذف المتعلق يشعر بالتعميم نحو زيد يعطي ويمنع ونحو قوله تعالى : والله يدعو إلى دار السلام فينبغي أن يكون ذلك من أقسام العموم وإن لم يذكره أهل الأصول . قال الزركشي وفيه بحث فإن ذلك مما أخذ من القرائن وحينئذ فإن دلت القرينة على أن المقدر يجب أن يكون عاماً فالتعميم من عموم المقدر سواء ذكر أو حذف وإلا فلا دلالة على التعميم فالظاهر أن العموم فيما ذكر إنما هو لدلالة القرينة على أن المقدر عام والحذف إنما هو لمجرد الاختصار لا للتعميم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية والعشرون : الكلام العام على طريقة المدح أو الذم نحو إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم ونحو والذين هم لفروجهم حافظون ذهب الجمهور إلى أنه عام ولا يخرجه عن كونه عاماً حسبما تقضيه الصيغة كونه مدحاً أو ذماً وذهب الشافعي وبعض أصحابه إلى أنه لا يقتضي العموم وحكى أبو الحسين بن القطان والأستاذ أبو منصور وسليم الرازي وابن السمعاني وجهين في ذلك لأصحاب الشافعي وروى القول بعدم عمومه عن القاشاني والكرخي نقله عن الأول أبو بكر الرازي وعن الثاني ابن برهان وقال الكيا الهراس أنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي وقال لا يحتج بقوله والذين يكنزون الذهب والفضة على وجوب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيرهما بل مقصود الآية الوعيد لتارك الزكاة وكذا لا يحتج بقوله والذين هم لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم على ما يحل منها وما لا يحل وكان فيها بيان أن الفرج لا يجب حفظه عنهما ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل بالنكاح أو بملك اليمين صير فيه إلى ما قصد تفصيله مثل حرمت عليكم أمهاتكم انتهى والراجح ما ذهب إليه الجمهور لعدم التنافي بين قصد العموم والمدح أو الذم ومع عدم التنافي يجب التمسك بما يفيده اللفظ من العموم ولم يأت من منع من عمومه عند قصد المدح أو الذم بما تقوم به الحجة .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة والعشرون : ورود العام على سبب خاص وقد أطلق جماعة من أهل الأصول أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وحكوا ذلك إجماعاً كما رواه الزركشي في البحر . قال ولا بد في ذلك من تفصيل وهو أن الخطاب أما أن يكون جواباً لسؤال سائل أو لا فإن كان جواباً فإما أن يستقل بنفسه أو لا فإن لم يستقل بحيث لا يحصل الابتداء به فلا خلاف في أنه تابع للسؤال في عمومه وخصوصه السؤال قوله تعالى : فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم وقوله في الحديث أينقص الرطب إذا جف قالوا نعم قال فلا إذا وكقولك القائل وطئت في نهار رمضان عامداً فيقول عليك الكفارة فيجب قصر الحكم على السائل ولا يعم غيره إلا بدليل من خارج يدل على أنه عام في المكلفين أو في كل من كان بصفته . ومثال عمومه ما لو سئل عمن جامع امرأته في نهار رمضان فقال يعتق رقبة فهذا عام في كل واطئ في نهار رمضان وقوله يعتق وإن كان خاصاً بالواحد لكنه لما كان جواباً عمن جامع امرأته بلفظ يعم كل من جامع كان الجواب كذلك وصار السؤال معاداً في الجواب. قال الغزالي وهذا يشترط فيه أن يكون حال غير المحكوم عليه كحاله في كل وصف مؤثر للحكم وجعل القاضي في التقريب من هذا الضرب قوله أنتوضأ بماء البحر فقال هو الطهور ماؤه قال لأن الضمير لا بد له من أن يتعلق بما قبله ولا يحسن أن يبتدأ به قال الزركشي وفي هذا نظر لأن هذا ضمير شأن ومن شأنه صدر الكلام وإن لم يتعلق بما قبله . قال وقد رجع القاضي في موضع آخر فجعله من القسم الثاني وهو الصواب وبه صرح ابن برهان وغيره ، وإن استقل الجواب بنفسه بحيث لو ورد مبتدأ لكان كلاماً تاماً مفيداً للعموم فهو على ثلاثة أقسام لأنه أما أن يكون أخص أو مساوياً أو أعم . الأول : أن يكون الجواب مساوياً له يزيد عليه ولا ينقص كما لو سئل عن ماء البحر فقال ماء البحر لا ينجسه شيء فيجب حمله على ظاهره بلا خلاف ، وكذلك قال ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني وابن القشيري وغيرهم . الثاني : أن يكون الجواب أخص من السؤال مثل أن يسأل عن أحكام المياه فيقول ماء البحر طهور فيختص ذلك بماء البحر ولا يعم بلا خلاف كما حكاه الأستاذ أبو منصور وابن القشيري وغيرهما . الثالث : أن يكون الجواب أعم من السؤال وهما قسمان : أحدهما : أن يكون أعم منه في حكم آخر غير ما سئل عنه كسؤالهم عن التوضؤ بماء البحر وجوابه صضص بقوله هو الطهور ماؤه والحل ميتته فلا خلاف أنه عام لا يختص بالسائل ولا بمحل السؤال من ضرورتهم إلى الماء وعطشهم بل يعم حال الضرورة والاختيار كذا قال ابن فورك وصاحب المحصول وغيرهما وظاهر كلام القاضي أبي الطيب وابن برهان أنه يجري في هذا الخلاف الآتي في القسم الثاني وليس بصواب كما لا يخفى . القسم الثاني : أن يكون الجواب أعم من السؤال في ذلك الحكم الذي وقع السؤال عنه كقوله لما سئل عن كقوله لما سئل عن ماء بئر بضاعة الماء طهور لا ينجسه شيء ، وكقوله لما سئل عمن اشتري عبداً فاستعمله ثم وجد فيه عيباً الخراج بالضمان ، وهذا القسم محل الخلاف وفيه مذاهب : المذهب الأول : الأول أنه يجب قصره على ما خرج عليه السؤال وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي وحكاه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسليم الرازي وابن برهان وابن السمعاني عن المزني وأبي ثور القفال والدقاق وحكاه أيضاً الشيخ أبو منصور عن أبي الحسن الأشعري وحكاه أيضاً بعض المتأخرين عن الشافعي وحكاه القاضي عبد الوهاب والباجي عن أبي الفرج من أصحابهم وحكاه الجويني في البرهان عن أبي حنيفة ، وقال إنه الذي صح عندنا من مذهب الشافعي وكذا قال الغزالي في المنخول ومعه فخر الدين الرازي في المحصول قال الزركشي والذي في كتب الحنفية وصح عن الشافعي خلافه ونقل هذا المذهب القاضي أبي الطيب والماوردي وابن برهان وابن السمعاني عن مالك . المذهب الثاني : أنه يجب حمله على العموم لأن عدول المجيب عن الخاص المسؤول عنه إلى العام دليل على إرادة العموم ولأن الحجة قائمة بما يفيده اللفظ وهو يقتضي العموم ووروده على السبب لا يصلح معارضاً وإلى هذا ذهب الجمهور . قال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن برهان وهو مذهب الشافعي واختاره أبو بكر الصيرفي وابن القطان قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن القشيري والكيا الطبري والغزالي إنه الصحيح وبه جزم القفال الشاشي قال والأصل أن العموم له حكمه إلا أن يخصه دليل والدليل قد اختلف فإن كان في الحال دلالة يعقل بها المخاطب أن جوابه العام يقتصر به على ما أجيب عنه أو على جنسه فذاك وإلا فهو عام في جميع ما يقع عليه عمومه وحكا هذا المذهب ابن كنج عن أبي حنيفة والشافعي وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أكثر الشافعية والحنفية وحكاه القاضي عبد الوهاب عن الحنفية وأكثر الشافعية والمالكية وحكاه الباجي عن أكثر المالكية والعراقيين . قال القاضي في التقريب وهو الصحيح لأن الحكم معلق بلفظ الرسول دون ما وقع عليه السؤال ولو قال ابتداء وجب حمله على العموم فكذلك إذا صدر جواباً انتهى . وهذا المذهب هو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة لأن التعبد للعباد إنما هو باللفظ الوارد عن الشارع وهو عام ووروده على سؤال خاص لا يصلح قرينة لقصره على ذلك السبب ومن ادعى أنه يصلح لذلك فليأت بدليل تقوم به الحجة ولم يأت أحد من القائلين بالقصر على السبب بشيء يصلح لذلك وإذا ورد في بعض المواطن ما يقتضي قصر ذلك العام الوارد فيه على سببه لم يجاوز به محله بل يقصر عليه ولا جامع بين الذي ورد فيه بدليل يخصه وبين سائر العمومات الواردة على أسباب خاصة حتى يكون ذلك الدليل في ذلك الموطن شاملاً لها . المذهب الثالث : الوقف حكاه القاضي في التقريب ولا وجه له لأن الأدلة هنا لم تتوازن حتى يقتضي ذلك التوقف . المذهب الرابع : التفصيل بين أن يكون السبب هو سؤال سائل فيختص به وبين أن يكون السبب مجرد وقوع حادثة كان وذلك القوم العام وارداً عند حدوثها فلا يختص بها كذا حكاه عبد العزيز في شرح البزدوي . المذهب الخامس : أنه إن عارض هذا العام الوارد سبب عموم آخر خرج ابتداء بلا سبب فإنه يقصر على سببه وإن لم يعارضه فالعبرة بعمومه قال الأستاذ أبو منصور هذا هو الصحيح انتهى . وهذا لا يصلح أن يكون مذهباً مستقلاً فإن هذا العام الخارج ابتداء من غير سبب إذا صلح للدلالة فهو دليل خارج يوجب القصر ولا خلاف في ذلك على المذاهب كلها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة والعشرون : ذكر بعض أفراد العام الموافق له في الحكم لا يقتضي التخصيص عند الجمهور والحاصل أنه إذا وافق الخاص العام في الحكم فإن كان بمفهومه ينفي الحكم عن غيره فمن أخذ بمثل ذلك المفهوم خصص به على الخلاف الآتي في مسألة التخصيص بالمفهوم . وأما إذا لم يكن له مفهوم فلا يخصص به ومثال ذلك قوله صضص أيما إهاب دبغ فقد طهر مع قوله صضص في حديث آخر في شاة ميمونة دباغها طهورها فالتنصيص على الشاة في الحديث الآخر لا يقتضي تخصيص عموم أيما إهاب دبغ فقد طهر لأنه تنصيص على بعض إفراد العام بلفظ لا مفهوم له إلا مجرد مفهوم اللقب فمن أخذ به خصص به ومن لم يأخذ به لم يخصص به ولا متمسك لمن قال بالأخذ به كما سيأتي . ومن أمثلة المسألة قوله صضص جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وفي لفظ آخر وتربتها ظهوراً وقوله الطعام بالطعام مع قوله في حديث آخر البر بالبر إلخ وقد احتج الجمهور على عدم التخصيص بالمواقف للعام وذكر الحكم على بعض الأفراد التي شملها العام ليس بمناف فلا يكون ذكره مخصصاً وقد أنكر بعض أهل العلم وقوع الخلاف في هذه المسألة . وقال لما كان أبو ثور ممن يقول بمفهوم اللقب ظن أنه يقول بالتخصيص وليس كذلك . قال الزركشي فإن قلت : فعلى قول الجمهور ما فائدة هذا الخاص مع دخوله في العام ؟ قلت يجوز أن تكون فائدته عدم جواز تخصيصه أو التفخيم له أو إثبات المزيد له على غيره من الأفراد قال ابن دقيق العيد إن كان أبو ثور نص على هذه القاعدة فذاك وان كان اخذها له بطريق الاستنباط من مذهبه في مفهوم اللقب فلا يدل على ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة والعشرون : إذا علق الشارع حكماً على علة هل تعم تلك العلة حتى يوجد الحكم بوجودها في كل صورة ؟ فقال الجمهور بالعموم في جميع صور وجود العلة وقال القاضي أبو بكر لا يعم ثم اختلف القائلون بالعموم هل العموم باللغة أو بالشرع والظاهر أن ذلك العموم بالشرع لا باللغة فإنه لم يكن في الصيغة ما يقتضي ذلك بل اقتضى ذلك القياس وقد ثبت التعبد به كما سيأتي ، واحتج من قال بعدم العموم بأنه يحتمل أن يكون المذكور جزء علة والجزء الآخر خصوصية المحل ، وأجيب عنه بأن مجرد الاحتمال لا ينتهض للاستدلال فلا يترك به ما هو الظاهر ولكنه ينبغي تقييد هذه المسألة بأن يكون القياس الذي اقتضته العلة من الأقيسة التي ثبتت بدليل نقل أو عقل لا بمجرد محض الرأي والخيال المختل وسيأتي بمعونة الله إيضاح ذلك مستوفى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة والعشرون : اختلفوا في العام إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أم مجازاً ؟ فذهب الأكثرون إلى أنه مجاز في الباقي مطلقاً سواء كان ذلك التخصيص بمتصل أو منفصل وسواء كان بلفظ أو بغيره واختاره البيضاوي وابن الحاجب والصفي الهندي قال ابن برهان في الأوسط وهو المذهب الصحيح ونسبه الكيا الطبري إلى المحققين ووجهة أنه موضوع للمجموع فإذا أريد به البعض فقد أريد به غير ما وضع له وذلك هو المجاز . وأيضاً لو كان حقيقة في البعض كما كان حقيقة في الكل لزم أن يكون مشتركاً فيكون حقيقة في معنيين مختلفين والمفروض أنه حقيقة في معنى واحد . وأيضاً قد تقرر أن المجاز خير من الاشتراك كما تقدم فيكون مقدماً عليه . وذهب جماعة عن أهل العلم إلى أنه حقيقة فيما بقي مطلقاً قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني وهذا مذهب الشافعي وأصحابه وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ونقله ابن برهان عن أكثر الشافعية وقال إمام الحرمين هو مذهب جماعة الفقهاء وحكاه ابن الحاجب عن الحنابلة . قالوا ووجه ذلك أن اللفظ إذا كان متناولاً حقيقة باتفاق فالتناول باق على ما كان عليه ولا يضره طرد عدم تناول الغير وأجيب بأنه كان يتناوله مع غيره والآن يتناوله وحده وهما متغايران وقالوا أيضاً أنه يسبق إلى الفهم من غير قرينة وأجيب بأنه إنما يسبق إلى الفهم مع القرينة إذ السابق مع عدمها هو العموم وهذا دليل المجاز قال العضد وقد يقال إرادة الباقي معلومة دون القرينة إنما المحتاج إلى القرينة عدم إرادة الإخراج انتهى . ويجاب عنه بأنه إرادة الباقي وحده دون غيره يحتاج إلى قرينة . وذهب جماعة إلى أنه أن خص بمتصل لفظي كالاستثناء فحقيقة وان خص بمنفصل فمجاز حكاه الشيخ أبو حامد وابن برهان وعبد الوهاب عن الكرخي وغيره من الحنفية . قال عبد الوهاب هو قول أكثرهم قال ابن برهان وإليه مال القاضي ونقله عنه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع واحتجوا بأنه مع التخصيص بمتصل كلام واحد . ويجاب بأن ذلك المخصص المتصل هو القرينة التي كان سببا لفهم ارادة الباقي من لفظ العموم وهو معنى المجاز ولا فرق بين قرينة قريبة أو بعيدة متصلة أو منفصلة وذهب عبد الجبار إلى عكس هذا القول حكى ذلك عنه ابن برهان في الاوسط ولا وجه له وحكى الآمدي أنه أن خص بدليل لفظي كان حقيقة في الباقي سواء كان ذلك المخصص اللفظ متصلاً أو منفصلاً وإن خص بدليل غير لفظي كان مجازاً ولا وجه لهذا أيضاً لأن القرينة قد تكون لفظية وقد تكون غير لفظية وحكى أبو الحسين في المعتمد عن عبد الجبار أنه أن خص بالشرط والصفة فهو حقيقة وإلا فهو مجاز ولا وجه له أيضاً وقد استدل له بما لا يصلح للاحتجاج به على محل النزاع وقال أبو الحسين البصري إن كان المخصص مستقلاً فهو مجاز سواء كان عقلياً أو لفظياً وذلك كقول المتكلم بالعام أردت به البعض الباقي بعد الإخراج وان لم يكن مستقلاً فهو حقيقة كالاستثناء والشرط والصفة واختار هذا فخر الدين الرازي فإنه قال في المحصول قول أبي الحسين وهو أن القرينة المخصصة إن استقلت بنفسها صار مجازاً وإلا فلا وتقريره أن القرينة المخصصة المستقلة ضربان عقلية ولفظية أما العقلية فكالدلالة الدالة على أن غير القادر غير مراد بالخطاب بالعبادات ، وأما اللفظية فيجوز أن يقول المتكلم بالعام أردت به البعض الفلاني ، وفي هذين القسمين يكون العام مجازا والدليل عليه أن اللفظ موضوع في اللغة للاستغراق فإذا استعمل هو بعينه في البعض فقد صار اللفظ مستعملاً في غير مسماه لقرينة مخصصة وذلك هو المجاز . فإن قلت لم لا يجوز أن يقال لفظ العموم وحده حقيقة في الاستغراق ومع القرينة المخصصة حقيقة في الخصوص . قلت فتح هذا الباب يفضي إلى أن لا يوجد في الدنيا مجازاً أصلاً لأنه لا لفظ إلا ويمكن أن يقال أنه وحده حقيقة في كذا ومع القرينة حقيقة في المعنى الذي جعل مجازاً عنه والكلام في أن العام المخصوص بقرينة مستقلة بنفسها هل هو مجاز أم لا انتهى . ويجاب عنه بمنع كونه يفضي إلى ذلك ومجرد إمكان أن يقال لا اعتبار به بل الاعتبار بالدلالة الكائنة في نفس الدال مع عدم فتح باب الإمكان المفضي إلى سد باب الدلالة مطلقاً فضلاً عن سد باب مجرد المجاز ، وحكى الآمدي عن أبي بكر الرازي أنه أن بقي بعد التخصيص جمع فهو حقيقة وإلا فهو مجاز واختاره الباجي من المالكية وهذا لا ينبغي أن يعد مذهباً مستقلاً لأنه لا بد أن يبقى أقل الجمع وهو محل الخلاف ولهذا قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي أن محل الخلاف فيما إذا كان الباقي أقل الجمع فأما إذا بقي واحد أو اثنان كما لو قال لو تكلم الناس ثم قال أردت زيداً خاصة فإنه يصير مجازاً بل خلاف لأنه اسم جمع والواحد والاثنان ليسا بجمع انتهى . وهكذا لا ينبغي أن يعد مذهباً مستقلاً ما اختاره إمام الحرمين من أنه يكون حقيقة فيما بقي ومجازاً فيما أخرج ، لأن محل النزاع هو فيما بقي فقط هل يكون العام فيه حقيقة أم لا ؟ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة والعشرون : اختلفوا في العام بعد تخصيصه هل يكون حجة أم لا ومحل الخلاف فيما إذا خص بمبين أما إذا خص بمبهم كما لو قال تعالى : اقتلوا المشركين إلا بعضهم فلا يحتج به على شيء من الإفراد بلا خلاف إذ ما من فرد إلا ويجوز أن يكون هو المخرج وأيضاً إخراج المجهول من المعلوم يصيره مجهولاً وقد نقل الإجماع على هذا جماعة منهم القاضي أبو بكر وابن السمعاني والأصفهاني قال الزركشي في البحر وما نقلوه فليس بصحيح وقد حكى ابن برهان في الوجيز فصحح العمل به مع الإيهام واعتل بأنا إذا نظرنا إلى فرد شككنا فيه هل من المخرج والأصل عدمه فيبقى على الأصل ونعمل به إلى أن نعمل بالقرينة بأن الدليل المخصص معارض للفظ العام ، وإنما يكون معارضاً عند العلم به . قال الزركشي وهو في الإضراب عن المخصص والعمل بالعام في جميع أفراده وهو بعيد وقد رد الهندي هذا البحث بأن المسألة مفروضة في الاحتجاج به في الكل المخصوص وغيره ولا قائل به انتهى . وقال بعض الشافعية بإحالة هذا محتجاً بأن البيان لا يتأخر وهذا يؤدي إلى تأخره ، وأما إذا كان التخصيص بمبين فقد اختلفوا في ذلك على أقوال : الأول : أنه حجة في الباقي وإليه ذهب الجمهور واختاره الآمدي وابن الحاجب وغيرهما من محققي المتأخرين وهو الحق الذي لا شك فيه ولا شبهة لأن اللفظ العام كان متناولاً للكل فيكون حجة في كل واحد من أقسام ذلك الكل ، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة اللفظ إلى كل الأقسام على السوية فإخراج البعض منها بمخصص لا يقتضي إهمال دلالة اللفظ على ما بقي ولا يرفع التعبد به ولو توقف كونه حجة في البعض على كونه حجة في الكل للزم الدور وهو محال . وأيضاً المقتضى للعمل به فيما بقي موجود وهو دلالة اللفظ عليه والمعارض مفقود فوجد المقتضى وعدم المانع ، فوجب ثبوت الحكم . وأيضاً قد ثبت عن سلف هذه الأمة ومن بعدهم الاستدلال بالعمومات المخصوصة وشاع ذلك وذاع . وأيضاً قد قيل أنه ما من عموم إلا وقد خص وأنه لا يوجد عام غير مخصص فلو قلنا أنه غير حجة فما بقي للزم إبطال كل عموم ، ونحن نعلم أن غالب هذه الشريعة المطهرة إنما يثبت بعمومات . القول الثاني : أنه ليس بحجة فيما بقي ، وإليه ذهب عيسى بن أبان وأبو ثور كما حكاه عنهما صاحب المحصول وحكاه القفال الشاشي عن أهل العراق وحكاه الغزالي عن القدرية . قال ثم منهم من قال يبقى أقل الجمع لأنه المتيقن قال إمام الحرمين ذهب كثير من الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية و الجبائي و ابنه إلى أن الصيغة الموضوعة للعموم إذا خصت صارت مجملة ولا يجوز الاستدلال بها في بقية المسميات إلا بدليل كسائر المجازات وإليه مال عيسى بن أبان انتهى . واستدلوا بأن معنى العموم حقيقة غير مراد مع تخصيص البعض وسائر ما تحته من المراتب مجازات وإذا كانت الحقيقة غير مرادة وتعددت المجازات كان اللفظ مجملاً فيها فلا يحمل على شيء منها . وأجيب بأن ذلك إنما يكون إذا كانت المجازات متساوية ولا دليل على تعين أحدهما وما قدمنا من الأدلة فقد دلت على حمله على الباقي فيصار إليه . القول الثالث : أنه إن خص بمتصل كالشرط والصفة فهو حجة فيما بقي وإن خص بمنفصل فلا ، بل يصير مجملاً حكاه الأستاذ أبو منصور عن الكرخي ومحمد بن شجاع الثلجي بالمثلثة والجيم . قال أبو بكر الرازي كان شيخنا أبو الحسن الكرخي يقول في العام إذا ثبت خصوصه سقط الاستدلال باللفظ وصار حكمه موقوفاً على دلالة أخرى من غير فيكون بمنزلة اللفظ ، وكان يفرق بين الاستثناء المتصل باللفظ وبين الدلالة من غير اللفظ فيقول أن الاستثناء غير مانع بقاء اللفظ فيما عدا المستثنى انتهى . ولا يخفاك أن قوله سقط الاستدلال باللفظ مجرد دعوى ليس عليها دليل وقوله وصار حكمه الخ ضم دعوى إلى دعوى والأصل بقاء الدلالة والظاهر يقتضي ذلك فمن قال برفعها أو بعدم ظهورها لم يقبل منه ذلك إلا بدليل ولا دليل أصلاً . القول الرابع : إن التخصيص إن لم يمنع استفادة الحكم بالاسم وتعلقه بظاهره جاز التعلق به كما في قوله تعالى : اقتلوا المشركين لأن القيام الدلالة على المنع من قتل أهل الذمة لا يمنع من تعلق الحكم وهو القتل باسم المشركين وإن كان يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما لأن قيام الدلالة على اعتبار النصاب والحرز وكون المسروق لا شبهة للسارق فيه بمنع من تعلق الحكم وهو القطع بعموم اسم السارق ويوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ وإليه ذهب أبو عبد الله البصري تلميذ الكرخي . ويجاب عنه بأن محل النزاع دلالة اللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص وهي كائنة في الموضعين والاختلاف بكون الدلالة في البعض الآخر باعتبار أمر خارج لا يقتضي ما ذكره من التفرقة المفضية إلى سقوط دلالة الدال أصلاً وظاهراً . القول الخامس : إن كان لا يتوقف على البيان قبل التخصيص ولا يحتاج إليه كاقتلوا المشركين فهو حجة لأن مراده بين قبل إخراج الذمي وإن كان يتوقف على البيان ويحتاج إليه قبل التخصيص فليس بحجة كقوله تعالى : أقيموا الصلاة فإنه يحتاج إلى البيان قبل إخراج الحائض ونحوها وإليه ذهب عبد الجبار وليس هو بشيء ولم يدل عليه دليل من عقل ولا نقل . القول السادس : أنه يجوز التمسك به في أقل الجمع لأنه المتعين ولا يجوز فيما زاد عليه هكذا حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر والغزالي وابن القشيري وقال أنه يحكم ، وقال الصفي الهندي لعله قول من لا يجوز تخصيص التثنية . وقد استدل لهذا القائل بأن أقل الجمع هو المتيقن والباقي مشكوك فيه ورد بمنع كون الباقي مشكوكاً فيه لما تقدم من الأدلة . القول السابع : أنه يتمسك به في واحد فقط حكاه في المنخول عن أبي هاشم وهو أشد تحكماً مما قبله . القول الثامن : الوقف فلا يعمل به إلا بدليل حكاه أبو الحسين بن القطان وجعله مغايراً لقول عيسى بن أبان ومن معه وهو مدفوع بأن الوقف إنما يحسن عند توازن الحجج وتعارض الأدلة وليس هناك شيء من ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة والعشرون : إذا ذكر العام وعطف عليه بعض أفراده مما حق العموم أن يتناوله كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى فهل يدل ذكر الخاص على أنه غير مراد باللفظ العام أم لا ؟ وقد حكى الروياني في البحر عن والده في كتاب الوصية أنه حكى اختلاف العلماء في هذه المسألة فقال بعضهم هذا المخصوص لا يدخل تحت العام لأنا لو جعلناه داخلاً تحته لم يكن لإفراده بالذكر فائدة . قال الزركشي في البحر وعلى هذا جرى أبو علي الفارسي وتلميذه ابن جني وظاهر كلام الشافعي يدل عليه فانه قال في حديث عائشة في الصلاة الوسطى وصلاة العصر أنه يدل على أن الصلاة الوسطى ليست العصر لأن العطف يقتضي المغايرة قال الروياني أيضاً وقال بعضهم هذا المخصوص بالذكر هو داخل تحت العموم وفائدته التأكيد وكأنه ذكر مرة بالعموم ومرة بالخصوص وهذا هو الظاهر وقد أوضحنا هذا المقام بما لا مزيد عليه في شرحنا للمنتقى . وإذا كان المعطوف خاصاً فاختلفوا هل يقتضي تخصيص المعطوف عليه أم لا فذهب الجمهور إلى أنه لا يوجبه وقالت الحنفية يوجبه وقيل بالوقف ومثال هذه المسألة صضص لا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده فقال الأولون لا يقتل المسلم بالذمي لقوله لا يقتل مؤمن بكافر وهو عام في الحربي والذمي لأنه نكرة في سياق النفي وقالت الحنفية بل هو خاص والمراد به الكافر الحربي بقرينة عطف عليه وهو قوله ولا ذو عهد في عهده فيكون التقدير ولا ذو عهد في عهده بكافر قالوا والكافر الذي لا يقتل به ذو العهد هو الحربي فقط بالإجماع لأن المعاهد يقتل بالمعاهد فيجب أن يكون الكافر الذي لا يقتل به المسلم هو الحربي تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه . قال الأولون وهذا التقدير ضعيف لوجوه : أحدها : أن العطف لا يقتضي الاشتراك بين المتعاطفين من كل وجه . الثاني : أن قوله ولا ذو عهد في عهده كلام تام فلا يحتاج إلى إضمار قوله بكافر لأن الإضمار خلاف الأصل ، والمراد حينئذ أن العهد عاصم من القتل وقد صرح أبو عبيد في غريب الحديث بذلك فقال أن قوله ولا ذو عهد جملة مستأنفة وإنما قيده بقوله في عهده لأنه لو اقتصر على قوله ولا ذو عهد لتوهم أن من وجد منه العهد ثم خرج منه لا يقتل ، فلما قال في عهده علمنا اختصاص النهي بحالة العهد . الثالث : أن حمل الكافر المذكور على الحرب يلا يحسن لأن إهدار دمه معلوم من الدين بالضرورة فلا يتوهم أحد قتل مسلم به . وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وليس هناك ما يقتضي التطويل وقد قيل على ما ذهب إليه الأولون ما وجه الارتباط بين الجملتين إذ لا يظهر مناسبة لقوله ولا ذو عهد في عهده مطلقاً مع قوله لا يقتل مسلم بكافر . وأجاب عن ذلك الشيخ أبو إسحاق والسلام لا يقتل مسلم بكافر حتى أن ينجرد هذا عدا الكلام فتحملهم العداوة الشديدة بينهم على قتل كل كافر من معاهد وغيره فعقبه بقوله ولا ذو عهد في عهده .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة والعشرون : نقل الغزالي والآمدي وابن الحاجب الإجماع على منع العمل بالعام قبل البحث عن المخصص واختلفوا في قدر البحث والأكثرون قالوا إلى أن يغلب الظن بعدمه وقال القاضي أبو بكر الباقلاني إلى القطع به وهو ضعيف إذ القطع لا سبيل إليه واشتراطه يفضي إلى عدم العمل بك لعموم . واعلم أن في حكاية الإجماع نظراً فقد قال في المحصول قال ابن شريح لا يجوز التمسك بالعام ما لم يستقص في طلب المخصص فإذا لم يوجد بعد ذلك المخصص فحينئذ يجوز التمسك به في إثبات الحكم وقال الصيرفي يجوز التمسك به ابتداء ما لم يظهر دلالة مخصصة . واحتج الصيرفي بأمرين : أحدهما : لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لم يجز التمسك بالحقيقة إلا بعد البحث هل يوجد ما يقتضي صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز وهذا باطل فذاك مثله . بيان الملازمة أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد طلب المخصص لكان ذلك لأجل الاحتراز عن الخطأ المحتمل وهذا المعنى قائم في التمسك بحقيقة اللفظ فيجب اشتراكهما في الحكم وبيان أن التمسك بالحقيقة لا يتوقف على طلب ما يوجب العدول إلى المجاز هو أن ذلك غير واجب في العرف بدليل أنهم يحملون الألفاظ على ظاهرها من غير بحث عن أنه هل وجد ما يوجب العدول أم لا وإذا وجب ذلك في العرف وجب أيضاً في الشرع لقوله صضص ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن والأمر الثاني أن الأصل عدم التخصيص وهذا يوجب ظن عدم التخصيص فيكفي في إثبات ظن الحكم . واحتج ابن شريح أن بتقدير قيام المخصص لا يكون العموم حجة في صورة التخصيص فقبل البحث عن وجود المخصص يجوز أن يكون العموم حجة وأن لا يكون والأصل أن لا يكون حجة لأن إجراءه على العموم أولى من حمله على التخصيص ولما ظهر هذا القدر من التفاوت كفى ذلك في ثبوت الظن انتهى كلام المحصول ، وما ذكره من أن ما وجب في العرف وجب في الشرع ممنوع . وما استدل به زاعماً أنه من قول رسول الله صضص لم يثبت من وجه معتبر ولا شك أن الأصل عدم التخصيص فيجوز التمسك بالدليل العام لمن كان من أهل الاجتهاد الممارسين لأدلة الكتاب والسنة العارفين بها فإن عدم وجود المخصص لمن كان كذلك يسوغ له التمسك بالعام بل هو فرضه الذي تعبده الله به ولا ينافي ذلك تقدير وجود المخصص فإن مجرد هذا التقدير لا يسقط قيام الحجة بالعام ولا يعارض أصالة عدم الوجود وظهوره .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الموفية ثلاثين : في الفرق بين العام المخصوص والعام الذي أريد به بخصوص قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في كتاب البيع والفرق بينهما أن الذي أريد به الخصوص ما كان المراد أقل وما ليس بمراد هو الأكثر وقال أبو علي بن أبي هريرة العام المخصوص المراد به هو الأكثر وما ليس بمراد هو الأقل قال ويفترقان أن العام الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل وما ليس بمراد باللفظ أكثر . والثاني : أن المراد فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به ، وقال ابن دقيق العيد في شرح العنوان أن يتنبه للفرق بين قولنا هذا عام أريد به الخصوص وبين قولنا هذا عام مخصوص فإن الثاني أعم من الأول ألا ترى أن المتكلم إذا أراد باللفظ أولا ما دل عليه ظاهر العموم ثم أخرج بعد ذلك بعض ما دل عليه اللفظ كان عاماً مخصوصاً ولم يكن عاماً أريد به الخصوص ويقال إنه منسوخ بالنسبة إلى البعض الذي أخرج وهذا متوجه إذا قصد العموم بخلاف ما إذا نطق بالعام مريداً به بعض ما يتناوله . قال الزركشي وفرق بعض الحنابلة بينهما بوجهين الآخرين . أحدهما : أن المتكلم إذا أطلق اللفظ العام ، فإن أراد به بعضاً معيناً فهو العام الذي أريد به الخصوص وإن إراد سلب الحكم عن بعض منه فهو العام المخصوص مثاله قام الناس فإذا أردت به سلب القيام عن زيد فهو عام مخصوص . والثاني : أن العام الذي أريد به الخصوص إنما يحتاج إلى دليل معنوي يمنع إرادة الجميع فيتعين له البعض والعام المخصوص يحتاج إلى تخصيص اللفظ غالباً كالشرط والاستثناء والغاية . قال وفرق بعض المتأخرين بأن العام الذي أريد به الخصوص هو أن يطلق العام ويراد به بعض ما يتناوله وهو مجاز قطعاً لأنه استعمال اللفظ في بعض مدلوله وبعض الشيء غيره قال وشرط الإرادة في هذا أن تكون مقارنة لأول اللفظ ولا يكفي طردها في أثنائه لأن المقصود منها نقل اللفظ من معناه إلى غيره واستعماله في غير موضعه وليست الإرادة فيه إخراجاً لبعض المدلول بل إرادة استعمال اللفظ في شيء آخر غير موضعه كما يراد باللفظ مجازه ، وأما العام المخصوص فهو العام المخصوص فهو العام الذي أريد به معناه مخرجاً منه بعض أفراده فلا يشترط مقارنتها لأول اللفظ ولا تأخرها عنه بل يكفي كونها في أثنائه كالمشيئة في الطلاق . وهذا موضع خلافهم في أن العام المخصوص مجاز أو حقيقة ومنشأ التردد أن إرادة إخراج بعض المدلول هل يصير اللفظ مراداً به الباقي أو لا وهو يقوى كونه حقيقة لكن الجمهور على المجاز والنية فيه مؤثرة في نقل اللفظ عن معناه إلى غيره وقال علي بن عيسى النحوي إذا أتى بصورة العموم والمراد به الخصوص فهو مجاز إلا في بعض المواضع إذا صار الأظهر الخصوص كقولهم غسلت ثيابي وصرمت نخلي وجاءت بنو تميم وجاءت الأزد انتهى . قال الزركشي وظن بعضهم أن الكلام في الفرق بينهما مما أثاره المتأخرون وليس وكذلك فقد وقعت التفرقة بينهما في كلام الشافعي وجماعة من أصحابنا في قوله تعالى : وأحل الله البيع هل هو عام مخصوص أو عام أريد به الخصوص انتهى . ولا يخفاك أن العام الذي أريد الخصوص هو ما كان مصحوباً بالقرينة عن التكلم به على إرادة المتكلم به بعض ما يتناوله بعمومه وهذا لا شك في كونه مجازاً لا حقيقة لأنه استعمال اللفظ في بعض ما وضع له سواء كان المراد منه أكثره أو أقله فإنه لا مدخل للتفرقة بما قيل من إرادة الأقل في العام الذي أريد به الخصوص وإرادة الأكثر في العام المخصوص . وبهذا يظهر لك أن العام الذي أريد به الخصوص مجاز على كل تقدير وأما العام المخصوص فهو الذي لا تقوم قرينة عند تكلم المتكلم به على أنه أراد بعض أفراده فيبقى متناولاً لأفراده على العموم وهو عند هذا التناول حقيقة فإذا جاء المتكلم بما يدل على إخراج البعض منه كان على الخلاف المتقدم هل هو حقيقة في الباقي أم مجاز .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب الرابع في الخاص والتخصيص والخصوص

المسألة الأولى : في حده فقيل الخاص هو اللفظ الدال على مسمى واحد ويعترض عليه بأن تقييده بالوحدة غير صحيح فإن تخصيص العام قد يكون بإخراج أفراد كثيرة من أفراد العام وقد يكون بإخراج نوع من أنواعه أو صنف من أصنافه إلا أن يراد بالمسمى الواحد ما هو أعم من أن يكون فرداً أو نوعاً أو صنفاً لكنه يشكل عليه إخراج أفراد متعددة نحو أكرم القوم إلا زيداً وعمراً وبكراً . ثم يرد على هذا الحد أيضاً أنه يصدق على كل دال على مسمى واحد سواء كان مخرجاً أولاً . قيل في حده هو ما دل على كثرة مخصوصة ويعترض عليه بان التخصيص قد يكون بفرد من الأفراد نحو أكرم القوم إلا زيداً وليس زيد وحده بكثر ، وأيضاً يعترض عليه بأنه يصدق على كل لفظ يدل على كثرة سواء كان مخرجاً من عموم أم لا . إلا أن يراد بهذين الحدين تحديد الخاص من حيث هو خاص وأما التخصيص وهو المقصود بالذكر هنا فهو في اللغة الأفراد ومنه الخاصة وفي الاصطلاح تمييز بعض الجملة بالحكم كذا قال ابن السمعاني . ويرد عليه العام الذي أريد به الخصوص . وقيل بيان ما لم يرد بلفظ العام ويرد عليه أيضاً بيان ما لم يرد بالعام الذي أريد به الخصوص وليس من التخصيص . وقال العبادي التخصيص بيان المراد بالعام ويعترض عليه بأن التخصيص هو بيان ما لم يرد بالعام لا بيان ما أريد به . وأيضاً يدخل فيه العام الذي أريد به الخصوص . وقال ابن الحاجب التخصيص قصر العام على بعض مسمياته واعترض عليه بأن لفظ القصر يحتمل القصر في التناول أو الدلالة أو الحمل أو الاستعمال . وقال أبو الحسين هو إخراج بعض ما يتناوله الخطاب عنه واعترض عليه بأن ما أخرج فالخطاب لم يتناوله . وأجيب بأن المراد ما يتناوله الخطاب بتقدير عدم المخصص وقيل هو تعريف أن العموم للخصوص وأورد عليه أنه تعريف التخصيص بالخصوص وفيه دور . وأجيب بأن المراد بالتخصيص المحدود التخصيص في الاصطلاح وبالخصوص المذكور في الحد هو الخصوص في اللغة فتغايراً فلا دور . قال القفال الشاشي إذا ثبت تخصيص العام ببعض ما اشتمل عليه علم أنه غير مقصود بالخطاب وأن المراد ما عداه ولا نقول إنه داخل في الخطاب فخرج منه بدليل وإلا لكان نسخاً ولم يكن تخصيصاً فإن الفارق بينهما أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته والتخصيص بيان ما قصد باللفظ العام قال الكيا الطبري والقاضي عبد الوهاب معنى قولنا إن العموم مخصوص أن المتكلم به قدر أراد بعض ما وضع له دون بعض وذلك مجاز لأنه شبيه بالمخصوص الذي يوضع في الأصل للخصوص وإرادة البعض لا تصيره موضوعاً في الأصل لذلك ولو كان حقيقة لكان العام خاص وهو متناف وإنما يصير خاصاً بالقصد كالأمر يصير أمراً بالطلب والاستدعاء وقد ذكر مثل هذا القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي . وأما الخصوص فقيل هو كون اللفظ متناولاً لبعض ما يصلح له لا لجميعه ويعترض عليه بالعام الذي أريد به الخصوص وقيل هو كون اللفظ متناولاً للواحد المعين الذي لا يصلح إلا له ويعترض على تقييده بالوحدة مثل ما تقدم . قال العسكري الفرق بين الخاص والخصوص بأن الخاص هو ما يراد به بعض ما ينطوي عليه لفظه بالوضع والخصوص ما اختص بالوضع لا بالإرادة . وقيل الخاص ما يتناول أمراً واحداً بنفس الوضع والخصوص أن يتناول شيئاً دون غيره وكان يصح أن يتناوله ذلك الغير . وأما المخصص فيطلق على معان مختلفة فيوصف المتكلم بكونه مخصصاً للعام بمعنى أنه أراد به بعض ما تناوله ويوصف الناصب لدلالة التخصيص بأنه مخصص ويوصف الدليل بأنه مخصص كما يقول السنة تخصص الكتاب ويوصف المعتقد لذلك بأنه مخصص . وإذا عرفت أن المقصود في هذا الباب ذكر حد التخصيص دون الخاص والخصوص فالأولى في حده أن يقال هو إخراج بعض ما كان داخلاً تحت العموم على تقدير عدم المخصص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية : في الفرق بين النسخ والتخصيص إعلم أنه لما كان التخصيص شديد الشبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بعض ما يتناوله اللفظ احتاج أئمة الأصول إلى بيان الفرق بينهما من وجوه : الأول : أن التخصيص ترك بعض الأعيان والنسخ ترك الأعيان كذا قال الأستاذ الاسفرائني . الثاني : أن التخصيص يتناول الأزمان والأعيان والأحوال بخلاف النسخ فإنه لا يتناول إلا الأزمان قال الغزالي وهذا ليس بصحيح إن الأعيان والأزمان ليسا من أفعال المكلفين والنسخ يرد على الفعل في بعض الأزمان والتخصيص يرد على الفعل في بعض الأحوال انتهى . وهذا الذي ذكره هو فرق مستقل فينبغي أن يكون هو الوجه الثالث . الوجه الرابع : أن التخصيص لا يكون إلا لبعض الأفراد بخلاف النسخ فإنه يكون لكل الأفراد ذكره البيضاوي . الوجه الخامس : أن النسخ تخصيص الحكم بزمان معين بطريق خاص بخلاف التخصيص قاله أيضاً الأستاذ واختاره البيضاوي واعترض عليه إمام الحرمين . الوجه السادس : أن التخصيص تقليل والنسخ تبديل حكاه القاضي أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي واعترض بأنه قليل الفائدة . الوجه السابع : أن النسخ يتطرق إلى كل حكم سواء كان ثابتاً في حق شخص واحد أو أشخاص كثيرة والتخصيص لا يتطرق إلا إلى الأول ومنهم من عبر عن هذا بعبارة أخرى فقال التخصيص لا يدخل في الأمر بمأمور واحد والنسخ يدخل فيه . الوجه الثامن : أن التخصيص يبقى دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقة كان أو مجازاً على الخلاف السابق والنسخ يبطل دلالة حقيقة المنسوخ في مستقبل الزمان بالكلية . الوجه التاسع : أنه يجوز تأخير النسخ عن وقت العمل بالمنسوخ ولا يجوز تأخير التخصيص عن وقت العمل بالمخصوص . الوجه العاشر : أنه يجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى ولا يجوز التخصيص قال القرافي وهذا الإطلاق وقع في كتب العلماء كثيراً أو المراد أن الشريعة المتأخرة قد تنسخ بعض أحكام الشريعة المتقدمة أما كلها فلا لأن قواعد العقائد لم تنسخ . الوجه الحادي عشر : أن النسخ رفع الحكم بعد ثبوته بخلاف التخصيص فإنه بيان المراد باللفظ العام . ذكره القفال الشاشي والعبادي في زياداته . الوجه الثاني عشر : أن التخصيص بيان ما أريد بالعموم والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ . ذكره الماوردي . الوجه الثالث عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون مقترناً بالعام أو متقدماً عليه أو متأخراً عنه ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدماً على المنسوخ ولا مقترناً به بل يجب أن يتأخر عنه . الوجه الرابع عشر : أن النسخ لا يكون إلا بقول وخطاب والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والقرائن وسائر أدلة السمع . الوجه الخامس عشر : أن التخيصص يجوز أن يكون بالإجماع والنسخ لا يجوز أن يكون بالإجماع . الوجه السادس عشر : أن التخصيص يجوز أن يكون في الأخبار والأحكام والنسخ يختص بأحكام الشرع . الوجه السابع عشر : أن التخصيص على الفور والنسخ على التراخي ذكره الماوردي قال الزركشي وفيه نظر . الوجه الثامن عشر : أن تخصيص المقطوع بالمظنون واقع ونسخه به غير واقع وهذا فيه ما سيأتي من الخلاف . الوجه التاسع عشر : أن التخصيص لا يدخل في غير العام بخلاف النسخ فإنه يرفع حكم العام والخاص . الوجه الموفى عشرين : أن التخصيص يؤذن بـأن المراد بالعموم عند الخطاب ما عداه والنسخ يحقق أن كل ما يتناوله اللفظ مراد في الحال وإن كان غير مراد فيما بعده هذا جملة ما ذكروه من الفروق ، وغير خاف عليك أن بعضها غير مسلم ، وبعضها يمكن دخوله في البعض الآخر منها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة : اتفق أهل العلم سلفاً وخلفاً على أن التخصيص للعمومات جائز ولم يخالف في ذلك أحد ممن يعتد به وهو معلوم من هذه الشريعة المطهرة لا يخفى على من له أدنى تمسك بها حتى قيل إنه لا عام إلا وهو مخصوص إلا قوله تعالى: والله بكل شيء عليم قال الشيخ علم الدين العراقي ليس في القرآن عام غير مخصوص إلا أربعة مواضع أحدها قوله:حرمت عليكم أمهاتكم فكل ما سميت أما من نسب أو رضاع وإن علت فهي حرام ، ثانيها قوله كل من عليها فان كل نفس ذائقة الموت ثالثها قوله تعالى والله بكل شيء عليم ، رابعها قولهوالله على كل شيء قدير . واعترض على هذا بأن القدرة لا تتعلق بالمستحيلات وهي أشياء وقد ألحق بهذه المواضع الأربعة قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقد استدل من لا يعتد به بما لا يعتد به فقال إن التخصيص يستلزم الكذب كما قال من قال بنفس المجاز أنه ينفي فيصدق في نفيه ورد ذلك بأن صدق النفي إنما يكون بقيد العموم وصدق الإثبات بقيد الخصوص فلم يتوارد النفي والإثبات على محل واحد وما قالوه من أنه يلزم البداء مردود بأن ذلك إنما يلزم لو أريد العموم الشامل لما خصص لكنه لم يرد ابتداء وإنما أريد الباقي بعد التخصيص وقد قيد بعض المتأخرين خلاف من خالف في جواز التخصيص ممن لا يعتد به بالأخبار لا بغيرها من الإنشاءات ومن جملة من قيده بذلك الآمدي وعلى كل حال فهو قول باطل ومذهب عن حلية التحقيق والحق عاطل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة : اختلفوا في المقدار الذي لا بد من بقائه بعد التخصيص على مذاهب : المذهب الأول : أنه لا بد من بقاء جمع يقرب من مدلول العام وإليه ذهب الأكثر وحكاه الآمدي عن أكثر أصحاب الشافعي قال وإليه مال إمام الحرمين ونقله الرازي عن أبي الحسين البصري ونقله ابن برهان عن المعتزلة قال الأصفهاني ما نسبه الآمدي إلى الجمهور ليس بجيد نعم اختاره الغزالي والرازي . المذهب الثاني : أن العام إن كان مفرداً كمن والألف واللام نحو اقتل من في الدار واقطع السارق جاز التخصيص إلى أقل المراتب وهو واحد لأن الاسم يصلح لهما جميعاً وإن كان بلفظ الجمع كالمسلمين جاز إلى أقل الجمع وذلك إما ثلاثة أو اثنان على الخلاف قاله القفال الشاشي وابن الصباغ قال الشيخ أبو إسحاق الإسفرائيني لا خلاف في جواز التخصيص إلى واحد فيما إذ لم تكن الصيغة جمعاً كمن والألف واللام . المذهب الثالث : التفصيل بين أن يكون التخصيص بالاستثناء والبدل فيجوز إلى الواحد وإلا فلا يجوز قال الزركشي حكاه ابن المطهر وهذا المذهب داخل في المذهب السادس كما سيأتي . المذهب الرابع : أنه يجوز إلى أقل الجمع مطلقاً على حسب اختلافهم في أقل الجمع حكاه ابن برهان وغيره . المذهب الخامس : أنه يجوز إلى الواحد في جميع ألفاظ العموم حكاه إمام الحرمين في التلخيص عن معظم أصحاب الشافعي قال وهو الذي اختاره الشافعي ونقله ابن السمعاني في القواطع عن سائر أصحاب الشافعي ما عدا القفال وحكاه الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائيني في أصول عن إجماع الشافعية وحكاه ابن الصباغ في العدة عن أكثر الشافعية وصححه القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق ونسبه القاضي عبد الوهاب في الإفادة إلى الجمهور . المذهب السادس : إن كان التخصيص بمتصل فإن كان بالاستثناء أو البدل جاز إلى الواحد نحو أكرم الناس إلا الجهال وأكرم الناس إلا تميماً وإن كان بالصفة أو الشرط فيجوز إلى اثنين نحو أكرم القوم الفضلاء أو إذا كانوا فضلاء وإن كان التخصيص بمنفصل وكان في العام المحصور القليل كقولك قتلت كل زنديق وكانوا ثلاثة أو أربعة ولم تقتل سوى اثنين جاز إلى اثنين وإن كان العام غير محصور أو كان محصوراً كثيراً جاز بشرط كون الباقي قريباً من مدلول العام هكذا ذكره ابن الحاجب واختاره . قال الأصفهاني في شرح المحصول ولا نعرفه لغيره . احتج الأولون بأنه لو قال قائل قتلت كل من في المدينة ولم يقتل إلا ثلاثة عد لاغياً مخطئاً في كلامه وهكذا لو قال أكرمت كل العلماء ولم يكرم إلا ثلاثة أو قتلت جميع بني تميم ولم يقتل إلا ثلاثة . واحتج القائلون بجواز التخصيص إلى اثنين أو ثلاثة بأن ذلك أقل الجمع على الخلاف المتقدم ويجاب بأن ذلك خارج عن محل النزاع فإن الكلام إنما هو في العام والجمع ليس بعام ولا تلازم بينهما واستدل القائلون بجواز التخصيص إلى واحد بأنه يجوز أن يقول أكرم الناس إلا الجهال وإن كان العالم واحداً ويجاب عنه بأن محل النزاع هو أن يكون مدلول العام موجوداً في الخارج ومثل هذه الصورة اتفاقية ولا يعتبر بها فالناس هاهنا ليس بعام بل هو للمعهود كما في قوله تعالى : الذين قال لهم الناس فإن المراد بالناس المعهود وهو نعيم بن مسعود والمعهود ليس بعام استدلوا أيضاً بأنه يجوز أن يقول القائل أكلت الخبز وشربت الماء والمراد الشيء اليسير مما يتناوله الماء والخبز . وأجيب عن ذلك بأنه غير محل النزاع فإن كل واحد من الخبز والماء في المثالين ليس بعام بل هو للبعض الخارجي المطابق للمعهود والذهني وهو الخبز والماء المقرر في الذهن أنه يؤكل ويشرب وهو مقدار معلوم ، والذي ينبغي اعتماده في مثل هذا المقام أنه لا بد أن يبقى بعد التخصيص ما يصح أن يكون مدلولاً للعام ولو في بعض الحالات وعلى بعض التقادير كما تشهد لذلك الاستعمالات القرآنية والكلمات العربية ولا وجه لتقييد الباقي بكونه أكثر مما قد خص أو بكونه أقرب إلى مدلول العام فإنه هذه الأكثرية والأقربية لا تقتضيان كون ذلك الأكثر الأقرب هما مدلولا العام على التمام فإنه بمجرد إخراج فرد من أفراد العام يصير العام غير شامل لأفراده كما يصير غير شامل لها عند إخراج أكثرها ولا يصح أن يقال هاهنا إن الأكثر في حكم الكل لأن النزاع في مدلول اللفظ ولهذا يأتي الخلاف السابق في كون دلالة العام على ما بقي بعد التخصيص من باب الحقيقة أو المجاز ولو كان المخرج فرداً واحداً . وإذا عرفت أنه لا وجه للتقييد بكون الباقي بعد التخصيص أكثر أو أقرب إلى مدلول العام عرفت أيضاً أنه لا وجه للتقييد بكونه جمعاً لأن النزاع في معنى العموم لا في معنى الجمع ولا وجه لقول من قال بالفرق بين كون الصيغة مفردة لفظاً كمن وما والمعرف باللام وبين كونها غير مفردة فإن هذه الصيغ التي ألفاظها مفردة لا خلاف في كون معانيها متعددة والاعتبار إنما هو بالمعاني لا بمجرد الألفاظ .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة : اختلفوا في المخصص على قولين حكاهما القاضي عبد الوهاب في الملخص و ابن برهان في الوجيز . أحدهما : أنه إرادة المتكلم والدليل كاشف عن تلك الإرادة . وثانيهما : أنه الدليل الذي وقع به التخصيص واختار الأول ابن برهان وفخر الدين الرازي في محصوله فإنه قال المخصص في الحقيقة هو إرادة المتكلم لأنها المؤثرة ويطلق على الدال على الإرادة مجازاً وقال أبو الحسين في المتعمد العام يصير عندنا خاصاً بالأدلة ويصير خاصاً في نفس الأمر بإرادة المتكلم والحق أن المخصص حقيقة هو المتكلم لكن لما كان المتكلم يخصص بالإرادة أسند التخصيص إلى إرادته فجعلت الإرادة مخصصة ، ثم جعل ما دل على إرادته وهو الدليل اللفظي أو غيره مخصصاً في الاصطلاح والمراد هنا إنما هو الدليل فنقول المخصص للعام إما أن يستقل بنفسه فهو المنفصل وإما أن لا يستقل بل يتعلق معناه باللفظ إلى قبله فهو المتصل ، فالمنفصل سيأتي إن شاء الله وأما المتصل فقد جعله الجمهور أربعة أقسام الاستثناء المتصل والشرط والصفة والغاية وزاد القرافي وابن الحاجب بدل البعض من الكل وتابع الأصفهاني في ذلك قائلاً أنه في نية طرح ما قبله قال القرافي وقد وجدتها بالاستقراء اثني عشر هذه الخمسة وسبعة أخرى وفي الحال وظرف الزمان وظرف المكان والمجرور مع الجار والتمييز والمفعول معه والمفعول لأجله فهذه اثنا عشر ليس فيها واحد يستقل بنفسه ، ومتى اتصل بما يستقل بنفسه عموماً كان أو غيره صار غير مستقل بنفسه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المسألة السادسة : لا خلاف في جواز الاستثناء من الجنس كقام القوم إلا زيداً وهو المتصل ولا تخصيص إلا به وأما المنقطع فلا يخصص به نحو جاءني القوم إلا جاراً فالمتصل ما كان اللفظ الأول منه يتناول الثاني وفي معنى هذا ما قيل إن المتصل ما كان الثاني جزءاً من الأول والمنقطع ما لا يكون الثاني جزءاً من الأول . قال ابن السراج ولا بد في المنقطع من أن يكون الكلام الذي قبل إلا قد دل على ما يستثني منه قال ابن مالك لا بد فيه من تقدير الدخول في الأول كقولك قام القوم إلا جاراً لما ذكر القوم تبادر الذهن إلى أتباعهم المألوفة فذكر الجار في الاستثناء لذلك هو فمستثنى تقديراً . قال أبو بكر الصيرفي يجوز الاستثناء من غير الجنس ولكن يشترط أن يتوهم دخوله في المستثنى منه بوجه ما وإلا لم يجز كقوله : وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس فاليعافير قد تؤانس فكأنه قال ليس بها من يؤانس به إلا هذا النوع . وقد اختلف في الاستثناء المنقطع هل وقع في اللغة أم لا فقال الزركشي من أهل اللغة من أنكره وأوله تأويلاً رده به إلى الجنس وحينئذ فلا خلاف في المعنى ، وقال العضد في شرحه لمختصر المنتهى لا نعرف خلافاً في صحته لغة . واختلفوا أيضاً هل وقع في القرآن أم لا فأنكر بعضهم وقوعه فيه ، وقال ابن عطية لا ينكر وقوعه في القرآن إلا أعجمي . واختلفوا أيضاً هل هو حقيقة أم مجاز على مذاهب . المذهب الأول : أنه حقيقة واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني ، ونقله ابن الخباز عن ابن جني . قال الإمام الرازي وهو ظاهر كلام النحويين وعلى هذا فإطلاق لفظ الاستثناء على المستثنى المنقطع هو بالاشتراك اللفظي . المذهب الثاني : أنه مجاز وبه قال الجمهور قالوا لأنه ليس فيه معنى الاستثناء وليس في اللغة ما يدل على تسميته بذلك . المذهب الثالث : أنه لا يسمى استثناء لا حقيقة ولا مجازاً حكاه القاضي في التقريب و الماوردي ، وقال الخلاف لفظي . قال الزركشي بل هو معنوي فإن من جعله حقيقة جوز التخصيص به إلا فلا ، ثم بعد الاختلاف في كونه حقيقة أو مجازاً اختلفوا في حده ولا يتعلق بذلك كبير فائدة فقد عرفت أنه لا يخصص به وبحثنا إنما هو في التخصيص ولا يخصص إلا بالمتصل فلنقتصر على الكلام المتعلق به .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة : قد قال قائل إن الاستثناء في لغة العرب متعذر لأنه إذا قيل قام القوم إلا زيداً فلا يخلو إما أن يكون داخلاً في العموم أو غير داخل قال والقسمان باطلان . أما الأول : فلأن الفعل لما نسب إليه مع القوم امتنع إخراجه من النسبة والإلزام توارد الإثبات والنفي على محل واحد وهو محال . وأما الثاني : فلأن ما لا يدخل لا يصح إخراجه وأجاب الجمهور عن هذا بأنه إنما يلزم توارد النفي والإثبات على محل واحد لو لم يكن الحكم بالنسبة بعد تقدير الإخراج ، أما إذا كان كذلك فلا توارد فإن المراد بقول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة إنما هو سبعة وإلا ثلاثة قرينة إرادة السبعة من العشرة إرادة الجزء باسم الكل كما في سائر المخصصات للعموم أورده ابن الحاجب بالإجماع على أن الاستثناء المتصل إخراج والعشرة نص في مدلولها والنص لا يتطرق إليه تخصيص وإنما التخصيص في الظاهر . قال الزركشي وما قاله من الإجماع مردود فإن مذهب الكوفيين أن الاستثناء لا يخرج شيئاً فإذا قلت قام القوم إلا زيداً فإنك أخبرت بالقيام عن القوم الذين ليس فيهم زيد وزيد مسكوت عنه لم يحكم عليه بالقيام ولا بنفيه . قال بعض المحققين وهذا الجواب الذي أجاب به الجمهور لا يستقيم غيره لأن الله سبحانه قال : فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً فلو أراد الألف من لفظ الألف لما تخلف مراده عن إرادته فعلم أنه ما أراد إلا تسعمائة وخمسين من لفظ الألف . وأجاب القاضي أبو بكر الباقلاني بأن قول القائل جاءني عشرة إلا ثلاثة بمنزلة سبعة من غير إخراج وأنهما كإسمين وضعا لمسمى واحد أحدهما مفرد والآخر مركب وجرى صاحب المحصول على هذا واختاره إمام الحرمين واستنكر قول الجمهور وقال إنه محال لا يعتقده لبيب . قال ابن الحاجب وهذا المذهب خارج عن قانون اللغة إذ لم يعهد فيها لفظ مركب من ثلاثة ألفاظ وضع لمعنى واحد لأنا نقطع بأن دلالة الاستثناء بطريق الإخراج . وأجاب آخرون بأن المستثنى منه مراد بتمامه ثم أخرج المستثنى ثم حكم بالإسناد بعده تقديراً وإن كان قبله ذكراً فالمراد بقولك عشرة إلا ثلاثة عشرة باعتبار الأفراد ثم أخرجت ثلاثة ثم أسند إلى الباقي تقديراً فالمراد بالإسناد ما يبقى بعد الإخراج . قال ابن الحاجب وهو الصحيح ورجحه الصفي الهندي وجماعة من أهل الأصول . والفرق بين هذا الجواب والجواب الذي قبله بأن الأفراد في هذا غير مرادة بكمالها وفي الجواب الذي قبله هي مرادة بكمالها والاستثناء إنما هو لتفسير النسبة للدلالة على عدم المراد . وأيضاً الفرق بين هذه الثلاثة الأجوبة أن جواب الجمهور يدل على أن الثلاثة تخصيص وعلى الجواب الثاني ليست بتخصيص وعلى الثالث محتملة ، فقيل الأظهر أنها تخصيص ، وقيل ليست بتخصيص . قال الماوردي أصل هذه الخلاف في الاسثناء من العدد هل يكون الاستثناء فيه كقرينة غيرت وضع الصيغة أو لم تغيره وإنما كشفت عن المراد بها فمن جعل أسماء العدد كالنصوص التي لا تحتمل سوى ما يفهم منها . قال بالأول وينزل المستثنى والمستثنى منه كالكلمة الواحدة الدالة على عدد ما ويكون المستثنى كجزء من أجزاء هذه الكلمة لمجموع هو الدال على العدد المنفى ومن لم يجعل أسماء العدد كالنصوص فإن العشرة استعملت في عشرة ناقصة جعل الاستثناء قرينة لفظية دلت على المراد بالمستثنى منه كما دل قوله لا تقتلوا الرهبان على المراد بقوله اقتلوا المشركين . قال فالحاصل أن مذهب الأكثرين أنك استعملت العشرة في سبعة مجازاً دل عليه قوله إلا ثلاثة والقاضي وإمام الحرمين عندهما أن المجموع يستعمل في السبعة وابن الحاجب عنده أنك تصورت ماهية العشرة ثم حذفت منها ثلاثة ثم حكمت بالسبعة فكأنه قال له علي الباقي من عشرة أخرج منها ثلاثة أو عشرة إلا ثلاثة له عندي وكل من أراد أن يحكم على شيء بدأ باستحضاره في ذهنه فهذا القائل بدأ باستحضار العشرة في ذهنه ثم أخرج الثلاثة ثم حكم كما أنك تخرج عشرة دراهم في الكيس ثم ترد منها إليه ثلاثة ثم تهب الباقي وهي السبعة انتهى . والظاهر ما ذهب إليه الجمهور لأن الإسناد إنما يتبين معناه بجميع أجزاء الكلام وعلى كل حال فالمسألة قليلة الفائدة لأن الاستثناء قد تقرر وقوعه في لغة العرب تقرراً مقطوعاً به لا يتيسر لمنكر أن ينكره وتقرر أن ما بعده آلة الاستثناء خارج عن الحكم لما قبلها بلا خلاف وليس النزاع إلا في صحة توجيه ما تقرر وقوعه وثبت استعماله ، وما ذكرناه في المقام يكفي في ذلك ويندفع به تشكيك من شك في هذا الأمر المقطوع به فلا نطول باستيفاء ما قيل في أدلة تلك الأجوبة وما قيل عليها . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة : يشترط في صحة الاستثناء شروط : الأول : الاتصال بالمستثنى منه لفظاً بأن يكون الكلام واحداً غير منقطع ويحق به ما هو في حكم الاتصال وذلك بأن يقطعه لعذر كسعال أو عطاس أو نحوهما مما لا يعد فاصلاً بين أجزاء الكلام فإن انفصل لا على هذا الوجه كان لغواً ولم يثبت حكمه . قال في المحصول الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ إلا أو أقيم مقامه والدليل على هذا التعريف أن الذي يخرج بعض الجملة عنها إما أن يكون معنوياً كدلالة العقل والقياس وهذا خارج عن هذا التعريف وإما أن يكون لفظياً وهو إما أن يكون منفصلاً فيكون مستقلاً بالدلالة وإلا كان لغواً وهذا أيضاً خارج عن الحد أو متصلاً وهو إما التقييد بالشرط أو الصفة أو الغاية أو الاستثناء . أما التقييد بالصفة فالذي خرج لم يتناوله لفظ التقييد بالصفة لأنك إذا قلت أكرمني بنو تميم الطوال خرج منهم القصار ولفظ الطوال لا يتناول القصار بخلاف قولنا أكرم بني تميم إلا زيداً فإن الخارج وهو زيد تتناوله صيغة الاستثناء وهذا هو الاحتراز عن التقييد بالشرط . وأما التقييد بالغاية فالغاية قد تكون داخلة كما في قوله تعالى : إلى المرافق بخلاف الاستثناء فثبت أن التعريف المذكور للاستثناء منطبق عليه انتهى . وقد ذهب إلى اشتراط الاتصال جمهور أهل العلم وروى عن ابن عباس أنه يصح الاستثناء وإن طال الزمان ثم اختلف عنه فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبداً وقد رد بعض أهل العلم وقالوا لم يصح عن ابن عباس ومنهم إمام الحرمين والغزالي لما يلزم من ارتفاع الثقة بالعهود والمواثيق لإمكان تراخي المستثنى وقال القرافي المنقول عن ابن عباس إنما هو في التعليق على مشيئة الله تعالى خاصة كمن حلف وقال إن شاء الله وليس هو في الإخراج بألا وأخواتها . قال ونقل العلماء أن مدركه في ذلك قوله تعالى : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت قال المعنى إذا نسيت قول إن شاء الله فقل بعد ذلك ولم يخصص انتهى . ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس لعله لم يعلم بأنها ثابتة في مستدرك الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين بلفظ إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلى سنة وقد روى عنه هذا غير الحاكم من طرق كما ذكره أبو موسى المديني وغيره . وقال سعيد بن منصور حدثنا أبو معاوية قال حدثنا الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء بعد سنة ورجال هذا الإسناد كلهم أئمة ثقات فالرواية عن ابن عباس قد صحت ولكن الصواب خلاف ما قاله . ويدفعه ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عنه صضص أنه قال من حلف على شيء فرأى غيره خيراً منه فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه ولو كان الاستثناء جائزاً على التراخي لم يوجب التكفير على التعيين ولقال فليستثن أو يكفر . وأيضاً هو قول يستلزم بطلان جميع الإقرارات والإنشاءات لأن من وقع ذلك منه يمكن أن يقول من بعد قد استثنيت فيبطل حكم ما وقع منه وهو خلاف الإجماع وأيضاً يستلزم أنه لا يصح صدق ولا كذب لجواز أن يرد على ذلك الاستثناء فيصرفه عن ظاهره . وقد احتج لما قاله ابن عباس بما أخرجه أبو داود وغيره أنه صضص لأغزون قريشاً ثم سكت ثم قال إن شاء الله وليس في هذا ما تقوم به الحجة لأن ذلك السكوت يمكن أن يكون بعارض يعرض يمنع عن الكلام وأيضاً غاية ما فيه أنه يجوز له أن يستثني في اليمين بعد سكوته وقتاً يسيراً ولا دليل على الزيادة على ذلك وقول ابن عباس إنه إذا قال شيئاً ولم يستثن فله أن يستثني عند الذكر قال وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه انتهى . وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه ويروى عن سعيد بن جبير أنه يجوز الاستثناء ولو بعد يوم أو أسبوع أو سنة وعن طاوس يجوز ما دام في المجلس وعن عطاء يجوز له أن يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة وروى عن مجاهد أنه يجوز إلى سنتين . واعلم أن الاسثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر قد دلت عليه الأدلة الصحيحة منها حديث لأغزون قريشاً المتقدم ومنها ما ثبت في الصحيح من قوله صضص ولا يعضد شجرها ولا يختلي خلاها فقال العباس إلا الأذخر فإن لقينهم وبيوتهم فقال صضص إلا الأذخر ومنها ما ثبت في الصحيح أيضاً في حديث سليمان لما قال « لأطوفن الليلة » ومنها قوله صضص في صلح الحديبية إلا سهيل بن بيضاء . الشرط الثاني : أن يكون الاستثناء غير مستغرق فإن كان مستغرقاً فهو باطل بالإجماع كما حكاه جماعة من المحققين منهم الرازي في المحصول فقال أجمعوا على فساد الاستثناء المستغرق ومنهم ابن الحاجب فقال في مختصر المنتهى الاستثناء المستغرق باطل بالاتفاق واتفقوا أيضاً على جواز الاستثناء إذا كان المستثنى أقل مما بقي من المستثنى منه واختلفوا إذا كان أكثر مما بقي منه فمنع ذلك قوم من النحاة منهم الزجاج وقال لم ترد به اللغة ولأن الشيء إذا نقص يسيراً لم يزل عنه اسم ذلك الشيء فلو استثنى أكثر لزال الاسم قال ابن جني لو قال له عندي مائة إلا تسعة وتسعين ما كان متكلماً بالعربية وكان عبثاً من القول وقال ابن قتيبة في كتاب المسائل إن ذلك يعني استثناء الأكثر لا يجوز في اللغة لأن تأسيس الاستثناء على تدارك قليل من كثير أغفلته أو نسيته لقلته ثم تداركته بالاستثناء ثم ذكر مثل كلام الزجاج قال الشيخ أبو حامد أنه مذهب البصريين من النحاة وأجازه أكثر أهل الكوفة منهم وأجازه أكثر الأصوليين نحو عندي له عشرة إلا تسعة فيلزمه درهم وهو قول السيرافي وأبي عبيدة من النحاة محتجين بقوله تعالى : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين والمتبعون له هم الأكثر بدليل قوله تعالى : وقليل من عبادي الشكور وقوله وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ومن ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث أبي بكر رضي الله عنه من رسول الله صضص عن الرب عز وجل يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم وقد أطعم سبحانه وكسا الأكثر من عباده بلا شك وقد أجيب عن هذا الدليل بأنه استثناء منقطع ولا وجه لذلك ومن جملة المانعين من استثناء الأكثر أحمد بن حنبل وأبو الحسن الأشعري وابن درستويه من النحاة وهو أحد قولي الشافعي والحق أنه لا وجه للمنع لا من جهة اللغة ولا من جهة الشرع ولا من جهة العقل . وأما جواز استثناء المساوي فبالأولى وإليه ذهب الجمهور وهو واقع في اللغة وفي الكتاب العزيز نحو قوله سبحانه قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا وقد نقل القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والمازري والآمدي عن الحنابلة أنه لا يصح استثناء المساوي ولا وجه لذلك . ومن المانعين استثناء المساوي ابن قتيبة فإنه قال القليل الذي يجوز استثناؤه هو الثلث فما دونه . الشرط الثالث : أن يلي الكلام بلا عاطف فأما إذا وليه حرف العطف نحو عندي له عشرة دراهم وإلا درهماً أو فإلا درهما كان لغوا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني بالاتفاق . الشرط الرابع : أن لا يكون الاستثناء من شيء معين مشار إليه كما لو أشار إلى عشرة دراهم فقال إن هذه الدراهم لفلان إلا هذا وهذا فقال إمام الحرمين في النهاية أن ذلك لا يصح لأنه إذا أضاف الإقرار إلى معين اقتضى الإقرار الملك المطلق فيها فإذا أراد الاستثناء في البعض كان رجوعا عن الإقرار انتهى . والحق جوازه ولا مانع منه ومجرد الإقرار في ابتداء الكلام موقوف على انتهاثه من غير فرق بين مشار إليه وغير مشار إليه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة : اتفقوا على أن الاستثناء من الإثبات نفي وأما الاستثناء من النفي فذهب الجمهور إلى أنه إثبات وذهبت الحنفية إلى أن الاستثناء لا يكون إثباتا وجعلوا بين الحكم بالإثبات والحكم بالنفي واسطة وهي عدم الحكم قالوا فمقتضى الاستثناء بقاء المستثنى غير محكوم عليه لا بالنفي ولا بالإثبات . واختلف كلام فخر الدين الرازي فوافق الجمهور في المحصول واختار مذهب الحنفية في تفسيره والحق ما ذهب إليه الجمهور ودعوى الواسطة مردودة على أنها لو كان لها وجه لكان مثل ذلك لازماً في الاستثناء من الإثبات واللازم باطل بالإجماع فالملزوم مثله . وأيضاً نقل الأئمة عن اللغة يخالف ما قالوه ويرد عليه ولو كان ما ذهبوا إليه صحيحاً لم تكن كلمة التوحيد توحيداً فإن قولنا لا إله إلا الله هو استثناء من نفي وقد ثبت عنه صضص أنه قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . وقد استدلت الحنفية بأن الاستثناء هو مأخوذ من قولك ثنيت الشيء إذا صرفته عن وجه فإذا قلت لا عالم إلا زيد فهاهنا أمران أحدهما هذا الحكم و الثاني نفس العلم فقولك إلا زيد يحتمل أن يكون عائداً إلى الأول وحينئذ لا يلزم تحقق الثبوت إذ الاستثناء إنما يزيل الحكم بالعلم فيبقى المستثنى مسكوتاً عنه غير محكوم عليه بنفي في ولا إثبات ويحتمل أن يكون عائداً إلى الثاني وحينئذ يلزم تحقق الثبوت لأن ارتفاع العدم يحصل الوجود لا محالة لكون عود الاستثناء إلى الأول أولى إذ الألفاظ وضعت دالة على الأحكام الذهنية لا على الأعيان الخارجية فثبت أن عود الاستثناء إلى الأول أولى . وحكى عنهم الرازي في المحصول أنهم احتجوا بقوله صضص لا نكاح إلا بولي ولا صلاة إلا بطهور ولا يلزم منه تحقق النكاح عند حضور الولي ولا تحقق الصلاة عند حضور الوضوء بل يدل على عدم صحتهما عند عدم هذين الشرطين هكذا حكى عنهم المحصول ولم يتعرض للرد عليهم . ويجاب عن الأول بمنع ما قالوه ولو سلم أنه لا يستفاد الإثبات من الوضع اللغوي لكان مستفاداً من الوضع الشرعي وعن الثاني بأنه إن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع الشرعي فلا بد من اعتبار تمام ما اشترط الشرع في النكاح والصلاة وإن كان النزاع فيما يفيد ذلك باعتبار الوضع اللغوي فدخول الباء في المستثنى قد أفاد معنى غير المعنى الذي مع عدمها فإن دخولها ليس بمخرج مما قبله لأن لم نقل لا نكاح إلا الولي ولا صلاة إلا الطهور بل قلنا إلا بولي وإلا بطهور فلا بد من تقدير متعلق هو المستثنى منه فيكون التقدير لا نكاح يثبت بوجه إلا مقترناً بولي أو نحو ذلك من التقديرات قال ابن دقيق العيد في شرح الإلمام وكل هذا عندي تشغيب ومراوغات جدلية والشرع خاطب الناس بهذه الكلمة يعني كلمة الشهادة وأمرهم بها لإثبات مقصود التوحيد وحصل الفهم منهم بذلك والقبول له من غير زيادة ولا احتياج إلى أمر آخر ولو كان وضع اللفظ لا يفيد التوحيد لكان أهم المهمات تعليم اللفظ الذي يقتضيه لأنه المقصود الأعظم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة العاشرة : اختلفوا في الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة هل يعود إلى الجميع أو إلى الأخيرة كقوله سبحانه : والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق إلى قوله إلا من تاب فذهب الشافعي وأصحابه إلى أنه يعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل وقد نسب ابن القصار هذا المذهب إلى مالك . قال الزركشي وهو الظاهر من مذاهب أصحاب مالك ونسبه صاحب المصادر إلى القاضي عبد الجبار وحكاه القاضي أبو بكر عن الحنابلة قال ونقلوه عن نص أحمد فإنه قال في قوله صضص لا يؤمن الرجل في سلطانه ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه قال أرجو أن يكون الاستثناء على كله وذهب أبو حنيفة وجمهور أصحابه إلى عوده إلى الجملة الأخيرة إلا أن يقوم دليل على التعميم واختاره الفخر الرازي وقال الأصفهاني في القواعد أنه الأشبه ونقله صاحب المعتمد عن الظاهرية وحكى عن أبي عبد الله البصري وأبي الحسن الكرخي وإليه ذهب أبو علي الفارسي كما حكاه عنه الكيا الطبري وابن برهان وذهب جماعة إلى الوقف حكاه صاحب المحصول عن القاضي أبي بكر والمرتضى من الشيعة . قال سليم الرازي في التقريب وهو مذهب الأشعرية واختاره إمام الحرمين الجويني والغزالي وفخر الدين الرازي . قال في المحصول بعد حكاية الوقف عن أبي بكر والمرتضى إلا أن المرتضى توقف للاشتراك والقاضي لم يقطع بذلك ومنهم من فصل القول فيه وذكروا وجوهاً . وأدخلها في التحقيق ما قيل أن الجملتين من الكلام إما أن يكونا من نوع واحد أو من نوعين فإن كان الأول فإما أن تكون إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى أو لا تكون كذلك فإن كان الثاني فإما أن تكونا مختلفتي الاسم والحكم أو متفقتي الاسم مختلفتي الحكم أو مخنلفتي الاسم متفقتي الحكم . فالأول : كقولك أطعم ربيعة واخلع على مضر إلى الطوال والأظهر هاهنا اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة لأن الظاهر أنه لم ينتقل عن الجملة المستقلة بنفسها إلا وقد تم غرضه الأولى فلو كان الاستثناء راجعاً إلى جميع الجمل لم يكن قد تم غرضه ومقصوده من الجملة الأولى . والثاني : كقولنا أطعم ربيعة واخلع على ربيعة إلا الطوال . والثالث : كقولنا أطعم ربيعة وأطعم مضر إلا الطوال والحكم أيضاً هاهنا كما ذكرنا لأن كل واحدة من الجملتين مستقلة فالظاهر أنه لم ينتقل إلى أخراهما إلا وقد تم غرضه من الأولى بالكلية . وأما إن كانت إحدى الجملتين متعلقة بالأخرى فإما أن يكون حكم الأولى مضمراً في الثانية كقوله أكرم ربيعة ومضر إلا الطوال أو اسم الأولى مضمراً في الثانية كقوله أكرم ربيعة واخلع عليهم إلا الطوال فالاستثناء راجع إلى الجملتين لأن الثانية لا تستقل كلاماً إلا مع الأولى فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما . وأما إن كانت الجملتان نوعين من الكلام فإما أن تكون القصة واحدة أو مختلفة ، فإن كانت مختلفة فهو كقولنا أكرم ربيعة والعلماء هم المتكلمون إلا أهل البلدة الفلانية فالاستثناء راجع إلى ما يليه لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها ، وأما إن كانت القصة واحدة فكقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات الآية فالقصة واحدة وأنواع الكلام مختلفة . فالجملة الأولى أمر ، والثانية نهي ، والثالثة خبر فالاستثناء فيها يرجع إلى الجملة الأخيرة لاستقلال كل واحدة من تلك الجملتين بنفسها . وأما إن كانت القصة واحدة حق لكنا إذا أردنا المناظرة اخترنا التوقف لا بمعنى الاشتراك ، بل بمعنى أنا لا نعلم حكمه في اللغة ماذا ، وهذا هو اختيار القاضي انتهى . قال ابن فارس في كتاب فقه اللغة العربية إن دل الدليل على عوده إلى الجميع عاد كآية المحاربة وإن دل على منعه امتنع فآية القذف انتهى . ولا يخفاك أن هذا خارج عن محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل الدليل كان المعتمد ما دل عليه وإنما الخلاف حيث لم يدل الدليل على أحد الأمرين . واستدل أهل المذهب الأول بأن الجمل إذا تعاطفت صارت كالجملة الواحدة ، قالوا بدليل الشرط والاستثناء بالمشيئة فإنهما يرجعان إلى ما تقدم إجماعاً . وأجيب أيضاً عن القياس على الشرط بالفرق بينهما ، وذلك بأن الشرط قد يتقدم كما يتأخر ، ويجاب عن الأول بأن الجمل المتعاطفة لها حكم المفردات ودعوى اختصاص ذلك بالمفردات لا دليل عليها ، وعن الثاني بأنه يمنع مثل هذا الفرق ، لأن الاستثناء يفيد مفاد الشرط في المعنى . واستدل أهل المذهب الثاني بأن رجوع الاستثناء إلى ما يليه من الجمل هو الظاهر فلا يعدل عنه إلا بدليل . ويجاب عنه بمنع دعوى الظهور والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن القيد الواقع بعد جمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها لا من نفس اللفظ ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جمعها ، وإن منع مانع فله حكمه ولا يخالف هذا ما حكوه عن عبد الجبار وجعلوه مذهباً رابعاً من أن الجمل إن كانت كلها مسوقة لمقصود واحد انصرف إلى الجميع ، وإن سيقت لأغراض مختلفة اختص بالأخيرة . فإن كونها مسوقة لأغراض مختلفة هو مانع من الرجوع إلى الجميع . وكذا لا ينافي هذا ما جعلوه مذهباً خامساً وهو أنه إن ظهر أن الواو للابتداء كقوله أكرم بني تميم والنحاة البصريين إلا البغاددة فإنه يختص بالأخيرة لأن كون الواو للابتداء هو مانع من الرجوع إلى الجميع . وكذلك لا ينافي هذا ما حكوه مذهباً سادساً من كون الجملة الثانية إن كانت إعراضاً وإضراباً عن الأولى اختص بالأخيرة لأن الإعراض والإضراب مانع من الرجوع إلى الجميع ، وقد أطال أهل الأصول الكلام في هذه المسألة وساقوا من أدلة المذاهب ما لا طائل تحته فإن بعضها احتجاج بقصة خاصة في الكتاب أو السنة قد قام الدليل على اختصاصها بما اختصت به وبعضها يستلزم القياس في اللغة وهو ممنوع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الحادية عشرة : إذا وقع بعد المستثنى والمستثنى منه جملة تصلح أن تكون صفة لكل واحد منهما فعند الشافعية أن تلك الجملة ترجع إلى المستثنى منه وعند الحنفية إلى المستثنى فإذا قال عندي له ألف درهم إلا مائة . قضيت ذلك فعند الشافعية أنه يكون هذا الوصف راجعاً إلى المستثنى منه فيكون مقراً بتسعمائة مدعياً لقضائها فإن برهن على دعواه فذلك وإلا فعليه ما أقر به وعند الحنفية يرجع الوصف إلى المستثنى فيكون مقراً بألف مدعياً لقضاء مائة منه . وهكذا إذا جاء بعد الجمل ضمير يصلح لكل واحدة منها نحو أكرم بني هاشم وأكرم بني المطلب وجالسهم . أما إذا كان الضمير أو الوصف لا يصلح إلا لبعض الجمل دون بعض كان للتي يصلح لها دون غيرها نحو أكرم القوم وأكرم زيداً العالم وأكرم القوم وأكرم زيداً وعظمه . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية عشرة : التخصيص بالشرط وحقيقته في اللغة العلامة كذا قيل واعترض عليه بما في الصحاح وغيره من كتب اللغة بأن الذي بمعنى العلامة هو الشرط بالتحريك وجمعه أشراط ومنه أشراط الساعة أي علاماتها وأما الشرط بالسكون فجمعه شروط هذا جمع الكثرة فيه ويقال في جمع القلة منه أشرط كفلوس وأفلس . وأما حقيقة في الاصطلاح فقال الغزالي الشرط ما لا يوجد المشروط دونه ولا يلزم أن يوجد عنده واعترض عليه بأنه يستلزم الدور لأنه عرف الشرط بالمشروط وهو مشتق منه فيتوقف على تعلقه ، وبأنه غير مطرد لأن جزء السبب كذلك فإنه لا يوجد السبب بدونه ولا يلزم أن يوجد عنده وليس بشرط . وأجيب عن الأول بأن ذلك بمثابة قولنا شرط الشيء ما لا يوجد ذلك الشيء بدونه وظاهر أن تصور حقيقة المشروط غير محتاج إليه في تعقل ذلك وعن الثاني بأن جزء السبب قد يوجد المسبب بدونه إذا وجد سبب آخر . وقال في المحصول إن الشرط هو الذي يتوقف عليه المؤثر في تأثيره لا في ذاته ، وقال ولا ترد عليه العلة لأنها نفس المؤثر والشيء لا يتوقف على نفسه ولا جزء العلة ولا شرط العلة لأن العلة تتوقف عليه في ذاتها انتهى . واعترض عليه بأنه غير منعكس لأن الحياة شرط في العلم القديم ولا يتصور هاهنا تأثير ومؤثر إذ المحوج إلى المؤثر هو الحدوث ، وقيل الشرط ما يستلزم نفيه نفي أمر آخر لا على جهة السببية فيخرج السبب وجزؤه ، ورد بأن الفرق بين السبب والشرط يتوقف على فهم المعنى المميز بينهما ففيه تعريف الشيء بمثله في الخفاء ، وقيل هو ما استلزم عدمه عدم أمر مغاير وهو كالذي قبله . وأحسن ما قيل في حده أنه ما يتوقف عليه الوجود ولا دخل له في التأثير والإفضاء فيخرج جزء السبب لأنه وإن توقف عليه السبب لكن له دخل في الإفضاء إليه ويخرج سبب الشيء بالنسبة إليه بالطريق الأولى وتخرج العلة لأنها وإن توقف عليها الوجود فهي مع ذلك مؤثرة والشرط ينقسم إلى أربعة أقسام عقلي وشرعي ولغوي وعادي . فالعقلي كالحياة للعلم فإن العقل هو الذي يحكم بأن العلم لا يوجد إلا بحياة فقد توقف وجوده على وجودها عقلاً . والشرعي كالطهارة للصلاة فإن الشرع هو الحاكم بأن الصلاة لا توجد إلا بطهارة فقط توقف وجود الصلاة على وجود الطهارة شرعاً . واللغوي كالتعليقات نحو أن ما دخلت عليه أداة الشرط هو الشرط والمعلق عليه هو الجزاء . ويستعمل الشرط اللغوي في السبب الجعلي كما قال إن دخلت الدار فأنت طالق والمراد أن الدخول سبب للطلاق يستلزم وجوده وجوده لا مجرد كون عدمه مستلزماً لعدمه من غير سببيته وبهذا صرح الغزالي والقرافي وابن الحاجب وشراح كتابه ويدل على هذا القول النحاة في الشرط والجزاء بأن الأول سبب والثاني مسبب . والشرط العادي كالسلم لصعود السطح فإن العادة قاضية بأن لا يوجد الصعود إلا بوجود السلم أو نحوه مما يقوم مقامه . ثم الشرط قد يتحد وقد يتعدد ومع التعدد قد يكون كل واحد شرطاً مستقلاً فيحصل المشروط بحصول واحد منها فإذا قال إن دخلت الدار وأكلت وشربت فأنت طالق لم تطلق إلا بالدخول والأكل والشرب وإن قال إن دخلت أو أكلت أو شربت فأنت طالق طلقت بواحدة منها . واعلم أن الشرط كالاستثناء في اشتراط الاتصال وفي تعقبه لجمل متعددة . قال الرازي في المحصول اختلفوا في أن الشرط الداخل على الجمل هل يرجع حكمه إليها بالكلية فاتفق الإمامان أبو حنيفة والشافعي على رجوعه إلى الكل . وذهب بعض الأدباء إلى أنه يختص بالجملة التي تليه حتى إنه إذا كان متأخراً اختص بالجملة الأخيرة وإن كان متقدماً اختص بالجملة الأولى والمختار التوقف كما تقدم في مسألة الاستثناء ، ثم قال اتفقوا على وجوب اتصال الشرط بالكلام ودليله ما مر في الاستثناء واتفقوا على أنه يجوز التقييد بشرط يكون الخارج به أكثر من الباقي وإن اختلفوا فيه على الاستثناء انتهى . فقد حكى الاتفاق في هاتين الصورتين كما تراه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة عشرة : التخصيص بالصفة وهي كالاستثناء إذا وقعت بعد متعدد والمراد بالصفة هنا هي المعنوية على ما حققه علماء البيان لا مجرد النعت المذكور في علم النحو . قال إمام الحرمين الجويني في النهاية الوصف عند أهل اللغة معناه التخصيص فإذا قلت رجل شاع هذا في الرجال فإذا قلت طويل اقتضى ذلك تخصيصاً فلا تزال تزيد وصفاً فيزداد الموصوف اختصاصاً وكلما كثر الوصف قل الموصوف . قال المازري ولا خلاف في اتصال التوابع وهي النعت والتوكيد والعطف والبدل وإنما الخلاف في الاستثناء . وقال الرازي في المحصول : الصفة إما أن تكون مذكورة عقيب شيء واحد كقولنا رقبة مؤمنة ولا شك في عودها إليها أو عقيب شيئين وهاهنا فإما أن يكون أحدهما متعلقا بالآخر كقولك أكرم العرب والعجم المؤمنين فهاهنا الصفة عائدة إلى الجملة الأخيرة وإن كان للبحث فيه مجال كما في الاستثناء والشرط انتهى . قال الصفي الهندي إن كانت الصفات كثيرة وذكرت على الجمع عقب جملة تقيدت بها أو على البدل فلواحدة غير معينة منها وإن ذكرت عقيب جمل ففي العود إلى كلها أو إلى الأخيرة خلاف انتهى . وأما إذا توسطت الصفة بين جمل ففي عودها إلى الأخيرة خلاف كذا قيل ولا وجه للخلاف في ذلك فإن الصفة تكون لما قبلها لا لما بعدها لجواز تقدم الصفة على الموصوف . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك . المسألة الرابعة عشرة : التخصيص لغاية وهي نهاية الشيء المقتضية لثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها ولها لفظان وهما حتى وإلى كقوله تعالى: ولا تقربوهن حتى يطهرن وقوله وأيديكم إلى المرافق قال الرازي في المحصول التقييد بالغاية يقتضي أن يكون الحكم فيما وراء الغاية بالخلاف لأن الحكم لو بقي فيما وراء الغاية لم تكن الغاية مقطعا فلم تكن الغاية غاية قال ويجوز اجتماع الغايتين كما لو قيل لا تقربوهن حتى يطهرن وحتى يغتسلن فهاهنا الغاية في الحقيقة هي الأخيرة عبر عن الأولى بالغاية مجازا لقربها منها واتصالها بها. قال الزركشي ونوزع بأن هاتين الغايتين لشيئين لأن التحريم الناشىء عن دم الحيض غاية انقطاع الدم فإذا انقطع حدث تحريم آخر ناشيء عن دم الغسل والغاية الثانية غاية هذا التحريم ، وقد أطلق الأصوليون كون الغاية من المخصصات ولم يقيدوا ذلك وقيد ذلك بعض المتأخرين بالغاية التي تقدمها لفظ يشملها لو لم يؤت بها كقوله تعالى: حتى يعطوا الجزية فإن هذه الغاية لو لم يؤت بها لقاتلنا المشركين أعطوا الجزية أو لم يعطوها. واختلفوا في الغاية نفسها هل تدخل في المغيا كقولك أكلت حتى قمت هل يكون القيام محلا للأكل أم لا، وفي ذلك مذاهب : الأول : أنها تدخل فيما قبلها . والثاني : لا تدخل وبه قال الجمهور كما حكاه في البرهان . والثالث : إن كانت من جنسه دخلت وإلا فلا . وحكاه أبو إسحاق المروزي عن المبرد . والرابع : إن تميزت عما قبلها بالحس نحو أتموا الصيام إلى الليل لم تدخل وإن لم تتميز بالحس مثل وأيديكم إلى المرافق دخلت الغاية وهي المرافق . ورجح هذا الفخر الرازي . والخامس : إن اقترنت بمن لم يدخل نحو بعتك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة لم تدخل وإن لم تقترن جاز أن تكون تحديداً وأن تكون بمعنى مع وحكاه إمام الحرمين في البرهان عن سيبويه وأنكره عليه ابن خروف ، وقال لم يذكر سيبويه حرفاً منهما ولا هو مذهبه . والسادس : الوقف واختاره الآمدي ، وهذه المذاهب في غاية الانتهاء وأما غاية الابتداء ففيها مذهبان الدخول وعدمه وجعل الأصفهاني الخلاف في الغايتين غاية الابتداء وغاية الانتهاء على السواء فقال وفيها مذاهب تدخلان ولا تدخلان وتدخل غاية الابتداء دون الانتهاء وتدخلان أن اتحد الجنس لا أن اختلف وتدخلان إن لم يتميز ما بعدهما عما قبلهما بالحس وإلا لم تدخلا فيما قبلهما وفيه نظر بل الظاهر أن الأقوال المتقدمة هي في غاية الانتهاء لا في غاية الابتداء . وأظهر الأقوال وأوضحها عدم الدخول إلا بدليل من غير فرق بين غاية الابتداء والانتهاء . والكلام في الغاية الواقعة بعد متعدد كما تقدم في الاستثناء .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة عشرة : التخصيص بالبدل أعني بدل البعض من الكل نحو أكلت الرغيف ثلثه وأكرم القوم علماءهم ومنه قوله سبحانه ثم عموا وصموا كثير منهم وقد جعله من المخصصات جماعة من أهل الأصول منهم ابن الحاجب وشراح كتابه . قال السبكي ولم يذكره الأكثرون لأن المبدل منه في نية الطرح فلا تحقق فيه لمحل يخرج منه فلا تخصيص به وفيه نظر لأن الذي عليه المحققون كالزمخشري أن المبدل منه في غير بدل الغلط ليس في حكم المهدر بل هو للتمهيد والتوطئة وليفاد بمجموعها فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد قال السيرافي زعم النحويون أنه في حكم تنحية الأول وهو المبدل منه ولا يريدون إلغاءه وإما مرادهم أن البدل قائم بنفسه وليس تبيينه الأول كتبيين النعت الذي هو من تمام المنعوت وهو معه كالشيء الواحد انتهى . ولا يشترط فيه ما يشترط في الاستثناء من بقاء الأكثر عند من اعتبر ذلك بل يجوز إخراج الأكثر وفاقاً نحو أكلت الرغيف ثلثه أو نصفه أو ثلثيه . ويلحق ببدل البعض بدل الاشتمال لأن كل واحد منهما فيه بيان وتخصيص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة عشرة : التخصيص بالحال وهو في المعنى كالصفة لأن قولك أكرم من جاءك راكباً يفيد تخصيص الإكرام بمن تثبت له صفة الركوب وإذا جاء بعد جمل فإنه يكون للجميع قال البيضاوي بالاتفاق نحو أكرم بني تميم وأعط بني هاشم نازلين بك وفي دعوى الاتفاق نظر فإنه ذكر الفخر الرازي في المحصول أنه يختص بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة أو بالكل على قول الشافعي . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة عشرة : التخصيص بالظروف والجار والمجرور نحو أكرم زيداً اليوم أو في مكان كذا وإذا تعقب أحدهما جملاً كان عائداً إلى الجميع . وقد ادعى البيضاوي الاتفاق على ذلك كما ادعاه في الحال ويعترض عليه بما في المحصول فإنه قال في الظرف والجار والمجرور إنهما يختصان بالجملة الأخيرة على قول أبي حنيفة أو بالكل على قول الشافعي كما قال في الحال صرح بذلك في مسألة الاستثناء المذكور عقب جمل ، ويؤيد ما قاله البيضاوي ما قاله أبو البركات ابن تيمية فإنه قال فأما الجار والمجرور فإنه ينبغي أن يتعلق بالجميع قولاً واحداً ، وأما لو توسط فقد ذكر ابن الحاجب في مسألة لا يقتل مسلم بكافر أن قولنا ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً يقتضي أن الحنفية يقيدونه بالثاني . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة عشرة : التخصيص بالتمييز نحو عندي له رطل ذهباً وعندي له عشرون درهماً فإن الإقرار يتقيد بما وقع به التمييز من الأجناس أو الأنواع وإذا جاء بعد جمل نحو عندي له رطل ذهباً أو ملء هذا فإنه يعود إلىالجميع وظاهر كلام البيضاوي عوده إلى الجميع بالاتفاق . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة عشرة : المفعول له والمفعول معه فإن كل واحد منهما يقيد الفعل بما تضمنه من المعنى فإن المفعول له معناه التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الفعل نحو ضربته تأديباً فيفيد تخصيص ذلك الفعل بتلك العلة والمفعول معه معناه تقييد الفعل بتلك المعية نحو ضربته وزيداً فيفيد أن ذلك الضرب الواقع على المفعول به مختص بتلك الحالة التي هي المصاحبة بين ضربه وضرب زيد . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الموفية عشرين : التخصيص بالعقل فقد فرغنا بمعونة الله من ذكر المخصصات المتصلة وهذا شروع في المخصصات المنفصلة وقد حصروها في ثلاثة أقسام : العقل ، والحس ، والدليل السمعي . قال القرافي والحصر غير ثابت فقد يقع التخصيص بالعوائد كقولك رأيت الناس فما رأيت أفضل من زيد فإن العادة تقضي أنك لم تر كل الناس وكذا التخصيص بقرائن الأحوال كقولك لغلامك ائتني بمن يخدمني فإن المراد الإتيان بمن يصلح لذلك ولعل القائل بانحصار المخصصات المنفصلة في الثلاثة المذكورة يجعل التخصيص بالقياس مندرجاً تحت الدليل السمعي وقد اختلف في جواز التخصيص بالعقل فذهب الجمهور إلى التخصيص به وذهب شذوذ من أهل العلم إلى عدم جواز التخصيص به . قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني ولا خلاف بين أهل العلم في جواز التخصيص بالعقل قد يكون بضرورته كقوله تعالى : الله خالق كل شيء فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس خالقاً لنفسه وبنظره كقوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فإن تخصيص الصبي والمجنون لعدم الفهم في حقهما ومنهم من نازع في تخصيص العموم بدليل العقل ، والأشبه عندي أنه لا خلاف في المعنى بل في اللفظ . إما أنه لا خلاف في المعنى فلأن اللفظ لما دل على ثبوت الحكم في جميع الصور والعقل منع من ثبوته في بعض الصور فإما أن يحكم بصحة مقتضى العقل والنقل فيلزم من ذلك صدق النقيضين وهو محال أو يرجع النقل على العقل وهو محال لأن العقل أصل للنقل فالقدح في العقل قدح في أصل النقل والقدح في الأصل لتصحيح الفرع يوجب القدح فيهما معاً وإما أن يرجح حكم العقل على مقتضى العموم وهذا هو مرادنا من تخصيص العموم بالعقل ، وأما البحث اللفظي فهو أن العقل هل يسمى مخصصاً أم لا ؟ فنقول إن أردنا بالمخصص الأمر الذي يؤثر في اختصاص اللفظ العام ببعض مسمياته فالعقل غير مخصص لأن المقتضى لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلم والنقل قد يكون دليلاً على تحقق تلك الإرادة فالعقل قد يكون دليل المخصص لا نفس المخصص ولكن على هذا التفسير وجب أن لا يكون الكتاب مخصصاً للكتاب ولا السنة مخصصة للسنة لأن المؤثر في ذلك التخصيص هو الإرادة لا تلك الألفاظ انتهى . قال القاضي أبو بكر الباقلاني وصورة المسألة أن صيغة العام إذا وردت واقتضى العقل عدم تعميمها فيعلم من جهة العقل أن المراد به ما قدمناه أنا نعلم بالعقل أن مطلق الصيغة لم يرد تعميمها ، وفصل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع بين ما يجوز ورود الشرع بخلافه وهو ما يقتضيه العقل من براءة الذمة فيمتنع التخصيص به فإن ذلك إنما يستدل به لعدم الشرع فإذا ورد الشرع سقط الاستدلال به وصار الحكم للشرع فأما ما لا يجوز ورود الشرع بخلافه كالذي دل العقل على نفيه فيجوز التخصيص به نحو الله خالق كل شيء فقلنا المراد ما خلا الصفات لدلالة العقل على ذلك انتهى . ولا يخفاك أن هذا التفصيل لا طائل تحته فإنه لم يرد بتخصيص العقل إلا الصورة الثانية أما الصورة الأولى فلا خلاف أن الشرع ناقل عما يقتضيه العقل من البراءة . قال القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وابن القشيري والغزالي والكيا الطبري وغيرهم إن النزاع لفظي إذ مقتضى ما يدل عليه العقل ثابت إجماعاً لكن الخلاف في تسميته تخصيصاً فالخصم لا يسميه لأن المخصص هو المؤثر في التخصيص وهو الإرادة لا العقل وكذا قال الأستاذ أبو منصور إنهم احتجوا على صحة دلالة العقل على خروج شيء عن حكم العموم واختلفوا في تسميته تخصيصاً ، وقيل الخلاف راجع إلى مسألة التحسين والتقبيح العقليين فمن منع من تخصيص العقل فهو رجوع منه إلى أن العقل لا يحسن ولا يقبح وأن الشرع يرد بما لا يقتضيه العقل وقد أنكر هذا الأصفهاني وهو حقيق بأن يكون منكراً فالكلام في تلك المسألة غير الكلام في هذه المسألة كما سبق تقريره وقد جاء المانعون من تخصيص العقل بشبه مدفوعة كلها راجعة إلى اللفظ لا إلى المعنى وقد عرفت أن الخلاف لفظي فلا نطيل بذكرها ، قال الرازي في المحصول فإن قيل لو جاز التخصيص بالعقل فهل يجوز النسخ به ؟ قلنا نعم لأن من سقطت رجلاه عنه سقط عنه فرض غسل الرجلين وذلك إنما عرف بالعقل انتهى . وأجاب غيره بأن النسخ إما بيان مدة الحكم وإما رفع الحكم على التفسيرين وكلاهما محجوب عن نظر العقل بخلاف التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة . وليس التخصيص بالعقل من التخصيص فإن خروج البعض عن الخطاب قد يدركه العقل فلا ملازمة . وليس التخصيص بالعقل من الترجيح لدليل العقل على دليل الشرع بل من الجمع بينهما لعدم إمكان استعمال الدليل الشرعي على عمومه المانع قطعي وهو دليل العقل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الحادية والعشرون : التخصيص بالحس فإذا ورد الشرع بعموم يشهد الحس باختصاصه ببعض ما اشتمل عليه العموم كان ذلك مخصصاً للعموم قالوا ومنه قوله تعالى : وأوتيت من كل شيء بأمر ربها وقوله يجبى إليه ثمرات كل شيء قال الزركشي وفي عد هذا نظر لأنه من العام الذي أريد به الخصوص وهو خصوص ما أوتيته هذه ودمرته الريح لا من العام المخصوص . قال ولم يحكوا الخلاف السابق في التخصيص بالعقل وينبغي طرده ونازع العبدري في تفريقهم بين دليل الحس ودليل العقل لأن أصل العلوم كلها الحس . ولا يخفاك أن ما ذكره الزركشي في دليل الحس يلزمه مثله في دليل العقل فيقال له إن قوله تعالى : الله خالق كل شيء وقوله ولله على الناس حج البيت من العام الذي أريد به الخصوص لا من العام المخصوص وإلا فما الفرق بين شهادة العقل وشهادة الحس . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية والعشرون : التخصيص بالكتاب العزيز وبالسنة المطهرة والتخصيص لهما ذهب الجمهور إلى جواز تخصيص الكتاب بالكتاب وذهب بعض الظاهرية إلى عدم جوازه وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ ولا يكون إلا بالسنة لقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم . يجاب عنه بأن كونه صضص مبيناً لا يستلزم أن لا يحصل بيان الكتاب بالكتاب وقد وقع ذلك الوقوع دليل الجواز فإن قوله سبحانه : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء يعم الحوامل وغيرهن فخص أولات الأحمال بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن وخص منه أيضاً المطلقة قبل الدخول بقوله فما لكم عليهن من عدة تعتدونها . وهكذا قد خصص عموم قوله والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا بقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومثل هذا كثير في الكتاب العزيز . وأيضاً ذلك الدليل الذي ذكروه معارض بما هو أوضح منه دلالة وهو قوله : ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وقد جعل ابن الحاجب في مختصر المنتهى الخلاف في هذه المسألة لأبي حنيفة وأبي بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني وحكى عنهم أن الخاص إن كان متأخراً وإلا فالعام ناسخ وهذه مسألة أخرى سيأتي الكلام فيها ولا اختصاص لها بتخصيص الكتاب بالكتاب ، وكما يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب فكذلك يجوز تخصيص السنة المتواترة بالكتاب عند جمهور أهل العلم وعن أحمد بن حنبل روايتان وعن بعض أصحاب الشافعي المنع قال ابن برهان وهو قول بعض المتكلمين قال مكحول ويحيى بن كثير السنة تقضي على الكتاب والكتاب لا يقضي على السنة ولا وجه للمنع فإن استدلوا بقوله تعالى : لتبين للناس ما نزل إليهم فقد عرفت عدم دلالته على المطلوب مع كونه معارضاً بما هو أوضح دلالة منه كما تقدم . ويجوز تخصيص عموم الكتاب بالسنة المتواترة إجماعاً كذا قال الأستاذ أبو منصور وقال الآمدي لا أعرف فيه خلافاً وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائني لا خلاف في ذلك إلا ما يحكى عن داود في إحدى الروايتين قال ابن كج لا شك في الجواز لأن الخبر المتواتر يوجب العلم كما أن ظاهر الكتاب يوجبه . وألحق الأستاذ أبو منصور بالمتواتر الأخبار التي يقطع بصحتها ويجوز تخصيص السنة المتواترة بالسنة المتواترة وهو مجمع عليه إلا أنه حكى الشيخ أبو حامد الإسفرائني عن داود أنهما يتعارضان ولا يبني أحدهما على الآخر ولا وجه لذلك . واختلفوا في جواز تخصيص الكتاب العزيز بخبر الواحد فذهب الجمهور إلى جوازه مطلقاً وذهب بعض الحنابلة إلى المنع مطلقاً وحكاه الغزالي في المنخول عن المعتزلة ونقله ابن برهان عن طائفة من المتكلمين والفقهاء ونقله أبو الحسين بن القطان عن طائفة من أهل العراق . وذهب عيسى بن أبان إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل قطعي متصلاً كان أو منفصلاً كذا حكاه صاحب المحصول وابن الحاجب في مختصر المنتهى عنه . وقد سبق إلى حكاية ذلك عنه إمام الحرمين الجويني في التلخيص وحكى غير هؤلاء عنه أنه يجوز تخصيص العام بالخبر الأحادي إذا كان قد دخله التخصيص من غير تقييد لذلك بكون المخصص الأول قطعياً . وذهب الكرخي إلى الجواز إذا كان العام قد خص من قبل بدليل منفصل سواء كان قطعياً أو ظنياً وإن خص بدليل متصل أو لم يخص أصلاً لم يجز وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف . وحكي عنه أنه قال يجوز التعبد بوروده ويجوز أن يرد لكنه لم يقع . وحكى عنه أيضاً أنه لم يرد بل ورد المنع ولكن الذي اختاره لنفسه هو الوقف كما حكى ذلك عنه الرازي في المحصول . واستدل في المحصول على ما ذهب إليه الجمهور بأن العموم وخبر الواحد دليلان متعارضان وخبر الواحد أخص من العموم فوجب تقديمه على العموم . واحتج ابن السمعاني على الجواز بإجماع الصحابة فإنهم خصوا قوله تعالى : يوصيكم الله في أولادكم بقوله صضص إنا معشر الأنبياء لا نورث وخصوا التوارث بالمسلمين عملاً بقوله صضص لا يرث المسلم الكافر وخصوا قوله اقتلوا المشركين بخبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس وغير ذلك كثير . وأيضاً يدل على جواز التخصيص دلالة بينة واضحة ما وقع من أوامر الله عز وجل باتباع نبيه صضص من غير تقييد فإذا جاء عنه الدليل كان اتباعه واجباً وإذا عارضه عموم قرآني كان سلوك طريقة الجمع ببناء العام على الخاص متحتماً ودلالة العام على أفراده ظنية لا قطعية فلا وجه لمنع تخصيصه بالأخبار الصحيحة الآحادية . وقد استدل المانعون مطلقاً بما ثبت عن عمر رضي الله عنه في قصة فاطمة بنت قيس حيث لم يجعل لها سكنى ولا نفقة كما في حديثها الصحيح فقال عمر « كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة » يعني قوله أسكنوهن وأجيب عن ذلك بأنه إنما قال هذه المقالة لتردده في صحة الحديث لا لرده تخصيص عموم الكتاب بالسنة الآحادية فإنه لم يقل كيف نخصص عموم كتاب ربنا بخبر آحادي بل قال كيف نترك كتاب ربنا لقول امرأة ؟ ويؤيد ذلك ما في صحيح مسلم وغيره بلفظ قال عمر لا نترك كتاب الله وسنة نبينا قول امرأة لعلها حفظت أو نسيت فأفاد هذا أن عمر رضي الله عنه إنما تردد في كونها حفظت أو نسيت ولو علم بأنها حفظت ذلك وأدته كما سمعته لم يتردد في العمل بما روته . قال ابن السمعاني إن محل الخلاف في أخبار الآحاد التي لم تجمع الأمة على العمل بها . أما ما أجمعوا عليه كقوله « لا ميراث لقاتل ولا وصية لوارث » فيجوز تخصيص العموم به قطعاً ويصير ذلك كالتخصيص بالمتواتر لانعقاد الإجماع على حكمها ولا يضر عدم انعقاده على روايتها . وكما يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الآحاد كذلك يجوز تخصيصه بالقراءة الشاذة عند من نزلها منزلة الخبر الآحادي . وقد سبق الكلام في القرآن في مباحث الكتاب . وهكذا يجوز التخصيص لعموم الكتاب وعموم المتواتر من السنة بما ثبت من فعله صضص إذا لم يدل دليل على اختصاصه به كما يجوز بالقول . وهكذا يجوز التخصيص بتقريره صضص . وقد تقدم البحث في فعله صضص وفي تقريره في مقصد السنة بما يغني عن الإعادة . وأما التخصيص بموافق العام فقد سبق الكلام عليه في باب العموم وكذلك سبق الكلام على العام إذا عطف عليه ما يقتضي الخصوص وعلى العام الوارد على سبب خاص فهذه المباحث لها تعلق بالعام وتعلق بالخاص .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة والعشرون : في التخصيص بالقياس ذهب الجمهور إلى جوازه . قال الرازي في المحصول وهو قول أبي حنيفة والشافعي ومالك وأبي الحسين البصري والأشعري وأبي هاشم أخيراً . وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن هؤلاء وزاد معهم الإمام الرابع أحمد بن حنبل وحكاه ابن الهمام في التحرير . وحكى القاضي عبد الجبار عن الحنابلة عن أحمد روايتين . وحكاه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي عن ابن سريج . وذهب أبو علي الجبائي إلى المنع مطلقاً ونقله الشيخ أبو حامد وسليم الرازي عن أحمد بن حنبل وقيل إن ذلك إنما هو في رواية عنه قال بها طائفة من أصحابه . ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني عن طائفة من المتكلمين وعن الأشعري وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يجوز إن كان العام قد خصص قبل ذلك بنص قطعي كذا حكاه عنه القاضي أبو بكر في التقريب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وأطلق صاحب المحصول الحكاية عنه ولم يقيدها بكون النص قطعياً وحكى هذا المذهب الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن بعض العراقيين . وذهب الكرخي إلى أنه يجوز إن كان قد خص بدليل منفصل وإلا فلا كذا حكاه عنه صاحب المحصول وغيره . وذهب الاصطخري إلى أنه يجوز إن كان القياس جلياً وإلا فلا كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد وسليم الرازي وحكاه الشيخ أبو حامد [الصا] عن إسماعيل بن مروان من أصحاب الشافعي . وحكاه الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي ومبارك بن أبان وأبي علي الطبري وحكاه ابن الحاجب في مختصر المنتهى عن ابن سريج والصحيح عنه ما تقدم . وذهب الغزالي إلى أنه إن تفاوت القياس والعام في غلبة الظن رجح الأقوى فإن تعادلا فالوقف . واختاره المطرزي ورجحه الفخر الرازي واستحسنه القرافي والقرطبي . وذهب الآمدي إلى أن العلة إن كانت منصوصة أو مجمعاً عليها جاز التخصيص به وإلا فلا . وقد حكى إمام الحرمين في النهاية مذهبين لم ينسبهما إلى من قالهما . أحدهما : أنه يجوز إن كان الأصل المقيس عليه مخرجاً من ذلك العام وإلا فلا وقال الشيخ أبو حامد الإسفرائني القياس إن كان جلياً مثل فلا تقل لهما أف جاز التخصيص به الإجماع وإن كان واضحاً وهو المشتمل على جميع معنى الأصل كقياس الربا فالتخصيص به جائز في قول عامة أصحابنا إلا طائفة شذت لا يعتبر بقولهم وإن كان خفياً وهو قياس علته الشبه فأكثر أصحابنا أنه لا يجوز التخصيص به ومنهم من شذ فجوزه . قال الأستاذ أبو منصور والأستاذ أبو إسحاق أجمع أصحابنا على جواز التخصيص بالقياس الجلي . واختلفوا في الخفي على وجهين والصحيح الذي عليه الأكثرون جوازه أيضاً وكذا قال أبو الحسين بن القطان والماوردي والروياني وذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي أن الشافعي نص على جواز التخصيص بالخفي في مواضع . واحتج الجمهور بأن العموم والقياس دليلان متعارضين والقياس خاص فوجب تقديمه . وبهذا يعرف أنه لا ينتهض احتجاج المانعين بقولهم لو قدم القياس على عموم الخبر لزم تقديم الأضعف على الأقوى وأنه باطل لأن هذا التقديم إنما يكون عند إبطال أحدهما بالآخر فأما عند الجمع بينهما وإعمالهما جميعاً فلا وقد طول أهل الأصول الكلام في هذا البحث بإيراد شبه زائفة لا طائل تحتها وسيأتي تحقيق الحق إن شاء الله تعالى في باب القياس فمن منع من العمل به مطلقاً منع من التخصيص به ومن منع من بعض أنواعه دون بعض منع من التخصيص بذلك البعض ومن قبله مطلقاً ، والتفاصيل المذكورة هاهنا من جهة القابلين له مطلقاً إنما هي باعتبار كونه وقع هنا مقابلاً لدلالة العموم ، والحق الحقيق بالقبول أنه يخصص بالقياس الجلي لأنه معمول به لقوة دلالته وبلوغها إلى حد يوازن النصوص وكذا يخصص بما كانت علته منصوصة أو مجمعاً عليها أما العلة المنصوصة فالقياس الكائن بها في قوة النص وأما العلة المجمع عليها فلكون ذلك الإجماع قد دل على دليل مجمع عليه وما عدا هذه الثلاثة الأنواع من القياس فلم تقم الحجة بالعمل به من أصله . وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا في القياس على وجه يتضح به الحق اتضاحاً لا يبقى عنده ريب لمرتاب .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة والعشرون : في التخصيص بالمفهوم ذهب القائلون بالعمل بالمفهوم إلى جواز التخصيص بالمفهوم . قال الآمدي لا أعرف خلافاً في تخصيص العموم بالمفهوم بين القائلين بالعموم والمفهوم وسيأتي الكلام على المفاهيم والمعمول به منها وغير المعمول به وقد تقدم الكلام على التخصيص بمفهوم اللقب ، وحكى الشيخ أبو إسحاق الشيرازي عن الحنفية و ابن سريج المنع من التخصيص بالمفهوم وذلك مبني على مذهبهم في عدم العمل بالمفهوم ، قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام قد رأيت في بعض مصنفات المتأخرين ما يقتضي تقديم العموم وفي كلام صفي الدين الهندي أن الخلاف إنما هو في مفهوم المخالفة أما مفهوم الموافقة فاتفقوا على التخصيص به قال الزركشي والحق أن الخلاف ثابت فيهما ، أما مفهوم المخالفة فكما إذا ورد عام في إيجاب الزكاة في الغنم كما في قوله في أربعين شاة شاة ثم قال في سائمة الغنم الزكاة فإن المعلوفة خرجت بالمفهوم فيخصص به عموم الأول وذكر أبو الحسين بن القطان أنه لا خلاف في جواز التخصيص به ومثل بما ذكرناه ، وكذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني إذا ورد العام مجرداً على صفة ثم أعيدت الصفة متأخرة عنه كقوله اقتلوا المشركين مع قوله قبله أو بعده اقتلوا أهل الأوثان من المشركين كان ذلك موجبا للتخصيص بالاتفاق ويوجب المنع من قتل أهل الكتاب وتخصيص ما بعده من العموم انتهى ، وإنما حكى الصفي الهندي الإجماع على التخصيص بمفهوم الموافقة لأنه أقوى من مفهوم المخالفة ولهذا يسميه بعضهم دلالة النص وبعضهم يسميه القياس الجلي وبعضهم يسميه المفهوم الأولى وبعضهم يسميه فحوى الخطاب وذلك كقوله تعالى : فلا تقل لهما أف وقد اتفقوا على العمل به وذلك يستلزم الاتفاق على التخصيص به . والحاصل أن التخصيص بالمفاهيم فرع العمل بها وسيأتي بيان ما هو الحق فيها إن شاء الله تعالى .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة والعشرون : في التخصيص بالإجماع قال الآمدي لا أعرف فيه خلافاً وكذلك حكى الإجماع على جواز التخصيص بالإجماع الأستاذ أبو منصور ، قال ومعناه أن يعلم بالإجماع أن المراد باللفظ العام بعض ما يقتضيه ظاهره وفي الحقيقة يكون التخصيص بدليل الإجماع لا بنفس الإجماع ، وقال ابن القشيري إن من خالف في التخصيص بدليل العقل يخالف هنا وقال القرافي الإجماع أقوى من النص الخاص لأن النص يحتمل نسخه والإجماع لا ينسخ لأنه إنما ينعقد بعد انقطاع الوحي ، وجعل الصيرفي من أمثلته قوله تعالى : إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله قال وأجمعوا على أنه لا جمعة على عبد ولا امرأة ومثله ابن حزم بقوله تعالى : حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون واتفقت الأمة على أنهم لو بذلوا فلساً أو فلسين لم يجز بذلك حقن دمائهم قال والجزية بالألف فعلمنا أنه أراد جزية معلومة ومثله ابن الحاجب بآية حد القذف وبالإجماع على التصنيف للعبد ، والحق أن المخصص هو دليل الإجماع لا نفس الإجماع كما تقدم .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة والعشرون : في التخصيص بالعادة ذهب الجمهور إلى عدم جواز التخصيص بها وذهب الحنفية إلى جواز التخصيص بها ، قال الصفي الهندي وهذا يحتمل وجهين أحدهما أن يكون النبي صضص أوجب أو حرم شيئاً بلفظ عام ، ثم رأينا العادة جارية بترك بعضها أو بفعل بعضها فهل تؤثر تلك العادة حتى يقال المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه أو بفعله أو لا تؤثر في ذلك بل هو باق على عمومه متناول لذلك البعض ولغيره . الثاني : أن تكون العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلاً ، ثم إنه عليه السلام نهاهم عن تناوله بلفظ متناول له ولغيره كما لو قال نهيتكم عن أكل الطعام فهل يكون النهي مقتصراً على ذلك الطعام بخصوصه أم لا بل يجري على عمومه ولا تؤثر عاداتهم . قال والحق أنها لا تخصص لأن الحجة في لفظ الشارع وهو عام والعادة ليست بحجة حتى تكون معارضة له انتهى . وقد اختلف كلام أهل الأصول وصاحب المحصول وأتباعه تكلموا على الحالة الأولى واختار فيها أنه إن علم جريان العادة في زمن النبي صضص مع عدم منعه عنها فيخصص بها والمخصص في الحقيقة هو تقريره صضص ، وإن علم عدم جريانها ولم يخصص بها إلا أن يجمع على فعلها فيكون تخصيصاً بالإجماع . وأما الآمدي وابن الحاجب فتكلموا على الحالة الثانية . قال الرزكشي وهما مسألتان لا تعلق لإحداهما بالأخرى فتفطن لذلك فإن بعض من لا خبرة له حاول الجمع بين كلام الإمام الرازي في المحصول وكلام الآمدي وابن الحاجب ظناً منه أنهما تواردا على محل واحد وليس كذلك وممن صرح بأنهما حالتان القرافي في شرح التنقيح وفرق بأن العادة السابقة على العموم تكون مخصصة والعادة الطارئة بعد العموم لا يقضي بها على العموم انتهى . والحق أن تلك العادة إن كانت مشتهرة في زمن النبوة بحيث يعلم أن اللفظ إذا أطلق كان المراد ما جرت عليه دون غيره فهي مخصصة لأن النبي صضص إنما يخاطب الناس بما يفهمون وهم لا يفهمون إلا ما جرى عليه التعارف بينهم وإن لم تكن العادة كذلك فلا حكم لها ولا التفات إليها ، والعجب ممن يخصص كلام الكتاب والسنة بعادة حادثة بعد انقراض زمن النبوة تواطأ عليها قوم وتعارفوا بها ولم تكن كذلك في العصر الذي تكلم فيه الشارع فإن هذا من الخطأ البين والغلط الفاحش ، أما لو قال المخصص بالعادة الطارئة إنه يخصص بها ما حدث بعد أولئك الأقوام المصطلحين عليها من التحاور في الكلام والتخاطب بالألفاظ فهذا مما لا بأس به ولكن لا يخفى أن بحثنا في هذا العلم إنما هو عن المخصصات الشرعية فالبحث عن المخصصات العرفية لما وقع التخاطب به من العمومات الحادثة من خلط هذا الفن بما ليس منه والخبط في البحث بما لا فائدة فيه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة والعشرون : في التخصيص بمذهب الصحابي ذهب الجمهور إلى أنه لا يخصص بذلك وذهبت الحنفية والحنابلة إلى أنه يجوز التخصيص به على خلاف بينهم في ذلك فبعضهم يخصص به مطلقاً وبعضهم يخصص به إن كان هو الراوي للحديث . قال الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو حامد الإسفرائني وسليم الرازي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي إنه يجوز التخصيص بمذهب الصحابي إذا لم يكن هو الراوي للعموم وكان ما ذهب إليه منتشراً ولم يعرف له مخالف في الصحابة لأنه إما إجماع أو حجة مقطوع بها على الخلاف وأما إذا لم ينتشر فإن خالفه غيره فليس بحجة قطعاً وإن لم يعرف له مخالف فعلى قول الشافعي الجديد ليس بحجة فلا يخصص به وعلى قوله القديم هو حجة يقدم على القياس وهل يخصص به العموم فيه وجهان . وأما إذا كان الصحابي الذي ذهب إلى التخصيص هو الراوي للحديث فقد اختلف قول الشافعي في ذلك والصحيح عنه وعن أصحابه وعن جمهور أهل العلم أنه لا يخصص به خلافاً لمن تقدم والدليل على ذلك أن الحجة إنما هي في العموم ومذهب الصحابي ليس بحجة فلا يجوز التخصيص به . واستدل القائلون بجواز التخصيص بأن الصحابي العدل لا يترك ما سمعه من النبي صضص ويعمل بخلافه إلا لدليل قد ثبت عنده يصلح للتخصيص . وأجيب عنه بأنه قد يخالف ذلك الدليل في ظنه وظنه لا يكون حجة على غيره فقد يظن ما ليس بدليل دليلاً والتقليد للمجتهد من مجتهد مثله لا يجوز لا سيما في مسائل الأصول فالحق عدم التخصيص بمذهب الصحابي وإن كانوا جماعة ما لم يجمعوا على ذلك فيكون من التخصيص بالإجماع وقد تقرر الكلام عليه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة والعشرون : في التخصيص بالسياق قد تردد قول الشافعي في ذلك وأطلق الصيرفي جواز التخصيص به ومثله بقوله سبحانه : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم وكلام الشافعي في الرسالة يقتضيه فإنه بوب لذلك باباً فقال باب الصنف الذي قد بين سياقه معناه وذكر قوله سبحانه : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر قال فإن السياق أرشد إلى أن المراد أهلها وهو قوله : إذ يعدون في السبت قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام نص بعض الأكابر من الأصوليين أن العموم يخص بالقرائن القاضية بالتخصيص قال ويشهد له مخاطبات الناس بعضهم بعضاً حيث يقطعون في بعض المخاطبات بعدم العموم بناء على القرينة والشرع يخاطب الناس بحسب تعارفهم . قال ولا يشتبه عليك التخصيص بالقرائن بالتخصيص بالسبب كما اشتبه على كثير من الناس فإن التخصيص بالسبب غير مختار فإن السبب وإن كان خاصاً فلا يمنع أن يورد لفظ عام يتناوله وغيره كما في والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ولا ينتهض السبب بمجرده قرينة لرفع هذا بخلاف السياق فإنه يقع به التبيين والتعيين أما التبيين ففي المجملات وأما التعيين ففي المحتملات وعليك باعتبار هذا في ألفاظ الكتاب والسنة والمحاورات تجد منه ما لا يمكنك حصره انتهى . والحق أن دلالة السياق إن قامت مقام القرائن القوية المقتضية لتعيين المراد كان المخصص هو ما اشتملت عليه من ذلك ، وإن لم يكن السياق بهذه المنزلة ولا أفاد هذا المفاد فليس بمخصص . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة والعشرون : في التخصيص بقضايا الأعيان وذلك كإذنه صضص بلبس الحرير للحكة . وفي جواز التخصيص بذلك قولان للحنابلة . ولا يخفى أنه إذا وقع التصريح بالعلة التي لأجلها وقع الإذن بالشيء أو الأمر به أو النهي عنه فهو من باب التخصيص بالعلة المعلقة على الحكم ولا يجوز التخصيص بالاستصحاب قال أبو الخطاب الحنبلي إنه لا يجوز التخصيص للعموم بالبقاء على حكم الأصل الذي هو الاستصحاب بلا خلاف . قال القاضي عبد الوهاب في الإفادة ذهب بعض ضعفاء المتأخرين إلى أن العموم يخص باستصحاب الحال قال لأنه دليل يلزم المصير إليه ما لم ينقل عنه ناقل فيجوز التخصيص به كسائر الأدلة وهذا في غاية التناقض لأن الاستصحاب من حقه أن يسقط بالعموم فكيف يصح تخصيصه به إذ معناه التمسك بالحكم لعدم دليل ينقل عنه والعموم دليل ناقل . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الموفية ثلاثين : في بناء العام على الخاص قد تقدم ما يجوز التخصيص به وما لا يجوز فإذا كان العام الوارد من كتاب أو سنة قد ورد معه خاص يقتضي إخراج بعض أفراد العام من الحكم الذي حكم به عليها فإما أن يعلم تاريخ كل واحد منهما أو لا يعلم فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فأما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب فإن علم فإن كان المتأخر الخاص فإما أن يتأخر عن وقت العمل بالعام أو عن وقت الخطاب فإن تأخر عن وقت العمل بالعام فهاهنا يكون الخاص ناسخاً لذلك اقدر الذي تناوله من أفراد العام قال الزركشي في البحر وفاقاً ولا يكون تخصيصاً لأن تأخير بيانه عن وقت العمل غير جائز قطعاً ، وإن تأخر عن وقت الخطاب بالعام دون وقت العمل به ففي ذلك خلاف مبني على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب فمن جوزه جعل الخاص بياناً للعام وقضى به عليه ومن منعه حكم بنسخ العام في القدر الذي عارضه فيه الخاص كذا قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني وسليم الرازي قال ولا يتصور في هذه المسألة خلاف يختص بها وإنما يعود الكلام فيها إلى جواز تأخير البيان وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وابن الصباغ في العدة . قال الصفي الهندي من لم يجوز تأخير بيان التخصيص عن وقت الخطاب ولم يجوز نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالمعتزلة أحال المسألة ومنهم من جوزهما فاختلفوا فيه فالذي عليه الأكثرون من أصحابنا وغيرهم أن الخاص مخصص للعام لأنه وإن جاز أن يكون ناسخاً لذلك القدر من العام لكن التخصيص أقل مفسدة من النسخ وقد أمكن حمله عليه فتعين . ونقل عن معظم الحنفية أن الخاص إذا تأخر عن العام وتخلل بينهما ما يمكن المكلف بهما من العمل أو الاعتقاد بمقتضى العام كان الخاص ناسخاً لذلك القدر الذي تناوله من العام لأنهما دليلان وبين حكميهما تناف فيجعل المتأخر ناسخاً للمتقدم من الإمكان دفعاً للتناقض قال وهو ضعيف انتهى . فإن تأخر العام عن وقت العمل بالخاص فعند الشافعية يبني العام على الخاص لأن ما تناوله الخاص متيقن وما تناوله العام ظاهر مظنون والمتيقن أولى . وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه والقاضي عبد الجبار إلى أن العام المتأخر ناسخ للخاص المتقدم . وذهب بعض المعتزلة إلى الوقف ، وقال أبو بكر الرازي إذا تأخر العام كان ناسخاً لما تضمنه الخاص ما لم يقم له دلالة من غيره على أن العموم مرتب على الخصوص انتهى . والحق في هذه الصورة البناء وإن تأخر العام عن وقت الخطاب بالخاص لكنه قبل وقت العمل به فحكمه حكم الذي قبله في البناء والنسخ إلا على رأي من لم يجوز منهم نسخ الشيء قبل حضور وقت العمل به كالقاضي عبد الجبار فإنه لا يمكنه الحمل على النسخ فتعين عليه البناء أو التعارض فيما تنافيا فيه وجعل الكيا الطبري الخلاف في هذه المسألة مبنياً على تأخير البيان فقال من لك يجوز تأخيره عن مورد اللفظ جعله ناسخاً للخاص ، وهذه الأربع الصور إذا كان تاريخهما معلوماً فإن جهل تاريخهما ، فعند الشافعي وأصحابه والحنابلة والمالكية وبعض الحنفية والقاضي عبد الجبار أنه يبني العام على الخاص . وذهب أبو حنيفة وأكثر أصحابه إلى التوقف إلى ظهور التاريخ أو إلى ما يرجح أحدهما على الآخر من غيرهما وحكى نحو ذلك عن القاضي أبي بكر الباقلاني والدقاق . والحق الذي لا ينبغي العدول عنه في صورة الجهل البناء وليس عنه مانع يصلح للتشبث به والجمع بين الأدلة ما أمكن هو الواجب ولا يمكن الجمع مع الجهل إلا بالبناء وما علل به المانعون في الصور المتقدمة من عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة غير موجود هنا وقد تقرر أن الخاص أقوى دلالة من العام والأقوى أرجح وأيضاً إجراء العام على عمومه إهمال للخاص وإعمال الخاص لا يوجب إهمال العام وأيضاً قد نقل أبو الحسين الإجماع على البناء مع جهل التاريخ . والحاصل أن البناء هو الراجح على جميع التقادير المذكورة في هذه المسألة . وما احتج به القائلون بأن العام المتأخر ناسخ من قولهم دليلان تعارضا وعلم التاريخ بينهما فوجب تسليط المتأخر على السابق كما لو كان المتأخر خاصاً فيجاب عنه بأن العام المتأخر ضعيف الدلالة فلا ينتهض لترجيحه على قوي الدلالة . وأيضاً في البناء جمع وفي العمل بالعام ترجيح والجمع مقدم على الترجيح . وأيضاً في العمل بالعام إهمال للخاص وليس في التخصيص إهمال للعام كما تقدم . وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في الكلام على جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة وفي الكلام على جواز النسخ قبل إمكان العام إن شاء الله . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب الخامس في المطلق والمقيد : وفيه مباحث أربعة البحث الأول : في حدهما . أما المطلق فقيل في حده ما دل على شائع في جنسه ومعنى هذا أن يكون حصة محتملة لحصص كثيرة مما يدرج تحت أمر فيخرج من قيد الدلالة المهملات ويخرج من قيد الشيوع المعارف كلها لما فيها من التعيين إما شخصاً نحو زيد وهذا أو حقيقة نحو الرجل وأسامة أو حصة نحو فعصى فرعون الرسول أو استغراقاً نحو الرجال وكذا كل عام ولو نكرة نحو كل رجل ولا رجل . وقيل في حده هو ما دل على الماهية بلا قيد من حيث هي هي من غير أن تكون له دلالة على شيء من قيوده والمراد بها عوارض الماهية اللاحقة لها في الوجود . وقد اعترض عليه بأنه جعل المطلق والنكرة سواء وبأنه يرد عليه أعلام الأجناس كأسامة وثعالة فإنها تدل على الحقيقة من حيث هي هي . وأجاب عن ذلك الأصفهاني في شرحه للمحصول بأنه لم يجعل المطلق والنكرة سواء بل غاير بينهما فإن المطلق الدال على الماهية من حيث هي هي والنكرة الدالة على الماهية بقيد الوحدة الشائعة . قال وأما إلزامه بعلم الجنس فمردود بأنه وضع للماهية الذهنية بقيد التشخيص الذهني بخلاف اسم الجنس وإنما يرد الاعتراض بالنكرة على الحد الذي أورده الآمدي للمطلق فإنه قال هو الدال على الماهية بقيد الوحدة وكذا يرد الاعتراض بها على ابن الحاجب فإنه قال في حده هو ما دل على شائع في جنسه وقيل المطلق هو ما دل على الذات دون الصفات ، وقال الصفي الهندي المطلق الحقيقي ما دل على الماهية فقط والإضافي مختلف نحو رجل ورقبة فإنه مطلق بالإضافة إلى رجل عامل ورقبة مؤمنة ومقيد بالإضافة إلى الحقيقي لأنه يدل على واحد شائع وهما قيدان زائدان على الماهية . وأما المقيد فهو ما يقابل المطلق على اختلاف هذه الحدود المذكورة في المطلق فيقال فيه هو ما دل لا على شائع في جنسه فتدخل فيه المعارف والعمومات كلها أو يقال في حده هو ما دل على الماهية بقيد من قيودها أو ما كان له دلالة على شيء من القيود . البحث الثاني : اعلم أن الخطاب إذا ورد مطلقاً لا مقيداً حمل على إطلاقه وإن ورد مقيداً حمل على تقييده وإن ورد مطلقاً في موضع آخر فذلك على أقسام : الأول : أن يختلفا في السبب والحكم فلا يحمل أحدهما على الآخر بالاتفاق كما حكاه القاضي أبو بكر الباقلاني وإمام الحرمين الجويني والكيا الهراس وابن برهان والآمدي وغيرهم . القسم الثاني : أن يتفقا في السبب والحكم فيحمل أحدهما على الآخر كما لو قال إن ظاهرت فأعتق رقبة ، وقال في موضع آخر إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة وقد نقل الاتفاق في هذا القسم القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب وابن فورك والكيا والطبري وغيرهم . وقال ابن برهان في الأوسط اختلف أصحاب أبي حنيفة في هذا القسم فذهب بعضهم إلى أنه لا يحمل والصحيح من مذهبهم أنه يحمل ، ونقل أبو زيد الحنفي وأبو منصور الماتريدي في تفسيره أن أبا حنيفة يقول بالحمل في هذه الصورة . وحكى الطرسوسي الخلاف فيه عن المالكية وبعض الحنابلة وفيه نظر فإن من جملة من نقل الاتفاق القاضي عبد الوهاب وهو من المالكية . ثم بعد الاتفاق المذكور وقع الخلاف بين المتفقين فرجح ابن الحاجب وغيره أن هذا الحمل هو بيان للمطلق أي دال على أن المراد بالمطلق هو المقيد وقيل إنه يكون نسخاً أي دالاً على نسخ حكم المطلق السابق بحكم المقيد اللاحق والأول أولى وظاهر إطلاقهم أنه لا فرق في هذا القسم بين أن يكون المطلق متقدماً أو متأخراً أو جهل السابق فإنه يتعين الحمل كما حكاه الزركشي . القسم الثالث : أن يختلفا في السبب دون الحكم كإطلاق الرقبة في كفارة الظهار وتقييدها بالإيمان في كفارة القتل فالحكم واحد وهو وجوب الإعتاق في الظهار والقتل مع كون الظهار والقتل سببين مختلفين فهذا القسم هو موضع الخلاف فذهب كافة الحنفية إلى عدم جواز التقييد . وحكاه القاضي عبد الوهاب عن أكثر المالكية وذهب جمهور الشافعية إلى التقييد . وذهب جماعة من محققي الشافعية إلى أنه يجوز تقييد المطلق بالقياس على ذلك المقيد ولا يدعى وجوب هذا القياس بل يدعى أنه إن حصل القياس الصحيح ثبت التقييد وإلا فلا . قال الرازي في المحصول وهو القول المعتدل قال واعلم أن صحة هذا القول إنما تثبت إذا أفسدنا القولين الأولين أما الأول يعني مذهب جمهور الشافعية فضعيف جداً لأن الشارع لو قال أوجبت في كفارة القتل رقبة مؤمنة وأوجبت في كفارة الظهار رقبة كيف كانت لم يكن أحد الكلامين مناقضاً للآخر فعلمنا أن تقييد أحدهما لا يقتضي تقييد الآخر لفظاً . وقد احتجوا بأن القرآن كالكلمة الواحدة وبأن الشهادة لما قيدت بالعدالة مرة واحدة وأطلقت في سائر الصور حملنا المطلق على المقيد فكذا هاهنا . والجواب عن الأول بأن القرآن كالكلمة الواحدة في أنها لا تتناقض لا في كل شيء وإلا وجب أن يتقيد كل عام ومطلق بكل خاص ومقيد . وعن الثاني أنا إنما قيدناه بالإجماع ، وأما القول الثاني يعني ذهب الحنفية فضعيف لأن دليل القياس وهو أن العمل به دفع للضرر المظنون عام في كل الصور انتهى . قال إمام الحرمين الجويني في دفع ما قالوه من أن كلام الله في حكم الخطاب الواحد إن هذا الاستدلال من فنون الهذيان فإن قضايا الألفاظ في كتاب الله مختلفة متباينة لبعضها حكم التعلق والاختصاص ولبعضها حكم الاستقلال والانقطاع فمن ادعى تنزيل جهات الخطاب على حكم كلام واحد مع العلم بأن كتاب الله فيه النفي والإثبات والأمر والزجر والأحكام المتغايرة ، قد ادعى أمراً عظيماً انتهى . ولا يخفاك أن اتحاد الحكم بين المطلق والمقيد يقتضي حصول التناسب بينهما بجهة الحمل ولا نحتاج في مثل ذلك إلى هذا الاستدلال البعيد فالحق ما ذهب إليه القائلون بالحمل . وفي المسألة مذهب رابع لبعض الشافعية وهو أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل فإن قام الدليل على تقييده قيد وإن لم يقم الدليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل عنه إلى غيره من الأدلة . قال الرزكشي وهذا أفسد المذاهب لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد فيها عائداً إليها ولا يعدل إلى غيره . وفي المسألة مذهب خامس وهو أن يعتبر أغلظ الحكمين في المقيد فإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولا يحمل على إطلاقه إلا بدليل لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لا يسقط التزامه باحتمال . قال الماوردي وهذا أولى المذاهب . قلت بل هو أبعدها من الصواب . القسم الرابع : أن يختلفا في الحكم نحو اكس يتيماً أطعم يتيماً فلا خلاف في أنه لا يحمل أحدهما على الآخر بوجه من الوجوه سواء كانا مثبتين أو منفيين أو مختلفين اتحد سببهما أو اختلف . وحكى الإجماع جماعة من المحققين آخرهم ابن الحاجب . البحث الثالث : اشترط القائلون بالجمل شروطاً سبعة : الأول : أن يكون المقيد من باب الصفات مع ثبوت الذوات في الموضعين فأما في إثبات أصل الحكم من زيادة أو عدد فلا يحمل أحدهما على الآخر وهذا كإيجاب غسل الأعضاء الأربعة في الوضوء مع الاقتصار على عضوين في التيمم فإن الإجماع منعقد على أنه لا يحمل إطلاق التيمم على تقييد الوضوء حتى يلزم التيمم في الأربعة الأعضاء لما فيه من إثبات حكم لم يذكر وحمل المطلق على المقيد يختص بالصفات كما ذكرنا ، وممن ذكر هذا الشرط القفال الشاشي والشيخ أبو حامد الإسفرائني والماوردي والروياني . ونقله الماوردي عن الأبهري من المالكية ونقل الماوردي أيضاً عن ابن خيران من الشافعية أن المطلق يحمل على المقيد في الذات وهو قول باطل . الشرط الثاني : أن لا يكون للمطلق إلا أصل واحد كاشتراط العدالة في الشهود على الرجعة والوصية وإطلاق الشهادة في البيوع وغيرها فهي شرط في الجمع وكذا تقييد ميراث الزوجين بقوله : من بعد وصية توصون بها أو دين وإطلاق الميراث فيما أطلق فيه فيكون ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين . فأما إذا كان المطلق دائراً بين قيدين متضادين نظر فإن كان السبب مختلفاً لم يحمل إطلاقه على أحدهما إلا بدليل فيحمل على ما كان القياس عليه أولى أو ما كان دليل الحكم عليه أقوى ، وممن ذكر هذا الشرط الأستاذ أبو منصور والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع والماوردي وحكى القاضي عبد الوهاب الاتفاق على اشتراطه . قال الزركشي وليس كذلك فقد حكى القفال الشاشي فيه خلافاً لأصحابنا ولم يرجح شيئاً . الشرط الثالث : أن يكون في باب الأوامر والإثبات أما في جانب النفي والنهي فلا فإنه يلزم منه الإخلال باللفظ المطلق مع تناول النفي والنهي وهو غير سائغ ، وممن ذكر هذا الشرط الآمدي وابن الحاجب ، وقالا لا خلاف في العمل بمدلولهما والجمع بينهما لعدم التعذر فإذا قال لا تعتق مكاتباً كافراً ولا مسلماً إذ لو أعتق واحداً منهما لم يعمل بهما وأما صاحب المحصول فسوى بين الأمر والنهي ورد عليه القرافي بمثل ما ذكره الآمدي والنهي بل يجري في جميع أقسام الكلام . قال الزركشي وقد يقال لا يتصور توارد المطلق والمقيد في جانب النفي والنهي وما ذكروه من المثال إنما هو من قبيل أفراد بعض مدلول العام وفيه ما تقدم من خلاف أبي ثور فلا وجه لذكره هاهنا انتهى . والحق عدم الحمل في النفي والنهي ، وممن اعتبر هذا الشرط ابن دقيق العيد وجعله أيضاً شرطاً في بناء العام على الخاص . الشرط الرابع : أن لا يكون في جانب الإباحة . قال ابن دقيق العيد إن المطلق لا يحمل على المقيد في جانب الإباحة إذ لا تعارض بينهما وفي المطلق زيادة قال الزركشي وفيه نظر . الشرط الخامس : أن لا يمكن الجمع بينهما إلا بالحمل فإن أمكن بغير إعمالهما فإنه أولى من تعطيل ما دل عليه أحدهما ذكره ابن الرفعة في المطلب . الشرط السادس : أن لا يكون المقيد ذكر معه قدر زائد يمكن أن يكون القيد لأجل ذلك القدر الزائد فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا قطعاً . الشرط السابع : أن لا يقوم دليل يمنع من التقييد فإن قام دليل على ذلك فلا تقييد . البحث الرابع : اعلم أن ما ذكر في التخصيص للعام فهو جار في تقييد المطلق فارجع في تفاصيل ذلك إلى ما تقدم في باب التخصيص فذلك يغنيك عن تكثير المباحث في هذا الباب . فائدة قال في المحصول إذا أطلق الحكم في موضع وقيد مثله في موضعين بقيدين متضادين كيف يكون حكمه ؟ مثاله قضاء رمضان الوارد مطلقاً في قوله سبحانه : فعدة من أيام أخر وصوم التمتع الوراد مقيداً بالتفريق في قوله فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم وصوم كفارة الظهار الوارد مقيداً بالتتابع في قوله فصيام شهرين متتابعين قال فمن زعم أن المطلق يتقيد بالمقيد لفظاً ترك المطلق هاهنا على إطلاقه لأنه ليس تقييده بأحدهما أولى من تقييده بالآخر ومن حمل المطلق على المقيد لقياس حمله هاهنا على ما كان القياس عليه أولى انتهى . وقد تقدم في الشرط الثاني من المبحث الذي قبل هذا المبحث الكلام في المطلق الدائر بين قيدين متضادين وإنما ذكرنا هذه الفائدة لزيادة الإيضاح .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب السادس في المجمل والمبين

الفصل الثاني الإجمال في الكتاب والسنة اعلم أن الإجمال واقع في الكتاب والسنة قال أبو بكر الصيرفي ولا أعلم أحداً أبى هذا غير داود الظاهري وقيل إنه لم يبق مجمل في كتاب الله تعالى بعد موت النبي صضص وقال إمام الحرمين إن مختار ما يثبت التكليف به لا إجمال فيه لأن التكليف بالمجمل تكليف بالمحال وما لا يتعلق به تكليف فلا يبعد استمرار الإجمال فيه بعد وفاته صضص . قال الماوردي والروياني يجوز التعبد بالخطاب المجمل قبل البيان لأنه صضص بعث معاذاً إلى اليمن وقال ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله الحديث وتعبدهم بالتزام الزكاة قبل بيانها قالا وإنما جاز الخطاب بالمجمل وإن كانوا لا يفهمونه لأحد الأمرين : الأول : أن يكون إجماله توطئة للنفس على قبول ما يتعقبه من البيان فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة بها لجاز أن تنفر النفوس منها ولا تنفر من إجمالها . والثاني : أن الله تعالى جعل من الأحكام جلياً وجعل منها خفياً ليتفاضل الناس في العمل بها ويثابوا على الاستنباط لها فلذلك جعل منها مفسراً جلياً وجعل منهما مجملاً خفياً . قال الأستاذ أبو إسحاق الشيرازي وحكم المجمل التوقف فيه إلى أن يفسر ولا يصح الاحتجاج بظاهره في شيء يقع فيه النزاع قال الماوردي إن كان الإجمال من جهة الاشتراك واقترن به تبيينه أخذ به فإن تجرد عن ذلك واقترن به عرف يعمل به فإن تجرد عنهما وجب الاجتهاد في المراد منه وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط فصار داخلاً في المجمل لخفائه وخارجاً منه لإمكان الاستنباط .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الثالث الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب الإجمال إما أن يكون في حال الإفراد أو التركيب والأول إما أن يكون بتصريفه نحو قال من القول والقيلولة ونحو مختار فإنه صالح للفاعل والمفعول . قال العسكري ويفترقان تقول في الفاعل مختار لكذا وفي المفعول مختار من كذا ومن قوله تعالى : لا تضار والدة بولدها ولا يضار كاتب ولا شهيد وأما أن يكون بأصل وضعه فإما أن تكون معانيه متضاده كالقرء للطهر والحيض والناهل للعطشان والريان أو متشابهة غير متضادة فإما أن يتناول معاني كثيرة بحسب خصوصياتها فهو المشترك وأما بحسب معنى تشترك فيه فهو المتواطئ . والإجمال كما يكون في الأسماء على ما قدمنا يكون في الأفعال كعسعس بمعنى أقبل وأدبر ويكون في الحروف كتردد الواو بين العطف والابتداء وكما يكون في المفردات يكون في المركبات نحو قوله تعالى : أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح لتردده بين الزوج والولي ويكون أيضاً في مرجع الضمير إذا تقدمه أمران أو أمور يصلح لكل واحد منها ويكون في الصفة نحو طبيب ماهر لترددها بين أن تكون للمهارة مطلقاً أو للمهارة في الطب ويكون في تعدد المجازات المتساوية مع مانع يمنع من حمله على الحقيقة فإن اللفظ يصير مجملاً بالنسبة إلى تلك المجازات إذ ليس الحمل على بعضها أولى من الحمل على البعض الآخر ، كذا قال الآمدي والصفي الهندي وابن الحاجب . وقد يكون في فعل النبي صضص إذا فعل فعلاً يحتمل وجهين احتمالاً واحداً . وقد يكون قد ورد في الأوامر بصيغة الخبر كقوله تعالى : والجروح قصاص وقوله والمطلقات يتربصن بأنفسهن فذهب الجمهور إلى أنها تفيد الإيجاب وقال آخرون يتوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد بها .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الرابع فيما لا إجمال فيه وهو أمور قد يحصل فيها الاشتباه على البعض فيجعلها داخلة في قسم المجمل وليست منه . الأول : في الألفاظ التي علق التحريم فيها على الأعيان كقوله تعالى : حرمت عليكم الميتة حرمت عليكم أمهاتكم فذهب الجمهور إلى أنه لا إجمال في ذلك ، وقال الكرخي والبصري إنها مجملة . احتج الجمهور بأن الذي يسبق إلى الفهم من قول القائل هذا طعام حرام هو تحريم أكله ومن قول القائل هذا المرأة حرام هو تحريم وطئها وتبادر الفهم دليل الحقيقة فالمفهوم من قوله حرمت عليكم الميتة و تحريم الأكل لأن ذلك هو المطلوب من تلك الأعيان ، وكذا قوله حرمت عليكم أمهاتكم فإن المفهوم منه هو تحريم الوطء . واحتج الكرخي والبصري بأن هذه الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة فكيف إذا كانت موجودة فإذا لا يمكن إجراء اللفظ على ظاهره بل المراد تحريم فعل من الأفعال المتعلقة بتلك الأعيان وذلك الفعل غير مذكور وليس بعضها أولى من بعض فإما أن يضمر الكل وهو محال لأنه إضمار من غير حاجة وهو غير جائز أو يتوقف في الكل وهو المطلوب وأيضاً لو دلت على تحريم فعل معين لوجب أن يتعين ذلك الفعل في كل المواضع وليس كذلك . وأجيب بأنه لا نزاع في أنه لا يمكن إضافة التحريم إلى الأعيان لكن قوله ليس إضمار بعض الأحكام أولى من بعض ممنوع فإن العرف يقتضي إضافة التحريم إلى الفعل المطلوب منه وهو تحريم الاستمتاع وتحريم الأكل فهذا البعض متضح متعين بالعرف . الثاني : لا إجمال في مثل قوله تعالى : وامسحوا برؤوسكم وإلى ذلك ذهب الجمهور وذهب الحنفية إلى أنه مجمل لتردده بين الكل والبعض والسنة بينت البعض وحكاه في المعتمد عن أبي عبد الله البصري . ثم اختلف القائلون بأن لا إجمال فقالت المالكية إنه يقتضي مسح الجميع لأن الرأس حقيقة في جميعه والباء إنما دخلت للإلصاق . وقال الشريف المرتضى فيما حكاه عنه صاحب المصادر إنه يقتضي التبعيض قال لأن المسح فعل متعد بنفسه غير محتاج إلى حرف التعدية بدليل قوله مسحته كله فينبغي أن يفيد دخول الباء فائدة جيدة فلو لم يفد البعض يبقى اللفظ عارياً عن الفائدة . وقالت طائفة أنه حقيقة فيما ينطلق عليه الاسم وهو القدر المشترك بين مسح الكل والبعض فيصدق بمسح البعض ونسبه في المحصول إلى الشافعي . قال البيضاوي وهو الحق : ونقل ابن الحاجب عن الشافعي وأبي الحسين وعبد الجبار ثبوت البعض بالعرف . والذي في المعتمد لأبي الحسين وعبد الجبار أنها تفيد في اللغة تعميم مسح الجميع لأنه متعلق بما سمي رأساً وهو اسم لجملة الرأس لا للبعض ولكن العرف يقتضي إلصاق المسح بالرأس إما بجميعه ، وإما ببعضه لصدق الاسم عليه وعبارة الشافعي في كتاب أحكام القرآن أن من مسح رأسه شيئاً فقد مسح برأسه ولم تحتمل الآية إلا هذا . قال فدلت السنة أنه ليس على المرء مسح رأسه كله وإذا دلت السنة على ذلك فمعنى الآية أن من مسح شيئاً من رأسه أجزأه انتهى . فلم يثبت التبعيض بالعرف كما زعم ابن الحاجب . ولا يخفاك أن الأفعال المنسوبة إلى الذوات تصدق بالبعض حقيقة لغوية فمن قال ضربت رأس زيد أو ضربت برأسه صدق ذلك بوقوع الفعل على جزء من الرأس فهكذا مسحت رأس زيد ومسحت برأسه . وعلى كل حال فقد جاء في السنة المطهرة مسح كل الرأس ومسح بعضه فكان ذلك دليلاً مستقلاً على أنه يجزئ مسح البعض سواء كانت الآية من قبيل المجمل أم لا . الثالث : لا إجمال في مثل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا عند الجمهور ، وقال بعض الحنفية إنها مجملة إذ اليد العضو من المنكب والمرفق والكوع لاستعمالها فيها والقطع للإبانة والشق لاستعماله فيهما . وأجاب الجمهور بأن اليد تستعمل مطلقة ومقيدة فالمطلقة تنصرف إلى الكوع بدليل آية التيمم وآية السرقة وآية المحاربة . وأجاب بعضهم بأن اليد حقيقة في العضو إلى المنكب ولما دونه مجاز فلا إجمال في الآية وهذا هو الصواب . وقد جاءت السنة بأن القطع من الكوع فكان ذلك مقتضياً للمصير إلى المعنى المجازي في الآية . ويجاب عما ذكر في القطع بأن الإجمال إنما يكون مع عدم الظهور في أحد المعنيين وهو ظاهر في القطع لا في الشق الذي هو مجرد قطع بدون إبانة . الرابع : لا إجمال في نحو « لا صلاة إلا بطهور ، لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب . لا صيام من لم يبيت الصيام من الليل . لا نكاح إلا بولي . لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد » وإلى ذلك ذهب الجمهور قالوا لأنه إن ثبت عرف شرعي في إطلاقه للصحيح كان معناه لا صلاة صحيحة ولا صيام صحيح ولا نكاح صحيح فلا إجمال وإن لم يثبت عرف شرعي فإن ثبت فيه عرف لغوي وهو أن مثله يقصد منه نفي الفائدة والجدوى نحو لا علم إلا ما نفع ولا كلام إلا ما أفاد فيتعين ذلك فلا إجمال وإن قدر انتفاؤهما فالأولى حمله على نفي الصحة دون الكمال لأن ما لا يصح كالعدم في عدم الجدوى بخلاف ما لا يكمل فكان أقرب المجازين إلى الحقية المتعذرة فلا إجمال وهذا بناء منهم على أن الحقيقة متعذرة لوجوب الذات في الخارج ويمكن أن يقال إن المنفى هو الذات الشرعية والتي وجدت ليست شرعية فيبقى حمل الكلام على حقيقته وهي نفي الذات الشرعية فإن دل دليل على أنه لا يتوجه النفي إليها كان توجهه إلى الصحة أولى لأنها أقرب المجازين إذ توجيهه إلى نفي الصحة يستلزم نفي الذات حقيقة بخلاف توجيهه إلى الكمال فإنه لا يستلزم نفي الذات فكان توجيهه إلى الصحة أقرب المجازين إليها فلا إجمال وليس هذا من باب إثبات اللغة بالترجيح بل من باب ترجيح أحد المجازين على الآخر بدليل . وذهب القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار وأبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم وأبو عبد الله البصري إلى أنه مجمل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أهل الرأي . واختلف هؤلاء في تقرير الإجمال على ثلاثة وجوه : الأول : أنه ظاهر في نفي الوجود وهو لا يمكن لأنه واقع قطعاً فاقتضى ذلك الإجمال . الثاني : أنه ظاهر في نفي الوجود ونفي الحكم فصار مجملاً . الثالث : أنه متردد بين نفي الجواز ونفي الوجوب فصار مجملاً قال بعض هؤلاء في تقرير الإجمال إما أن يحمل على الكل وهو إضمار من غير ضرورة ولأنه قد يفضي أيضاً إلى التناقض لأنا لو حملناه على نفي الصحة ونفي الكمال معاً كان نفي الصحة يقتضي نفيها ونفيها يستلزم نفي الذات وكان نفي الكمال يقتضي ثبوت الصحة فكان مجملاً من هذه الحيثية وهذا كله مدفوع بما تقدم . الخامس : لا إجمال في نحو قوله : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان مما ينفي فيه صفة والمراد نفي لازم من لوازمه وإلى ذلك ذهب الجمهور لأن العرف في مثله قبل ورود الشرع نفي المؤاخذة ورفع العقوبة فإن السيد إذا قال لعبده رفعت عنك الخطأ كان المفهوم منه أني لا أؤاخذك به ولا أعاقبك عليه فلا إجمال . قال الغزالي قضية اللفظ رفع نفس الخطأ والنسيان وهو غير معقول فالمراد به رفع حكمه لا على الإطلاق بل الحكم الذي علم بعرف الاستعمال قبل الشرع وهو رفع الإثم فليس بعام في جميع أحكامه من الضمان ولزوم القضاء وغيرهما وقال أبو الحسين وأبو عبد الله البصري إنه مجمل لأن ظاهره نفس رفع الخطأ والنسيان وقد وقعا . وقد حكى شارح المحصول في هذه المسألة ثلاثة مذاهب : أحدها أنه مجمل . والثاني الحمل على رفع العقاب آجلاً والإثم عاجلاً . قال وهو مذهب الغزالي . والثالث رفع جميع الأحكام الشرعية واختاره الرازي في المحصول وممن حكى هذه الثلاثة المذاهب القاضي عبد الوهاب في الملخص ونسب الثالث إلى أكثر الفقهاء من الشافعية والمالكية واختار هو الثاني . والحق ما ذهب إليه الجمهور للوجه الذي قدمنا ذكره . السادس : إذا دار لفظ الشارع بين مدلولين أن حمل على أحدهما أفاد معنى واحداً وإن حمل على الآخر أفاد معنيين ولا ظهور له في أحد المعنيين اللذين دار بينهما قال الصفي الهندي ذهب الأكثرون إلى أنه ليس بمجمل بل هو ظاهر في إفادة المعنيين اللذين هما أحد مدلوليه وذهب الأقلون إلى أنه مجمل وبه قال الغزالي واختاره ابن الحاجب واختار الأول الآمدي لتكثير الفائدة . قال الآمدي والهندي محل الخلاف إنما هو فيما إذا لم يكن حقيقة في المعنيين فإنه يكون مجملاً أو حقيقة في أحدهما فالحقيقة مرجحة وظاهرة جعل الخلاف فيما إذا كانا مجازين لأنهما إذا لم يكونا حقيقتين ولا أحدهما حقيقة والآخر مجازاً فما بقي إلا أن يكونا مجازين . قال الزركشي والحق أن صورة المسألة أعم من ذلك وهو اللفظ المحتمل لمتساويين سواء كانا حقيقتين أو مجازين أو أحدهما حقيقة مرجوحة والآخر مجازاً راجحاً عند القائل بتساويهما ويكون ذلك باعتبار الظهور والخفاء انتهى . والحق أنه مع عدم الظهور في أحد مدلوليه يكون مجملاً ولا يصح جعل تكثير الفائدة مرجحاً ولا رافعاً للإجمال فإن أكثر الألفاظ ليس لها إلا معنى واحد فليس الحمل على كثرة الفائدة بأولى من الحمل على المعنى الواحد لهذه الكثيرة التي لا خلاف فيها . السابع : لا إجمال فيما كان له مسمى لغوي ومسمى شرعي كالصوم والصلاة عند الجمهور بل يجب الحمل على المعنى الشرعي لأن النبي صضص بعث لبيان الشرعيات لا لبيان معاني الألفاظ اللغوية والشرع طارئ على اللغة وناسخ لها فالحمل على الناسخ المتأخر أولى وذهب جماعة إلى أنه مجمل ونقله الأستاذ أبو منصور عن أكثر أصحاب الشافعي . وذهب جماعة إلى التفصيل بين أن يرد على طريقة الإثبات فيحمل على المعنى الشرعي وبين أن يرد على طريقة النفي فمجمل لتردده . فالأول كقوله صضص « إني صائم » فيستفاد منه صحة نية النهار . والثاني كالنهي عن صوم أيام التشريق فلا يستفاد منه صحة صومها واختار هذا التفصيل الغزالي وليس بشيء . وثم مذهب رابع وهو أنه لا إجمال في الإثبات الشرعي والنهي اللغوي واختاره الآمدي ولا وجه له أيضاً ، والحق ما ذهب إليه الأولون لما تقدم . وهكذا إذا كان للفظ محمل شرعي ومحمل لغوي فإنه يحمل على المحمل الشرعي لما تقدم . وهكذا إذا كان له مسمى شرعي ومسمى لغوي فإنه يحمل على الشرعي لما تقدم أيضاً . وهكذا إذا تردد اللفظ بين المسمى العرفي واللغوي فإنه يقدم العرفي على اللغوي .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل الخامس في مراتب البيان للأحكام ، وهي خمسة بعضها أوضح من بعض الأول : بيان التأكيد وهو النص الجلي الذي لا يتطرق إليه تأويل كقوله تعالى في صوم التمتع فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة وسماه بعضهم بيان التقرير . وحاصله أنه في الحقيقة التي تحتمل المجاز والعام المخصوص فيكون البيان قاطعاً للاحتمال مقرراً للحكم على ما اقتضاه الظاهر . الثاني : النص الذي ينفرد بإدراكه العلماء كالواو وإلى في آية الوضوء فإن هذين الحرفين مقتضيان لمعان معلومة عند أهل اللسان . الثالث : نصوص السنة الواردة بياناً لمشكل في القرآن كالنص على ما يخرج عند الحصاد مع قوله تعالى : وآتوا حقه يوم حصاده ولم يذكر في القرآن مقدار هذا الحق . الرابع : نصوص السنة المبتدأة مما ليس في القرآن نص عليها ولا بالإجمال ولا بالتبيين ودليل كون هذا القسم من بيان الكتاب قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا . الخامس : بيان الإشارة وهو القياس المستنبط من الكتاب والسنة مثل الألفاظ التي استنبطت منها المعاني وقيس عليها غيرها لأن الأصل إذا استنبط منه معنى وألحق به غيره لا يقال لم يتناوله النص بل تناوله لأن النبي صضص أشار إليه بالتنبيه كإلحاق المطعومات في باب الربوبيات بالأربعة المنصوص عليها لأن حقيقة القياس بيان المراد بالنص وقد أمر الله سبحانه وتعالى أهل التكليف بالاعتبار والاستنباط والاجتهاد . ذكر هذا المراتب الخمس للبيان الشافعي في أول الرسالة وقد اعترض عليه قوم وقالوا قد أهمل قسمين وهما الإجماع وقول المجتهد إذا انقرض عصره وانتشر من غير نكير قال الزركشي في البحر إنما أهملهما الشافي لأن كل واحد منهما إنما يتوصل إليه بأحد الأقسام الخمسة التي ذكرها الشافعي لأن الإجماع لا يصدر إلا عن دليل فإن كان نصاً فهو من الأقسام الأول وإن كان استنباطاً فهو الخامس . قال ابن السمعاني يقع بيان المجمل بستة أوجه : أحدها بالقول وهو الأكثر . والثاني بالفعل . والثالث بالكتاب كبيان أسنان الديات وديات الأعضاء ومقادير الزكاة فإنه صضص بينها بكتبه المشهورة . والرابع بالإشارة كقوله الشهر هكذا وهكذا وهكذا يعني ثلاثين يوماً ثم أعاد الإشارة بأصابعه ثلاث مرات وحبس إبهامه في الثالثة إشارة إلى أن الشهر قد يكون تسعة وعشرين . والخامس بالتنبيه وهو المعاني والعلل التي نبه بها على بيان الأحكام كقوله في بيع الرطب بالتمر أينقص الرطب إذا جف وقوله في قبلة الصائم أرأيت لو تمضمض . السادس ما خص العلماء بيانه عن اجتهاد وهو ما فيه الوجوه الخمسة إذا كان الاجتهاد موصولاً إليه من أحد وجهين إما من أصل يعتبر هذا الفرع به وإما من طريق أمارة تدل عليه وزاد شارح اللمع وجهاً سابعاً وهو البيان بالترك كما روى أن آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار . قال الأستاذ أبو منصور رتب بعض أصحابنا ذلك فقال أعلاها رتبة ما وقع من الدلالة بالخطاب ثم بالفعل ثم بالإشارة ثم بالكتابة ثم بالتنبيه على العلة قال ويقع بيان من الله سبحانه وتعالى بها كلها خلا الإشارة انتهى . قال الزركشي لا خلاف أن البيان يجوز بالقول واختلفوا في وقوعه بالفعل والجمهور على أنه يقع بياناً خلافاً لأبي أسحاق المروزي منا والكرخي من الحنفية . حكاه الشيخ أبو إسحاق في التبصرة انتهى . ولا وجه لهذا الخلاف فإن النبي بين الصلاة والحج بأفعاله ، وقال صلوا كما رأيتموني أصلي حجوا كما رأيتموني أحج وخذوا عني مناسككم ولم يكن لمن منع من ذلك متمسك لا من شرع ولا من عقل بل مجرد مجادلات ليست من الأدلة في شيء ، وإذا ورد بعد المجمل قول وفعل وكل واحد منهما صالح لبيانه فإن اتفقا وعلم سبق أحدهما فهو البيان قولاً كان أو فعلاً والثاني تأكيد له وقيل إن المتأخر إن كان الفعل لم يحمل على التأكيد لأن الأضعف لا يؤكد الأقوى وإن جهل المتقدم منهما فلا يقضي على واحد منهما بأنه المبين بعينه بل يقضي بحصول البيان بواحد منهما لم نطلع عليه وهو الأول في نفس الأمر وقيل يكونان بمجموعهما بياناً قيل هذا إذا تساويا في القوة فإن اختلفا فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم وروداً وإلا لزم التأكيد بالأضعف هذا إذا اتفق القول والفعل ، أما إذا اختلفا فذهب الجمهور أن المبين هو القول ورجح هذا فخر الدين الرازي وابن الحاجب سواء كان متقدماً أو متأخراً ويحمل الفعل على الندب لأن دلالة القول على البيان بنفسه بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه والدال بنفسه أولى وقال أبو الحسين البصري المتقدم منهما هو البيان كما في صورة اتفاقهما .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الفصل السادس في تأخير البيان عن وقت الحاجة اعلم أن كل ما يحتاج إلى البيان من مجمل وعام ومجاز ومشترك وفعل متردد ومطلق إذا تأخر بيانه فذلك على وجهين : الأول : أن يتأخر عن وقت الحاجة وهو الوقت الذي إذا تأخر البيان عنه لم يتمكن المكلف من المعرفة لما تضمنه الخطاب وذلك في الواجبات الفورية لم يجز لأن الإتيان بالشيء مع عدم العلم به ممتنع عند جميع القائلين بالمنع من تكليف ما لا يطاق وأما من جوز التكليف بما لا يطاق فهو يقول بجوازه فقط لا بوقوعه فكان عدم الوقوع متفقاً عليه بين الطائفتين ولهذا نقل أبو بكر الباقلاني إجماع أرباب الشرائع على امتناعه . قال ابن السمعاني لا خلاف في امتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى الفعل ولا خلاف في جوازه إلى وقت الفعل لأن المكلف قد يؤخر النظر وقد يخطئ إذا نظر فهذانك القربان لا خلاف فيهما انتهى . الوجه الثاني : تأخيره عن وقت ورود الخطاب إلى وقت الحاجة إلى الفعل وذلك في الواجبات التي ليست بفورية حيث يكون الخطاب لا ظاهر له كالأسماء المتواطئة والمشتركة أوله ظاهر وقد استعمل في خلافه كتأخير التخصيص والنسخ ونحو ذلك وفي ذلك مذاهب : الأول : الجواز مطلقاً ، قال ابن برهان وعليه عامة علمائنا من الفقهاء والمتكلمين ونقله ابن فورك والقاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وابن السمعاني عن ابن سريج والأصطخري وابن أبي هريرة وابن خيران والقفال وابن القطان والطبري والشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر الباقلاني ونقله القاضي في مختصر التقريب عن الشافعي واختاره الرازي في المحصول وابن الحاجب وقال الباجي عليه أكثر أصحابنا وحكاه القاضي عن مالك واستدلوا بقوله سبحانه : فإذا قرأناه فاتبع قرآنه * ثم إن علينا بيانه وثم للتعقيب مع التراخي وقوله في قصة نوح وأهلك وحكمه تناول ابنه وبقوله : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ثم لما سأل ابن الزبعري عن عيسى والملائكة نزل قوله : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية وبقوله فأن لله خمسه لم يبين بعد ذلك أن السلب للقاتل وبقوله أقيموا الصلاة ثم وقع بيانها بعد ذلك بصلاة جبريل وبصلاة النبي صضص وبقوله وآتوا الزكاة وبقوله والسارق والسارقة فاقطعوا وبقوله ولله على الناس حج البيت ثم وقع البيان لهذه الأمور بعد ذلك بالسنة ونحو هذا كثير جداً . المذهب الثاني : المنع مطلقاً ونقله القاضي أبو بكر الباقلاني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني عن أبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصيرفي وأبي حامد المروزي ونقله الأستاذ أبو إسحاق عن أبي بكر الدقاق قال القاضي وهو قول المعتزلة وكثير من الحنفية و ابن داود الظاهري ونقله ابن القشيري عن داود الظاهري ونقله المازري والباجي عن الأبهري . قال القاضي عبد الوهاب قالت المعتزلة والحنفية لا بد أن يكون الخطاب متصلاً بالبيان أو في حكم المتصل احترازا من انقطاعه بعطاس ونحوه من عطف الكلام بعضه على بعض قال ووافقهم بعض المالكية والشافعية ، واستدل هؤلاء بما لا يسمن ولا يغني من جوع فقالوا لو جاز ذلك فإما أن يكون إلى مدة معينة أو إلى الأبد وكلاهما باطل أما إلى مدة معينة فلكونه تحكما ولكونه لم يقل به أحد وأما إلى الأبد فلكونه يلزم المحذور وهو الخطاب والتكليف به مع عدم الفهم . وأجيب عنهم باختيار جوازه إلى مدة معينة عند الله وهو الوقت الذي يعلم أنه يكلف به فيه فلا تحكم هذا أنهض ما استدلوا به على ضعفه وقد استدلوا بما هو دونه في الضعف فلا حاجة لنا إلى تطويل البحث بما لا طائل تحته . المذهب الثالث : أنه يجوز تأخير بيان المجمل دون غيره حكاه القاضي أبو الطيب والقاضي عبد الوهاب وابن الصباغ عن الصيرفي وأبي حامد المروزي . قال أبو الحسين بن القطان لا خلاف بين أصحابنا في جواز تأخير بيان المجمل كقوله : أقيموا الصلاة وكذا لا يختلفون أن البيان في الخطاب العام يقع بفعل النبي صضص والفعل يتأخر عن القول لأن بيانه بالقول أسرع منه بالفعل وأما العموم الذي يعقل مراده من ظاهره كقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا فقد اختلفوا فيه فمنهم من لم يجوز تأخير بيانه كما هو مذهب أبي بكر الصيرفي وكذا حكى اتفاق أصحاب الشافعي على جواز تأخير بيان المجمل ابن فورك والأستاذ أبو إسحاق الإسفرائني ولم يأتوا بما يدل على عدم جواز التأخير فيما عدا ذلك إلا ما لا يعتد به ولا يلتفت إليه . المذهب الرابع : أنه يجوز تأخير بيان العموم لأنه قبل البيان مفهوم ولا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه قبل البيان غير مفهوم حكاه الماوردي والروياني وجهاً لأصحاب الشافعي ونقله ابن برهان في الوجيز عن عبد الجبار ولا وجه له . المذهب الخامس : أنه يجوز تأخير بيان الأوامر والنواهي ، ولا يجوز تأخير بيان الأخبار كالوعد والوعيد حكاه الماوردي عن الكرخي وبعض المعتزلة ولا وجه له أيضاً . المذهب السادس : عكسه ، حكاه الشيخ أبو إسحاق مذهباً ولم ينسبه إلى أحد ولا وجه له أيضاً ونازع بعضهم في حكاية هذا وما قبله مذهباً قال لأن موضوع المسألة التكليفي فلا تذكر فيها الأخبار قال الزركشي وفيه نظر . المذهب السابع : أنه يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره ذكر هذا المذهب أبو الحسين في المعتمد وأبو علي وأبو هاشم وعبد الجبار ولا وجه له أيضاً لعدم الدليل الدال على عدم جواز التأخير فيما عدا النسخ وقد عرفت قيام الأدلة المتكثرة على الجواز مطلقاً فالاقتصار على بعض ما دلت عليه دون بعض بلا مخصص باطل . المذهب الثامن : التفصيل بين ما ليس له ظاهر كالمشترك دون ما له ظاهر كالعام والمطلق والمنسوخ ونحو ذلك فإنه لا يجوز التأخير في الأول ويجوز في الثاني نقله فخر الدين الرازي عن أبي الحسين البصري والدقاق والقفال وأبي إسحاق وقد سبق النقل عن هؤلاء بأنهم يذهبون إلى خلاف ما حكاه عنهم ولا وجه لهذا التفصيل . المذهب التاسع : أن بيان المجمل إن لم يكن تبديلاً ولا تغييراً جاز مقارناً وطارئاً وإن كان تغييراً جاز مقارناً ولا يجوز طارئاً بالحال . نقله السمعاني عن أبي زيد من الحنفية ولا وجه له أيضاً فهذه جملة المذاهب المروية في هذه المسألة وأنت إذا تتبعت موارد هذه الشريعة المطهرة وجدتها قاضية بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب قضاء ظاهراً واضحاً لا ينكره من له أدنى خبرة بها وممارسة لها وليس على هذه المذاهب المخالفة لما قاله المجوزون أثارة من علم ، وقد اختلف القائلون بجواز التأخير في جواز تأثير البيان على التدريج بأن يبين بياناً أولاً ثم يبين بياناً ثانياً كالتخصيص بعد التخصيص والحق الجواز لعدم المانع من ذلك لا من شرع ولا عقل فالكل بيان .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب السابع في الظاهر والمؤول ، وفيه ثلاثة فصول الفصل الأول : في حدهما ، فالظاهر في اللغة هو الواضح قال الأستاذ والقاضي أبو بكر لفظه يغني عن تفسيره . وقال الغزالي هو المتردد بين أمرين وهو في أحدهما أظهر ، وقيل هو ما دل على معنى مع قبوله لإفادة غيره إفادة مرجوحة فاندرج تحته ما دل على المجاز الراجح ويطلق على اللفظ الذي يفيد معنى سواء أفاد معه إفادة مرجوحة أو لم يفد ولهذا يخرج النص فإن إفادته ظاهرة بنفسه ونقل إمام الحرمين أن الشافعي كان يسمي الظاهر نصاً ، وقيل هو في الاصطلاح ما دل دلالة ظنية إما بالوضع كالأسد للسبع المفترس أو بالعرف كالغائط للخارج المستقذر إذ غلب فيه بعد أن كان في الأصل للمكان المطمئن من الأرض . والتأويل مشتق من آل يؤول إذا رجع تقول آل الأمر إلى كذا أي رجع إليه وما آل الأمر مرجعه . وقال النضر بن شميل إنه مأخوذ من الأيالة وهي السياسة يقال لفلان علينا إيالة وفلان أيل علينا أي سائس فكان المؤول بالتأويل كالمتحكم على الكلام المتصرف فيه . وقال ابن فارس في فقه العربية التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال ما آل هذا الأمر مصيره واشتقاق الكلمة من الأول وهو العاقبة والمصير واصطلاحاً صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله وفي الاصطلاح حمل الظاهر على المحتمل المرجوح ، وهذا يتناول التأويل الصحيح والفاسد فإن أردت تعريف التأويل الصحيح زدت في الحد بدليل يصيره راجحاً لأنه بلا دليل أو مع دليل مرجوح أو مساً وفاسد . قال ابن برهان وهذا الباب أنفع كتب الأصول وأجلها ولم يزل الزال إلا بالتأويل الفاسد وأما ابن السمعاني فأنكر على إمام الحرمين إدخاله لهذا الباب في أصول الفقه وقال ليس هذا من أصل الفقه في شيء إنما هو كلام يورد في الخلافيات . واعلم أن الظاهر دليل شرعي يجب اتباعه والعمل به بدليل إجماع الصحابة على العمل بظواهر الألفاظ . وإذا عرفت معنى الظاهر فاعلم أن النص ينقسم إلى قسمين أحدهما يقبل التأويل وهو قسم من النص مرادف للظاهر والقسم الثاني لا يقبله وهو النص الصريح وسيأتي الكلام على هذا في الباب الذي بعد هذا الباب . الفصل الثاني فيما يدخله التأويل وهو قسمان أحدهما أغلب الفروع ولا خلاف في ذلك ، والثاني الأصول كالعقائد وأصول الديانات وصفات الباري عز وجل . وقد اختلفوا في هذا القسم على ثلاثة مذاهب : الأول : أنه لا مدخل للتأويل فيها بل يجري على ظاهرها ولا يؤول شيء منها وهذا قول المشبهة . والثاني : أن لها تأويلاً ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن التشبيه والتعطيل لقوله تعالى : وما يعلم تأويله إلا الله قال ابن برهان وهذا قول السلف . قلت وهذا هو الطريقة الواضحة والمنهج المصحوب بالسلام عن الوقوع في مهاوي التأويل لما لا يعلم تأويله إلا الله وكفى بالسلف الصالح قدوة لمن أراد الاقتداء وأسوة لمن أحب التأسي على تقدير عدم ورود الدليل القاضي بالمنع من ذلك فكيف وهو قائم موجود في الكتاب والسنة . والمذهب الثالث : أنها مؤولة قال ابن برهان والأول من هذه المذاهب باطل والآخران منقولان عن الصحابة ونقل هذا المذهب الثالث عن علي وابن مسعود وابن عباس وأم سلمة . قال أبو عمرو بن الصلاح الناس في هذه الأشياء الموهمة للجهة ونحوها فرق ثلاث : ففرقة تؤول وفرقة تشبه وثالثة ترى أنه لم يطلق الشارع مثل هذه اللفظة إلا وإطلاقه سائغ وحسن قبولها مطلقة كما قال مع التصريح بالتقديس والتنزيه والتبري من التحديد والتشبيه قال وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها واختارها أئمة الفقهاء وقادتها . وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي في غير موضع بهجر ما سواها حتى ألجم آخراً في إلجامه كل عامل وعامي عما عداها . قال وهذا كتاب إلجام العوام عن علم الكلام وهو آخر تصانيف الغزالي مطلقاً حث فيه على مذهب السلف ومن تبعهم . قال الذهبي في النبلاء في ترجمة فخر الدين الرازي ما لفظه : وقد اعترف في آخر عمره حيث يقول لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن ، اقرأ في الإثبات الرحمن على العرش استوى ، إليه يصعد الكلم الطيب واقرأ في النفي ليس كمثله شيء ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي انتهى . وذكر الذهبي في النبلاء في تجرمة إمام الحرمين الجويني أنه قال ذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة هكذا نقل عنه صاحب النبلاء في ترجمته وقال في موضع آخر في ترجمته في النبلاء إنه قال ما لفظه اشهدوا علي أني قد رجعت عن كل مقالة تخالف السلف انتهى . وهؤلاء الثلاثة أعني الجويني والغزالي والرازي هم الذين وسعوا دائرة التأويل وطولوا ذيوله وقد رجعوا آخراً إلى مذهب السلف كما عرفت فلله الحمد كما هو له أهل وقال ابن دقيق العيد ونقوله في الألفاظ المشكلة إنها حق وصدق وعلى الوجه الذي أراده الله ومن أول شيئاً منها فإن كان تأويله قريباً على ما يقتضيه لسان العرب وتفهمه في مخاطباتهم لم ننكر عليه ولم نبدعه وإن كان تأويله بعيداً توقفنا عليه واستبعدناه ورجعنا إلى القاعدة في الإيمان بمعناه مع التنزيه وقد تقدمه إلى مثل هذا ابن عبد السلام كما حكاه عنهما الزركشي في البحر والكلام في هذا يطول لما فيه من كثرة النقول عن الأئمة الفحول . الفصل الثالث في شروط التأويل الأول أن يكون موافقاً لوضع اللغة أو عرف الاستعمال وإعادة صاحب الشرع وكل تأويل خرج عن هذا فليس صحيح . الثاني أن يقوم الدليل على أن المراد بذلك اللفظ هو المعنى الذي حمل عليه إذا كان لا يستعمل كثيراً فيه . الثالث إذا كان التأويل بالقياس فلا بد أن يكون جلياً لا خفياً ، وقيل أن يكون مما يجوز التخصيص به على ما تقدم ، وقيل لا يجوز التأويل بالقياس أصلاً . والتأويل في نفسه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : قد يكون قريباً فيترجح بأدنى مرجح ، وقد يكون بعيداً فلا يترجح إلا بمرجح قوي ولا يترجح بما ليس بقوي وقد يكون متعذراً لا يحتمله اللفظ فيكون مردوداً لا مقبولاً . وإذا عرفت هذا تبين لك ما هو مقبول من التأويل مما هو مردود ولم يحتج إلى تكثير الأمثلة كما وقع في كثير من كتب الأصول .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب الثامن من المقصد الرابع في المنطوق والمفهوم وفيه أربع مسائل المسألة الأولى : في حدهما ، فالمنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق أي يكون حكماً للمذكور وحالاً من أحواله والمفهوم ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق أي يكون حكماً لغير المذكور وحالاً من أحواله . والحاصل أن الألفاظ قوالب للمعاني المستفادة منها فتارة تستفاد منها من جهة النطق تصريحاً وتارة من جهته تلويحاً فالأول المنطوق والثاني المفهوم . والمنطوق ينقسم إلى قسمين : الأول ما لا يحتمل التأويل وهو النص والثاني ما يحتمله وهو الظاهر . والأول أيضاً ينقسم إلى قسمين : صريح إن دل عليه اللفظ بالمطابقة أو التضمن وغير صريح إن دل عليه بالالتزام . وغير الصريح ينقسم إلى دلالة اقتضاء وإيماء وإشارة فدلالة الاقتضاء هي إذا توقف الصدق أو الصحة العقلية أو الشرعية عليه مع كون ذلك مقصود التكلم . ودلالة الإيماء أن يقترن اللفظ بحكم لو لم يكن للتعليل لكان بعيداً وسيأتي بيان هذا في القياس . ودلالة الإشارة حيث لا يكون مقصوداً للمتكلم . والمفهوم ينقسم إلى مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة . فمفهوم الموافقة حيث يكون المسكوت عنه موافقاً للملفوظ به فإن كان أولى بالحكم من المنطوق به فيسمى فحوى الخطاب وإن كان مساوياً له فيسمى لحن الخطاب . وحكى الماوردي والروياني في الفرق بين فحوى الخطاب ولحن الخطاب وجهين : أحدهما أن الفحوى ما نبه عليه اللفظ واللحن ما لاح في اللفظ . وثانيهما أن الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه واللحن ما دل على مثله وقال القفال أن فحوى الخطاب ما دل المظهر على المسقط واللحن ما يكون محالاً على غير المراد والأولى ما ذكرناه أولاً . وقد شرط بعضهم في مفهوم الموافقة أن يكون أولى من المذكور وقد نقله إمام الحرمين الجويني في البرهان عن الشافعي وهو ظاهر كلام الشيخ أبي إسحاق الشيرازي ونقله الهندي عن الأكثرين . وأما الغزالي وفخر الدين الرازي وأتباعهما فقد جعلوه قسمين : تارة يكون أولى وتارة يكون مساوياً وهو الصواب فجعلوا شرطه أن لا يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة للحكم من المعنى المنطوق به قال الزركشي وهو ظاهر كلام الجمهور من أصحابنا وغيرهم . وقد اختلفوا في دلالة النص على مفهوم الموافقة هل هي لفظية أو قياسية على قولين حكاهما الشافعي في الأمر وظاهر كلامه ترجيح أنه قياس ونقله الهندي في النهاية عن الأكثرين قال الصيرفي ذهبت طائفة جلة سيدهم الشفاعي إلى أن هذا هو القياس الجلي وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع إنه الصحيح وجرى عليه القفال الشاشي فذكره في أنواع القياس قال سليم الرازي الشافعي يومئ إلى أنه قياس جلي لا يجوز ورود الشرع بخلافه قال وذهب المتكلمون بأسرهم الأشعرية والمعتزلة إلى أنه مستفاد من النطق وليس بقياس قال الشيخ أبو حامد الإسفرائني الصحيح من المذاهب أنه جار مجرى النطق لا مجرى دلالة النص لكن دلالته لفظية . ثم اختلفوا فقيل إن المنع من التأفيف منقول بالعرف عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى وقيل إنه فهم بالسياق والقرائن وعليه المحققون من أهل هذا القول كالغزالي وابن القشيري والآمدي وابن الحاجب والدلالة عندهم مجازية من باب إطلاق الأخص وإرادة الأعم قال الماوردي والجمهور على أن دلالته من جهة اللغة لا من القياس . قال القاضي أبو بكر الباقلاني القول بمفهوم الموافقة من حيث الجملة مجمع عليه قال ابن رشد لا ينبغي للظاهرية أن يخالفوا في مفهوم الموافقة لأنه من باب السمع والذي رد ذلك يرد نوعاً من الخطاب قال الزركشي وقد خالف فيه ابن حزم قال ابن تيمية وهو مكابرة . المسألة الثانية : مفهوم المخالفة وهو حيث يكون السكوت عنه مخالفاً للمذكور في الحكم إثباتاً ونفياً فيثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق به ويسمى دليل الخطاب لأن دليله من جنس الخطاب أو لأن الخطاب دال عليه . قال القرافي وهل المخالفة بين المنطوق والمسكوت بضد الحكم المنطوق به أو نقيضه الحق الثاني . ومن تأمل المفهومات وجدها كذلك . وجميع مفاهيم المخالفة حجة عند الجمهور إلا مفهوم اللقب ، وأنكر أبو حنيفة الجميع وحكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع عن القفال الشاشي وأبي حامد المروزي وأما الأشعري فقال القاضي إن النقلة نقلوا عنه القول بالمفهوم كما نقلوا عنه نفي صيغ العموم وقد أضيف إليه خلاف ذلك وأنه قال بمفهوم الخطاب وذكر شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتاب السير أنه ليس بحجة في خطابات الشرع وأما في مصطلح الناس وعرفهم فهو حجة وعكس ذلك بعض المتأخرين من الشافعية فقال هو حجة في كلام الله ورسوله وليس بحجة في كلام المصنفين وغيرهم كذا حكاه الزركشي . واختلف المثبتون للمفهوم في مواضع . أحدها : هل هو حجة من حيث اللغة أو الشرع ؟ وفي ذلك وجهان : للشافعية حكاهما الماوردي والروياني قال ابن السمعاني والصحيح أنه حجة من حيث اللغة وقال الفخر الرازي لا يدل على النفي بحسب اللغة لكنه يدل عليه بسحب العرف العام وذكر في المحصول في باب العموم أنه يدل عليه العقل . الموضع الثاني : اختلفوا أيضاً في تحقيق مقتضاه أنه هل يدل على نفي الحكم عما عدا المنطوق به مطلقاً سواء كان من جنس المثبت أو لم يكن أو تختص دلالته بما إذا كان من جنسه فإذا قال في الغنم السائمة الزكاة فهل نفى الزكاة عن المعلوفة مطلقاً سواء كانت من الإبل أو البقر أو الغنم أو هو مختص بالمعلوفة من الغنم وفي ذلك وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد الإسفرائني والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وابن السمعاني والفخر الرازي قال الشيخ أبو حامد والصحيح تخصيصه بالنفي عن معلوفة الغنم فقط . قلت هو الصواب . الموضع الثالث : هل المفهوم المذكور يرتقي إلى أن يكون دليلاً قاطعاً أو لا يرتقي إلى ذلك قال إمام الحرمين الجويني إنه يكون قطعياً وقيل لا . الموضع الرابع : إذا دل الدليل على إخراج صورة من صور المفهوم فهل يسقط المفهوم بالكلية أو يتمسك في البقية ؟ وهذا يمشي على الخلاف في حجية العموم إذا خص وقد تقدم الكلام في ذلك . الموضع الخامس : هل يجب العمل به قيل البحث عما يوافقه أو يخالفه من منطوق أو مفهوم آخر ؟ فقيل حكمه حكم العمل بالعام قبل البحث عن المخصص وحكى القفال الشاشي في ذلك وجهين : المسألة الثالثة : للقول بمفهوم المخالفة شروط : الأول : أن لا يعارضه ما هو أرجح منه من منطوق أو مفهوم موافقة وأما إذ عارضه قياس فلم يجوز القاضي أبو بكر الباقلاني ترك المفهوم به مع تجويزه ترك العموم بالقياس كذا قال ولا شك أن القياس المعمول به يخصص عموم المفهوم كما يخصص عموم المنطوق وإذا تعارضا على وجه لا يمكن الجمع بينهما وكان كل واحد منهما معمولاً به فالمجتهد لا يخفي عليه الراجح منهما من المرجوح وذلك يختلف باختلاف المقامات وبما يصاحب كل واحد منهما من القرائن المقوية له . قال شارح اللمع دليل الخطاب إنما يكون حجة إذا لم يعارضه ما هو أقوى منه كالنص والتنبيه فإن عارضه أحدهما سقط وإن عارضه عموم صح التعلق بعموم دليل الخطاب على الأصح وإن عارضه قياس جلي قدم القياس وأما الخفي فإن جعلناه حجة كالنطق قدم دليل الخطاب وإن جعلناه كالقياس فقد رأيت بعض أصحابنا يقدمون كثيراً القياس في كتب الخلاف والذي يقتضيه المذهب أنهما يتعارضان . الشرط الثاني : أن لا يكون المذكور قصد به الامتنان كقوله تعالى : لتأكلوا منه لحماً طرياً فإنه لا يدل على منع أكل ما ليس بطري . الشرط الثالث : أن لا يكون المنطوق خرج جواباً عن سؤال متعلق بحكم خاص ولا حادثة خاصة بالمذكور هكذا قيل ولا وجه لذلك فإنه لا اعتبار بخصوص السبب ولا بخصوص السؤال وقد حكى القاضي أبو يعلى في ذلك احتمالين قال الزركشي ولعل الفرق يعني عموم اللفظ وعموم المفهوم أن دلالة المفهوم ضعيفة تسقط بأدنى قرينة بخلاف اللفظ العام . قلت وهذا فرق قوي لكنه إنما يتم في المفاهيم التي دلالتها ضعيفة أما المفاهيم التي دلالتها قوية قوة تلحقها بالدلالات اللفظية فلا . قال ومن أمثلته قوله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة فلا مفهوم للأضعاف لأنه جاء على النهي عما كانوا يتعاطونه بسبب الآجال كان الواحد منهم إذا حل دينه يقول إما أن تعطي وإما أن تربي فيتضاعف بذلك أصل دينه مراراً كثيرة فنزلت الآية على ذلك . الشرط الرابع : أن لا يكون المذكور قصد به التفخيم وتأكيد الحال كقوله صضص لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد الحديث فإن التقييد بالإيمان لا مفهوم له وإنما ذكر لتفخيم الأمر . الشرط الخامس : أن يذكر مستقلاً فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له كقوله تعالى : ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد فإن قوله في المساجد لا مفهوم له لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقاً . الشرط السادس : أن لا يظهر من السياق قصد التعميم فإن ظهر فلا مفهوم له كقوله تعالى والله على كل شيء قدير للعلم بأن الله سبحانه قادر على المعدوم والممكن وليس بشيء فإن المقصود بقوله على كل شيء التعميم . الشرط السابع : أن لا يعود على أصله الذي هو المنطوق بالإبطال أما لو كانت كذلك فلا يعمل به . الشرط الثامن : أن لا يكون قد خرج مخرج الأغلب كقوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم فإن الغالب كون الربائب في الحجور فقيد به لذلك لا لأن حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه ونحو ذلك كثير في الكتاب والسنة . المسألة الرابعة : في أنواع مفهوم المخالفة : النوع الأول : مفهوم الصفة ، وهي تعليق الحكم على الذات بأحد الأوصاف نحو في سائمة الغنم زكاة والمراد بالصفة عند الأصوليين تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختص ببعض معانيه ليس بشرط ولا غاية ولا يريدون به النعت فقط وهكذا عند أهل البيان فإن المراد بالصفة عندهم هي المعنوية لا النعت وإنما يخص الصفة بالنعت أهل النحو فقط وبمفهوم الصفة أخذ الجمهور وهو الحق لما هو معلوم من لسان العرب أن الشيء إذا كان له وصفان فوصف بأحدهما دون الآخر كان المراد به ما فيه تلك الصفة دون الآخر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه وبعض الشافعية والمالكية إنه لا يؤخذ به ولا يعمل عليه ووافقهم من أئمة اللغة الأخفش ابن فارس وابن جني . وقال المازري من الشافعية بالتفصيل بين أن يقع ذلك جواب سائل فلا يعمل به وبين أن يقع ابتداء فيعمل به فإنه لا بد لتخصيصه بالذكر من موجب وفي جعل هذا التفصيل مذهباً مستقلاً نظر فإنه قد تقدم أن من شرط الأخذ بالمفهوم عند القائلين به أن لا يقع جواباً لسؤال . وقال أبو عبد الله البصري إنه حجة في ثلاث صور أن يرد مورد البيان كقوله في سائمة الغنم الزكاة أو مورد التعليم كقوله صضص في خبر التحالف والسلعة قائمة أو يكون ما عدا الصفة داخلاً تحت الصفة كالحكم بالشاهدين فإنه يدل على أنه لا يحكم بالشاهد الواحد لأن الداخل تحت الشاهدين ولا يدل على نفي الحكم فيما سوى ذلك وقال إمام الحرمين الجويني بالتفصيل بين الوصف المناسب وغيره فقال بمفهوم الأول دون الثاني وعليه يحمل نقل الرازي عنه للمنع ونقل ابن الحاجب عنه للجواز ، وقد طول أهل الأصول الكلام على استدلال هؤلاء المختلفين لما قالوا به وليس في ذلك حجة واضحة لأن المبحث لغوي واستعمال أهل اللغة والشرع لمفهوم الصفة وعملهم به معلوم لكل من له علم بذلك . النوع الثاني : مفهوم العلة وهو تعليق الحكم بالعلة نحو حرمت الخمر لإسكارها والفرق بين هذا النوع والنوع الأول أن الصفة قد تكون علة كالإسكار وقد لا تكون علة بل متممة كالسوم فإن الغنم هي العلة والسوم متمم لها قال القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والخلاف فيه وفي مفهوم الصفة واحد . النوع الثالث : مفهوم الشرط ، والشرط في اصطلاح المتكلمين ما يتوقف عليه المشروط ولا يكون داخلاً في المشروط ولا مؤثراً فيه وفي اصطلاح النحاة ما دخل عليه أحد الحرفين إن أو إذا أو ما يقوم مقامهما مما يدل على سببية الأول ومسببية الثاني وهذا هو الشرط اللغوي وهو المراد هنا لا الشرعي ولا العقلي وقد قال به القائلون بمفهوم الصفة ووافقهم على القول به بعض من خالف في مفهوم الصفة ولهذا نقله أبو الحسين السهيلي في آداب الجدل عن أكثر الحنفية . ونقله ابن القشيري عن معظم أهل العراق ونقله إمام الحرمين عن أكثر العلماء وذهب أكثر المعتزلة كما نقله عنهم صاحب المحصول إلى المنع من الأخذ به ، ورجح المنع المحققون من الحنفية وروي عن أبي حنيفة ، ونقله ابن التلمساني عن مالك . واختاره القاضي أبو بكر الباقلاني والغزالي والآمدي وقد بالغ إمام الحرمين في الرد على المانعين ولا ريب أنه قول مردود وكل ما جاؤوا به لا تقوم به الحجة والأخذ به معلوم من لغة العرب والشرع فإن من قال لغيره إن أكرمتني أكرمتك ومتى جئتني أعطيتك ونحو ذلك مما لا ينبغي أن يقع فيه خلاف بين كل من يفهم لغة العرب وإنكار ذلك مكابرة وأحسن ما يقال لمن أنكره عليك بتعلم لغة العرب فإن إنكارك لهذا يدل على أنك لا تعرفها . النوع الرابع : مفهوم العدد وهو تعليق الحكم بعدد مخصوص فإنه يدل على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك العدد زائداً كان أو ناقصاً وقد ذهب إليه الشافعي كما نقله عنه أبو حامد وأبو الطيب الطبري والماوردي وغيرهم ونقله أبو الخطاب الحنبلي عن أحمد بن حنبل وبه قال مالك وداود الظاهري وبه قال صاحب الهداية من الحنفية ومنع من العمل به المانعون بمفهوم الصفة . قال الشيخ أبو حامد وابن السمعاني وهو دليل كالصفة سواء . والحق ما ذهب إليه الأولون والعمل به معلوم من لغة العرب ومن الشرع فإن من أمر بأمر وقيده بعدد مخصوص فزاد المأمور على ذلك العدد أو نقص عنه فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص كان هذا الإنكار مقبولاً عند كل من يعرف لغة العرب . فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به مع كونه نقص عنه أو زاد عليه كانت دعواه هذه مردودة عنه كل من يعرف لغة العرب . النوع الخامس : مفهوم الغاية وهو مد الحكم بإلى أو حتى وغاية الشيء آخره وإلى العمل به ذهب الجمهور وبه قال بعض من لم يعمل بمفهوم الشرط كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي والقاضي عبد الجبار وأبي الحسين قال ابن القشيري وإليه ذهب معظم نفاة المفهوم وكذا قال القاضي أبو بكر حاكياً لذلك . وحكى ابن برهان وصاحب المعتمد الاتفاق عليه قال سليم الرازي لم يختلف أهل العراق في ذلك وقال القاضي في التقريب صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية قال لهذا أجمعوا على تسميتها غاية وهذا من توقيف اللغة معلوم فكان بمنزلة قولهم تعليق الحكم بالغاية موضوع للدلالة على أن ما بعدها بخلاف ما قبلها انتهى . ولم يخالف في ذلك إلا طائفة من الحنفية والآمدي ولم يتمسكوا بشيء يصلح للتمسك به قط بل صمموا على منعه طرداً لباب المنع من العمل بالمفاهيم وليس ذلك بشيء . النوع السادس : مفهوم اللقب وهو تعليق الحكم بالاسم العلم نحو قام زيد أو اسم النوع نحو في الغنم زكاة ولم يعمل به أحد إلا أبو بكر الدقاق كذا قيل ، وقال سليم الرازي في التقريب صار إليه الدقاق وغيره من أصحابنا يعني الشافعية وكذا حكاه عن بعض الشافعية ابن فورك ثم قال وهو الأصح قال الكيا الطبري في التلويح إن ابن فورك كان يميل إليه وحكاه السهيلي في نتائج الفكر عن أبي بكر الصيرفي ونقله عبد العزيز في التحقيق عن أبي حامد المروزي . قال الزركشي والمعروف عن أبي حامد إنكار القول بالمفهوم مطلقاً وقال إمام الحرمين الجويني في البرهان وصار إليه الدقاق وصار إليه طوائف من أصحابنا ونقله أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد عن منصوص أحمد قال وبه قال مالك وداود وبعض الشافعية انتهى . ونقل القول به عن ابن خوازمنداد والباجي وابن القصار ، وحكى ابن برهان في الوجيز التفصيل عن بعض الشافعية وهو أنه يعمل به في أسماء الأنواع لا في أسماء الأشخاص ، وحكى ابن حمدان وأبو يعلى من الحنابلة تفصيلاً آخر وهو العمل بما دلت عليه القرينة دون غيره . والحاصل أن القائل به كلاً أو بعضاً لم يأت بحجة لغوية ولا شرعية ولا عقلية ومعلوم من لسان العرب أن من قال رأيت زيداً لم يقتض أنه لم ير غيره قطعاً وأما إذا دلت القرينة على العمل به فذلك ليس إلا للقرينة فهو خارج عن محل النزاع . النوع السابع : مفهوم الحصر وهو أنواع أقواها : ما وإلا نحو : ما قام إلا زيد . وقد وقع الخلاف فيه هل هو من قبيل المنطوق أو المفهوم وبكونه منطوقاً جزم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في الملخص ورجحه القرافي في القواعد وذهب الجمهور إلى أنه من قبيل المفهوم وهو الراجح والعمل به معلوم من لغة العرب ولم يأت من لم يعمل به بحجة مقبولة . ثم الحصر بإنما وهو قريب مما قبله في القوة . قال الكيا الطبري وهو أقوى من مفهوم الغاية وقد نص عليه الشافعي في الأم وصرح هو وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي بما وإلا وذهب ابن سريج وأبو حامد المروزي أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل بما تضمنه من الاحتمال وقد وقع الخلاف هل هو منطوق أو مفهوم والحق أنه مفهوم وأنه معمول به كما يقتضيه لسان العرب ثم حصر المبتدأ في الخبر وذلك بأن يكون معرفاً باللام أو الإضافة نحو العالم زيد وصديقي عمرو فإنه يفيد الحصر إذ المراد بالعالم وبصديقي هو الجنس فيدل على العموم إذ لم تبن هناك قرينة تدل على العهد فهو يدل على نفي العلم من غير زيد ونفي الصداقة من غير عمرو وذلك أن الترتيب الطبيعي أن يقدم الموصوف علىالوصف فإذا قدم الوصف على الموصوف معرفاً باللام أو الإضافة أفاد العدول مع ذلك التعريف أن نفي ذلك الوصف عن غير الموصوف مقصود للمتكلم وقيل إنه يدل على ذلك بالمنطوق . والحق أن دلالته مفهومية لا منطوقية وإلى ذلك ذهب جماعة من الفقهاء والأصوليين ومنهم إمام الحرمين الجويني والغزالي وأنكره جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والآمدي وبعض المتكلمين والكلام في تحقيق أنواع الحصر محرر في علم البيان وله صور غير ما ذكرناه هاهنا وقد تتبعتها من مؤلفاتهم ومن مثل كشاف الزمخشري وما هو على نمطه فوجدتها تزيد على خمسة عشر نوعاً وجمعت في تقرير ذلك بحثاً . النوع الثامن : مفهوم الحال أي تقييد الخطاب بالحال ، وقد عرفت أنه من جملة مفاهيم الصفة لأن المراد الصفة المعنوية لا النعت ، وإنما أفردناه بالذكر تكميلاً للفائدة . قال ابن السمعاني ولم يذكره المتأخرون لرجوعه إلى الصفة وقد ذكره سليم الرازي في التقريب و ابن فورك . النوع التاسع : مفهوم الزمان كقوله تعالى : الحج أشهر معلومات وقوله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وشيخه وهو في التحقيق داخل في مفهوم الصفة باعتبار متعلق الظرف المقدر كما تقرر في علم العربية . النوع العاشر : مفهوم المكان نحو جلست أمام زيد وهو حجة عند الشافعي كما نقله الغزالي وفخر الدين الرازي ومن ذلك لو قال بع في مكان كذا فإنه يتعين وهو أيضاً راجع إلى مفهوم الصفة لما عرفت في النوع الذي قبله .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

الباب التاسع من المقصد الرابع في النسخ

المسألة الأولى : في حده وهو في اللغة الإبطال والإزالة ومنه نسخت الشمس الظل والريح آثار القدم ومنه تناسخ القرون وعليه اقتصر العسكري ويطلق ويراد به النقل والتحويل ومنه نسخت الكتاب أي نقلته ومن قوله تعالى : إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ومنه تناسخ المواريث ثم اختلفوا هل هو حقيقة في المعنيين أم في أحدهما دون الآخر فحكى الصفي الهندي عن الأكثرين أنه حقيقة في الإزالة مجاز في النقل وقال القفال الشاشي إنه حقيقة في النقل . وقال القاضي أبو بكر الباقلاني والقاضي عبد الوهاب والغزالي إنه حقيقة فيهما مشترك بينهما لفظاً لاستعماله فيهما ، وقال ابن المنبر في شرح البرهان إنه مشترك بينهما اشتراكاً معنوياً لأن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب مقداراً مشتركاً وهو الرفع وهو في الظل بين لأنه زال بضده وفي نسخ الكتاب متعذر من حيث إن الكلام المنسوخ بالكتابة لم يكن مستفاداً إلا من الأصل فكان للأصل بالإفادة خصوصية فإذا نسخ الأصل ارتفعت تلك الخصوصية وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع وقيل القدر المشترك بينهما هو التغيير وقد صرح به الجوهري . قال في المحصول فإن قيل وصفهم الريح بأنها ناسخة للآثار والظل هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة في مدلوله ثم نعارض ما ذكرتموه ونقول النسخ هو النقل والتحويل ومنه نسخ الكتاب إلى كتاب آخر كأنك تنقله إليه أو تنقل حكايته ومنه تناسخ الأرواح وتناسخ القرون قرناً بعد قرن وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً عن الأول فوجب أن يكون اللفظ حقيقة في النقل ويلزم أن لا يكون حقيقة في الإزالة دفعاً للاشتراك وعليكم الترجيح . الجواب عن الأول من وجهين . أحدهما : أنه لا يمتنع أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث فعل الشمس والريح المؤثرين . فهب أنه كذلك لكن متمسكنا إطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لا إسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس . وعن الثاني أنه النقل أخص من الزوال لأنه حيث وجد النقل فقد عدمت صفة حصلت عقيبها صفة أخرى فإذا مطلق العدم أعم من عدم تحصل شيء آخر عقيبة وإذا اللفظ بين العام والخاص كان جعله حقيقة في العام أولى من جعله حقيقة في الخاص على ما تقدم تقريره في كتاب اللغات انتهى . وأما في الاصطلاح فقال جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني والصيرفي والشيخ أبو إسحاق الشيرازي والغزالي والآمدي وابن الأنباري وغيرهم هو الخطاب الدال على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب المتقدم على وجه لولاه لكان ثابتاً مع تراخيه عنه ، وإنما آثروا الخطاب على النص ليكون شاملاً للفظ والفحوى والمفهوم فإنه يجوز نسخ جميع ذلك . وقالوا الدال على ارتفاع الحكم ليتناول الأمر والنهي والخبر وجميع أنواع الحكم وقالوا بالخطاب المتقدم ليخرج إيجاب العبادات ابتداء فإنه يزيل حكم العقل ببراءة الذمة ولا يسمى نسخاً لأنه لم يزل حكم خطاب . وقالوا على وجه لولاه لكان ثابتاً لأن حقيقة النسخ الرفع وهو إنما يكون رافعاً لو كان المتقدم بحيث لولا طريانه لبقي . وقالوا مع تراخيه عنه لأنه لو اتصل لكان بياناً لمدة العبادة لا نسخاً . وقد اعترض على هذا الحد بوجوه . الأول : أن النسخ هو نفس الارتفاع والخطاب إنما هو دال على الارتفاع وفرق بين الرافع وبين نفس الارتفاع . الثاني : أن التقييد بالخطاب خطأ لأن النسخ قد يكون فعلاً كما يكون قولاً . الثالث : أن الأمة إذا اختلفت على قولين ثم أجمعت بعد ذلك على أحدهما فهذا الإجماع خطاب مع أن الإجماع لا ينسخ به . الرابع : أن الحكم الأول قد يثبت بفعل النبي صضص وليس هو الخطاب . قال الرازي في المحصول والأولى أن يقال الناسخ طريق شرعي يدل على أن مثل الحكم الذي كان ثابتاً بطريق شرعي لا يوجد بعد ذلك مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتاً . وفيه أن قوله مثل الحكم الذي الخ يشمل ما كان مماثلاً له في وجه من الوجوه فلا يتم النسخ لحكم إلا برفع جميع المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلات له في شيء مما يصح عنده إطلاق المماثلة عليه وقال الزركشي المختار في حده اصطلاحاً أنه رفع الحكم الشرعي بخطاب وفيه أن الناسخ قد يكون فعلاً لا خطاباً وفي أيضاً أنه أهمل تقييده بالتراخي ولا يكون نسخ إلا به . وقال ابن الحاجب في مختصر المنتهى إنه في الاصطلاح رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر . واعترض عليه بأن الحكم راجع إلى كلام الله سبحانه وهو قديم والقديم لا يرفع ولا يزول . وأجيب بأن المرفوع تعلق الحكم بالمكلف لا ذاته ولا تعلقه الذاتي . وقال جماعة هو في الاصطلاح الخطاب الدال على انتهاء الحكم الشرعي مع التأخير عن موارده ويرد على قيد الخطاب ما تقدم فالأولى أن يقال هو رفع حكم شرعي بمثله مع تراخيه عنه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية : النسخ جائز عقلاً واقع سمعاً بلا خلاف في ذلك بين المسلمين إلا ما يروي عن أبي مسلم الأصفهاني فإنه قال أنه جائز غير واقع وإذا صح هذا عنه فهو دليل على أنه جاهل بهذه الشريعة المحمدية جهلاً فظيعاً وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة فإنه إنما يعتد بخلاف المجتهدين لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية . وأما الجواز فلم يحك الخلاف فيه إلا عن اليهود وليس بنا إلى نصب الخلاف بيننا وبينهم حاجة ولا هذه بأول مسألة خالفوا فيها أحكام الإسلام حتى يذكر خلافهم في هذه المسألة ولكن هذا من غرائب أهل الأصول على أنا قد رأينا في التوراة في غير موضع أن الله سبحانه رفع عنهم أحكاماً لما تضرعوا إليه وسألوا منه رفعها وليس النسخ إلا هذا ولهذا لم يحكه من له معرفة بالشريعة الموسوية إلا عن طائفة من اليهود وهم الشمعونية ولم يذكروا لهم دليلاً إلا ما ذكره بعض أهل الأصول من أن النسخ بداء والبداء ممتنع عليه وهذا مدفوع بأن النسخ لا يستلزم البداء لا عقلاً ولا شرعاً وقد جوزت الرافضة البداء عليه عز وجل لجواز النسخ وهذه مقالة توجب الكفر بمجردها . والحاصل أن النسخ جائز عقلاً واقع شرعاً من غير فرق بين كونه في الكتاب أو السنة وقد حكى جماعة من أهل العلم اتفاق أهل الشرائع عليه فلم يبق في المقام ما يقتضي تطويل المرام . وقد أو لجماعة خلاف أبي مسلم الأصفهاني المذكور سابقاً بما يوجب أن يكون الخلاف لفظياً . قال ابن دقيق العيد نقل عن بعض المسلمين إنكار النسخ لا بمعنى أن الحكم الثابت لا يرتفع بل بمعنى أنه ينتهي بنص دل على انتهائه فلا يكون نسخاً . ونقل عنه أبو إسحاق الشيرازي والفخر الرازي وسليم الرازي أنه إنما أنكر الجواز وأن خلافه في القرآن خاصة لا كما نقل عنه الآمدي وابن الحاجب أنه أنكر الوقوع . وعلى كلا التقديرين فذلك جهالة منه عظيمة للكتاب والسنة ولأحكام العقل فإنه إن اعترف بأن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع فهذا بمجرده يوجب عليه الرجوع عن قوله وإن كان لا يعلم ذلك فهو جاهل بما هو من الضروريات الدينية وإن كانا مخالفاً لكونها ناسخة للشرائع فهو خلاف كفري لا يلتفت إلى قائله . نعم إذا قال إن الشرائع المتقدمة مغياة بغاية هي البعثة المحدية وأن ذلك ليس بنسخ فذلك أخف من إنكار كونه نسخاً غير مقيد بهذا القيد . فإن قلت ما الحكمة في النسخ ؟ قلت قال الفخر الرازي في المطالب العالية إن الشرائع قسمان منها ما يعرف نفعها بالعقل في المعاش والمعاد ومنها سمعية لا يعرف الانتفاع بها إلا من السمع . فالأول يمتنع طروء النسخ عليه كمعرفة الله وطاعته أبداً ومجامع هذه الشرائع العقلية أمران التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله تعالى . قال الله تعالى : وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا . والثاني : ما يمكن طريان النسخ والتبديل عليه وهو أمور تحصل في كيفية إقامة الطاعات الفعلية والعبادات الحقيقية وفائدة نسخها أن الأعمال البدنية إذا توطئوا عليها خلفاً عن سلف صارت كالعادة عند الخلق وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها ومنعهم ذلك عن الوصول إلى المقصود وعن معرفة الله وتمجيده فإذا غير ذلك الطريق إلى نوع من الأنواع وتبين أن المقصود من هذه الأنواع رعاية أحوال القلب والأرواح في المعرفة والمحبة انقطعت الأوهام من الاشتغال بتلك الظواهر إلى علام السرائر . وقيل الحكمة أن هذا الخلق طبع على الملالة من الشيء فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا في أدائها . وقيل بيان شرف نبينا صضص فإنه نسخ بشريعته شرائعهم وشريعته لا ناسخ لها . وقيل الحكمة حفظ مصالح العبد فإذا كانت المصلحة لهم في تبديل حكم بحكم وشريعة بشريعة كان التبديل لمراعاة هذه المصلحة . وقيل الحكمة بشارة المؤمنين برفع الخدمة عنهم وبأن رفع مؤنتها عنهم في الدنيا مؤذن برفعها في الجنة وذكر الشافعي في الرسالة أن فائدة النسخ رحمة الله بعبادة والتخفيف عنهم . وأورد عليه أنه قد يكون بأثقل ويجاب عنه بأن الرحمة قد تكون بالأثقل أكثر من الأخف لما يستلزمه من تكثير الثواب والله لا يضيع عمل عامل فتكثير الثواب في الأثقل يصيره خفيفاً على العامل يسيراً عليه لما يتصوره من جزالة الجزاء . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة : للنسخ شروط الأول أن يكون المنسوخ شرعياً لا عقلياً . الثاني أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخراً عنه فإن المقترن كالشرط والصفة والاستثناء لا يسمى نسخاً بل تخصيصاً . الثالث أن يكون النسخ بشرع فلا يكون ارتفاع الحكم بالموت نسخاً بل هو سقوط تكليف . الرابع أن لا يكون المنسوخ مقيداً بوقت أما لو كان كذلك فلا يكون انقضاء وقته الذي قيد به نسخاً له . الخامس أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في القوة أو أقوى منه لا إذا كان دونه في القوة لأن الضعيف لا يزيل القوي . قال الكيا وهذا مما قضى به العقل بل دل الإجماع عليه فإن الصحابة لم ينسخوا نص القرآن بخبر الواحد وسيأتي لهذا الشرط مزيد بيان . السادس أن يكون المقتضى للمنسوخ غير المقتضى للناسخ حتى لا يلزم البداء كذا قيل . قال الكيا ولا يشترط بالاتفاق أن يكون اللفظ الناسخ متناولاً لما تناوله المنسوخ أعني بالتكرار والبقاء لا يمنع فهم البقاء بدليل آخر سوى اللفظ . السابع أن يكون مما يجوز نسخه فلا يدخل النسخ أصل التوحيد لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت . قال سليم الرازي وكل بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقت قال سليم الرازي وكل ما لا يكون إلا على صفة واحدة كمعرفة الله ووحدانيته ونحوه فلا يدخله النسخ ومن هاهنا يعلم أنه لا نسخ في الأخبار إذ لا يتصور وقوعها على خلاف ما أخبر به الصادق وكذا قال الكيا الطبري وقال الضابط فيما ينسخ ما يتغير حاله من حسن إلى قبح . قال الزركشي واعلم أن في جواز نسخ الحكم المعلق بالتأبيد وجهين حكاهما الماوردي والروياني وغيرهما . أحدهما المنع لأن صريح التأييد مانع من احتمال النسخ . والثاني الجواز قالا وأنسبهما الجواز قال ونسبه ابن برهان إلى معظم العلماء ونسبه أبو الحسين في المعتمد إلى المحققين لأن العادة في لفظ التأبيد المستعمل في لفظ الأمر المبالغة لا الدوام .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة : اعلم أنه يجوز النسخ بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به بلا خلاف قال الماوردي وسواء عمل به كل الناس كاستقبال بيت المقدس أو بعضهم كفرض الصدقة عند مناجاة الرسول ولا خلاف أيضاً في جواز النسخ بعد التمكين من الفعل الذي تعلق به الحكم بعد علمه بتكليفه به وذلك بأن يمضي من الوقت المعين ما يسع الفعل وقد حكى الخلاف في ذلك عن الكرخي وأما النسخ قبل علم المكلف بوجوب ذلك الفعل عليه كما إذا أمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن يعلم النبي صضص بوجوب شيء على الأمة ثم ينسخه قبل أن يعملوا به فحكى السمعاني في ذلك الاتفاق على المنع . قال الزركشي وليس كذلك ففي المسألة وجهان لأصحابنا حكاهما الأستاذ أبو منصور والكيا انتهى . ويرد على المنع ما ثبت في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة ثم استقرت على خمس ولا وجه لما قيل أن ذلك كان على سبيل التقرير دون النسخ قال ابن برهان في الوجيز نسخ الحكم قبل علم المكلف بوجوبه جائز عندنا ومنعت من ذلك المعتزلة وأصحاب أبي حنيفة وزعموا أن النسخ قبل العلم يتضمن تكليف المحال . قال وهذه المسألة فرع تكليف ما لا يطاق فإذا قضينا بصحته صح النسخ حينئذ . قال واحتج علماؤنا في هذه المسألة بقصة المعارج فإن الله تعالى أوجب على الأمة خمسين صلاة ثم نسخها قبل علمهم بوجوبها وهذا لا حجة فيه لأن النسخ إنما كان بعد العلم فإن رسول الله صضص أحد المكلفين وقد علم ولكنه قبل جميع الأمة وعلم الجميع لا يشترط فإن التكليف استقر بعلم رسول الله صضص فلا اعتماد على هذا الحديث ، ويجاب عنه بأن عدم علم الأمة يقتضي وقوع النسخ قبل علم المكلفين بما كلفوا به وهو محل النزاع . وحكى القاضي أبو بكر وغيره عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن مثل هذا لا يكون نسخاً وقال بعض المتأخرين نسخ الحكم قبل علم المكلف بالحكم المنسوخ اتفقت الأشاعرة على جوازه والمعتزلة على منعه . وحكى الفقهاء في المسألة طريقين : أحدهما أن للشافعي في المسألة قولين والثاني الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام التعريفية فمنعوه في الأول وجوزوه في الثاني كتكليف الغافل وهو مذهب أبي حنيفة انتهى . وأما إذا كان المكلف قد علم بوجوبه عليه ولكن لم يكن قد دخل وقته وسواء كان موسعاً كما لو قال اقتلوا المشركين غداً ثم نسخ عنهم في ذلك اليوم أو يكون على الفور ثم نسخ قبل التمكن من الفعل أو يؤمر بالعبادة مطلقاً ثم نسخ قبل مضي وقت يمكن فعلها فيه فذهب الجمهور إلى الجواز ونقله ابن برهان عن الأشعرية وجماعة من الحنفية ونقله غيرهم عن معتزلة البصرة قال القاضي في التقريب وهو قول جميع أهل الحق ، وذهب أكثر الحنفية كما قاله ابن السمعاني والحنابلة والمعتزلة إلى المنع وبه قال الكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي والصيرفي ، احتج الجمهور بأنه لا مانع من ذلك لا عقلاً ولا شرعاً مع أن المقتضى موجود وهو أنه رفع تكليف قد ثبت على المكلف فكان نسخاً وليس في ذلك ما يستلزم البداء ولا المحال لأن المصلحة التي جاز النسخ لأجلها بعد التمكن من الفعل وبعد دخول الوقت يصح اعتبارها قبل التمكن من الفعل وقبل دخول الوقت للقطع بأن تبديل حكم بحكم ورفع شرع بشرع كان فيهما وأما إذا كان قد دخل وقت المأمور به لكن وقع نسخه قبل فعله إما لكونه موسعاً أو لكونه أراد أن يشرع فيه فنسخ فقال سليم الرازي وابن الصباغ إنه لا خلاف بين أهل العلم في جوازه وجعلوا صورة الخلاف فيما إذا كان النسخ قبل دخول الوقت وكذا نقل الإجماع في هذه الصورة ابن برهان وبعض الحنابلة والآمدي وبه صرح إمام الحرمين في البرهان وأما إذا كان قد دخل وقته وشرع في فعله فنسخ قبل تمام الفعل فقال القرافي لم أر فيه نقلاً وجعلها الأصفهاني في شرح المحصول من صور الخلاف فمن قال بالجواز جوز هذه الصورة ومن قال بالمنع منعها ، وأما إذا وقع النسخ بعد خروج الوقت قبل الفعل قال الزركشي فمقتضى استدلال ابن الحاجب أنه يمتنع بالاتفاق ووجهه بأن التكليف بذلك الفعل المأمور به بعد مضي وقته ينتفي لانتفاء الوقت وإذا انتفى فلا يمكن رفعه لامتناع رفع المعدوم لكن صرح الآمدي في الأحكام بالجواز وأنه لا خلاف فيه قيل ولا يتأتى إلا إذا صرح بوجوب القضاء أو على القول بأن الأمر بالأداء يستلزم القضاء . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة : إنه لا يشترط في النسخ أن يخلفه بدل وإليه ذهب الجمهور وهو الحق الذي لا سترة به فإنه قد وقع النسخ في هذه الشريعة المطهرة لأمور معروفة لا إلى بدل ، ومن ذلك نسخ تقديم الصدقة بين يدي مناجاة الرسول ونسخ ادخار لحوم الأضاحي ونسخ تحريم المباشرة بقوله سبحانه : فالآن باشروهن ونسخ قيام الليل في حقه صضص ، وأما ما تمسك به المخالفون وهم بعض المعتزلة وقيل كلهم والظاهرية من قوله سبحانه : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها فلا دلالة في ذلك على محل النزاع فإن المراد نسخ لفظ الآية كما يدل على ذلك قوله : نأت بخير منها أو مثلها فليس لنسخ الحكم ذكر في الآية ولو سلمنا لجاز أن يقال إن إسقاط ذلك الحكم خير من ثبوته في ذلك الوقت وقد نص الشافعي في الرسالة على أنه يختار ما ذهب إليه القائلون باشتراط البدل فقال وليس ينسخ فرض أبداً إلا أثبت مكانه فرض كما نسخت قبلة بيت المقدس فأثبت مكانها الكعبة قال وكل منسوخ في كتاب الله وسنته صضص هكذا . قال الصيرفي وأبو إسحاق إنما أراد الشافعي بهذه العبارة أنه ينقل من حظر إلى إباحة من إباحة إلى حظر أو يخبر على حسب أحوال المفروض كما في المناجاة فإنه كان يناجي النبي صضص بلا تقديم صدقة ثم فرض الله تقديم الصدقة ثم أزال ذلك فردهم على ما كانوا عليه وهذا الحمل هو الذي ينبغي تفسير كلام الشافعي به فإن مثله لا يخفي عليه وقوع النسخ في هذه الشريعة بلا بدل ولا شك في أنه يجوز ارتفاع التكليف بالشيء والنسخ مثله لأنه رفع تكليف ولم يمنع من ذلك شرع ولا عقل بل دل الدليل على الوقوع . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة : النسخ إلى بدل يقع على وجوه الأول أن يكون الناسخ مثل المنسوخ في التخفيف والتغليظ وهذا لا خلاف فيه وذلك كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة . الثاني : نسخ الأغلظ بالأخف وهو أيضاً مما لا خلاف فيه وذلك كنسخ العدة حولاً بالعدة أربعة أشهر وعشراً . الثالث : نسخ الأخف إلى الأغلظ فذهب الجمهور إلى جوازه خلافاً للظاهرية والحق الجواز والوقوع كما في نسخ وضع القتال في أول الإسلام بفرضه بعد ذلك ونسخ التخيير بين الصوم والفدية بفرضية الصوم . ونسخ تحليل الخمر بتحريمها . ونسخ نكاح المتعة بعد تجويزها . ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان . واستدل المانعون بقوله : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وبقوله ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها وأجيب بأن المراد اليسر في الآخرة وهذا الجواب وإن كان بعيداً لكن وقوع النسخ في هذه الشريعة للأخف بالأغلظ يوجب تأويل الآية ولو بتأويل بعيد على أنه يمكن أن يقال إن الناسخ والمنسوخ هما من اليسر والأغلظية في الناسخ إنما هي بالنسبة إلى المنسوخ وهو بالنسبة إلى غيره تخفيف ويسر . وأما الجواب عن الآية الثانية فظاهر لأن الناسخ الأغلظ ثوابه أكثر فهو خير من المنسوخ من هذه الحيثية . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة : في جواز نسخ الأخبار وفيه تفصيل وهو أن يقال إن كان خبراً عما لا يجوز تغيره . كقولنا العالم حادث فهذا لا يجوز نسخه بحال ، وإن كان خبراً عما يجوز تغيره فإما أن يكون ماضياً أو مستقبلاً والمستقبل إما أن يكون وعداً أو وعيداً أو خبراً عن حكم كالخبر عن وجوب الحج فذهب الجمهور إلى جواز النسخ لهذا الخبر بجميع هذه الأقسام . وقال أبو علي وأبو هاشم لا يجوز النسخ لشيء منها قال في المحصول وهو قول أكثر المتقدمين ، استدل الجمهور على الجواز أن الخبر إن كان عن أمر ماض كقوله عمرت نوحاً ألف سنة جاز أن يبين من بعد أنه عمره ألف سنة إلا خمسين عاماً وإن كان مستقبلاً وكان وعداً أو وعيداً كقوله لأعذبن الزاني أبدا فيجوز أن يبين من بعد أنه أراد ألف سنة وإن كان خبراً عن حكم الفعل في المستقبل كان الخبر كالأمر في تناوله الأوقات المستقبلة فصح إطلاق الكل مع إرادة البعض لما تناوله بموضوعه . قال الزركشي إن كان مدلول الخبر مما لا يمكن تغيره بأن لا يقع إلا على وجه واحد كصفات الله وخبر ما كان من الأنبياء والأمم وما يكون من الساعة وآياتها كخروج الدجال فلا يجوز نسخه بالاتفاق كما قاله أبو إسحاق المروزي وابن برهان في الأوسط لأنه يفضي إلى الكذب وإن كان مما يصح تغيره بأن يقع على الوجه المخبر عنه ماضياً كان أو مستقبلاً وعداً أو وعيداً أو خبراً عن حكم شرعي فهو موضوع الخلاف فذهب أبو عبد الله وأبو الحسين البصريان وعبد الجبار والفخر الرازي إلى جوازه مطلقاً ونسبه ابن برهان في الأوسط إلى المعظم وذهب جماعة إلى المنع منهم أبو بكر الصيرفي كما رأيته في كتابه وأبو إسحاق المروزي كما رأيته في كتابه في الناسخ والمنسوخ والقاضي أبو بكر وعبد الوهاب والجبائي وابنه أبو هاشم وابن السمعاني وابن الحاجب وقال الأصفهاني إنه الحق ومنهم من فصل ومنع من الماضي لأنه يكون تكذيباً دون المستقبل لجريانه مجرى الأمر والنهي فيجوز أن يرفع لأن الكذب يختص بالماضي ولا يتعلق بالمستقبل ، قال الشافعي لا يجب الوفاء بالوعد وإنما يسمى من لم يف بالوعد مخلفاً لا كاذباً وهذا التفصيل جزم به سليم وجرى عليه البيضاوي في المنهاج وسبقهما إليه أبو الحسين بن القطان . أقول والحق منعه في الماضي مطلقاً وفي بعض المستقبل وهو الخبر بالوعد لا بالوعيد ولا بالتكليف أما التكليف فظاهر لأنه رفع حكم عن مكلف وأما بالوعيد فلكونه عفواً لا يمتنع من الله سبحانه بل هو حسن يمدح فاعله من غيره ويمتدح به في نفسه وأما الماضي فهو كذب صراح إلا أن يتضمن تخصيصاً أو تقييداً أو تبييناً لما تضمنه الخبر الماضي فليس بذلك بأس ، وهذه المسألة لها إلمام بمسألة الحسن والقبح المتقدم ذكرها في بعض أطرافها دون بعض ، وقد استدل المانعون مطلقاً باستلزام ذلك الكذب وهو استدلال باطل فإن ذلك الاستلزام إنما هو في بعض الصور كما عرفت لا في كلها وقد نقل أبو الحسين في المعتمد عن شيوخ المعتزلة منع النسخ في الوعد والوعيد . قال الزركشي وأما عندنا فكذلك في الوعد لأنه إخلاف والخلف في الأنعام يستحيل على الله وبه صرح الصيرفي في كتابه وأما في الوعيد فنسخه جائز كما قال ابن السمعاني قال ولا يعد ذلك خلفاً بل عفواً وكرماً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثامنة : في نسخ التلاوة دون الحكم والعكس ونسخهما معاً وقد جعل أبو إسحاق المروزي وابن السمعاني وغيرهما ذلك ستة أقسام : الأول : ما نسخ حكمه وبقي رسمه كنسخ آية الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ونسخ العدة حولاً بالعدة أربعة أشهر وعشراً فالمنسوخ ثابت التلاوة والحكم وإلى جواز ذلك ذهب الجمهور بل ادعى بعضهم الإجماع عليه ، وقد حكى جماعة من الحنفية والحنابلة عدم الجواز عن بعض أهل الأصول قالوا لأنه إذا انتفى الحكم فلا فائدة في التلاوة وهذا قصور عن معرفة الشريعة وجهل كبير بالكتاب العزيز فإن المنسوخ حكمه الباقية تلاوته في الكتاب العزيز مما لا ينكره من له أدنى قدم في العلم . الثاني : ما نسخ حكمه ورسمه وثبت حكم الناسخ ورسمه كنسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة ونسخ صيام عاشوراء بصيام رمضان قال أبو إسحاق المروزي ومنهم من جعل القبلة من نسخ السنة بالقرآن وزعم أن استقبال بيت المقدس بالسنة لا بالقرآن . الثالث : ما نسخ حكمه وبقي رسمه ورفع رسم الناسخ وبقي حكمه كقوله تعالى : فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا بقوله تعالى : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله وقد ثبت في الصحيح أن هذا كان قرآناً يتلى ثم نسخ لفظه وبقي حكمه . الرابع : ما نسخ حكمه ورسمه ونسخ رسم الناسخ وبقي حكمه كما ثبت في الصحيح عن عائشة أنها قالت كان فيما أنزل عشر رضعات متتابعات يحرمن فنسخن بخمس رضعات فتوفي رسول الله صضص وهن فيما يتلى من القرآن . قال البيهقي فالعشر مما نسخ رسمه حكمه والخمس مما نسخ رسمه وبقي حكمه بدليل أن الصحابة حين جمعوا القرآن لم يثبتوها رسماً وحكمها باق عندهم . قال ابن السمعاني وقولها وهن مما يتلى من القرآن بمعنى أنه يتلى حكمها دون لفظها وقال البيهقي المعنى أنه يتلوه من لم يبلغه نسخ تلاوته ، ومنع قوم من نسخ اللفظ مع بقاء حكمه وبه جزم شمس الأئمة السرخسي لأن الحكم لا يثبت بدون دليله ولا وجه لذلك فإن الدليل ثابت موجود محفوظ ونسخ كونه قرآناً لا يستلزم عدم وجوده ولهذا رواه الثقات في مؤلفاتهم . الخامس : ما نسخ رسمه لا حكمه ولا يعلم الناسخ له وذلك كما ثبت في الصحيح . لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب فإن هذا كان قرآناً ثم نسخ رسمه . قال ابن عبد البر في التمهيد قيل إنه في سورة ص وكما ثبت في الصحيح أيضاً أنه نزل في القرآن حكاية عن أهل بئر معونة أنهم قالوا بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا وكما أخرجه الحاكم في مستدركه من حديث زر بن جبيش عن أبي بن كعب عن النبي صضص قرأ عليه لم يكن الذين كفروا وقرأ فيها أن ذات الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ومن يعمل خيراً فلن يكفر قال الحاكم صحيح الإسناد فهذا مما نسخ لفظه وبقي معناه وعده ابن عبد البر في التمهيد مما نسخ خطه وحكمه وحفظه قال ومنه قول من قال إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة . السادس : ناسخ صار منسوخاً وليس بينهما لفظ متلو كالمواريث بالحلف والنصرة فإنه نسخ التوارث بالإسلام والهجرة ونسخ التوارث بالإسلام والهجرة بآية المواريث قال ابن السمعاني وعندي أن القسمين الأخيرين تكلف وليس يتحقق فيهما النسخ وجعل أبو إسحاق المروزي التوريث بالهجرة من قسم ما علم أنه منسوخ ولم يعلم ناسخه . والحاصل أن نسخ التلاوة دون الحكم أو الحكم دون التلاوة أو نسخهما معاً لم يمنع منه مانع شرعي ولا عقلي فلا وجه للمنع منه لأن جواز تلاوة الآية حكم من أحكامها وما تدل عليه الأحكام حكم آخر لها ولا تلازم بينهما وإذا ثبت ذلك فيجوز نسخهما ونسخ أحدهما كسائر الأحكام المتباينة ولنا أيضاً الوقوع وهو دليل الجواز كما عرفت مما أوردناه .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة التاسعة : لا خلاف في جواز نسخ القرآن بالقرآن ونسخ السنة المتواترة بالسنة المتواترة وجواز نسخ الآحاد بالآحاد ونسخ الآحاد بالمتواتر وأما نسخ القرآن أو المتواتر من السنة بالآحاد فقد وقع الخلاف في ذلك في الجواز والوقوع . أما الجواز عقلاً فقال به الأكثرون وحكاه سليم الرازي عن الأشعرية والمعتزلة ونقل ابن برهان في الأوسط الاتفاق عليه . فقال لا يستحيل عقلاً نسخ الكتاب بخبر الواحد بلا خلاف وإنما الخلاف في جوازه شرعاً . وأما الوقوع فذهب الجمهور كما حكاه ابن برهان وابن الحاجب وغيرهما إلى أنه غير واقع ونقل ابن السمعاني وسليم في التقريب الإجماع على عدم وقوعه وهكذا حكى الإجماع القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية والشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع وذهب جماعة من أهل الظاهر منهم ابن حزم إلى وقوعه وهي رواية عن أحمد وذهب القاضي في التقريب والغزالي وأبو الوليد الباجي والقرطبي إلى التفصيل بين زمان النبي صضص وما بعده فقالوا بوقوعه في زمانه . احتج المانعون بأن الثابت قطعاً لا ينسخه مظنون ، واستدل القائلون بالوقوع بما ثبت من أن أهل قباء لما سمعوا مناديه صضص وهم في الصلاة يقول ألا إن القبلة قد حولت إلى الكعبة فاستداروا ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صضص . وأجيب بأنهم علموا بالقرائن واستدل أيضاً القائلون بالوقوع بأنه صضص كان يرسل رسله لتبليغ الأحكام وكانوا يبلغون الأحكام المبتدأة وناسخها . ومن الوقوع نسخ قوله تعالى : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الأية بنهيه صضص عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وهو آحاد . وأجيب بأن المعنى لا أجد الآن والتحريم وقع في المستقبل . ومن الوقوع نسخ نكاح المتعة بالنهي عنها وهو آحاد ونحو ذلك كثير . ومما يرشدك إلى جواز النسخ بما صح من الآحاد لما هو أقوى متناً أو دلالة منها أن الناسخ في الحقيقة إنما رافعاً لاستمرار حكم المنسوخ ودوامه وذلك ظني وإن كان دليله قطعياً فالمنسوخ إنما هو هذا الظني لا ذلك القطعي فتأمل هذا . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة العاشرة : يجوز نسخ القرآن بالسنة المتواترة عند الجمهور كما حكى ذلك عنهم أبو الطيب الطبري وابن برهان وابن الحاجب قال ابن فورك في شرح مقالات الأشعري وإليه ذهب شيخنا أبو الحسن الأشعري وكان يقول إن ذلك وجد في قوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين فإنه منسوخ بالسنة المتواترة ، وهي قوله لا وصية لوارث لأنه لا يمكن أن يجمع بينهما . قال ابن السمعاني وهو مذهب أبي حنيفة وعامة المتكلمين وقال سليم الرازي وهو قول أهل العراق قال وهو مذهب الأشعري والمعتزلة وسائر المتكلمين قال الدبوسي هو قول علمائنا يعني الحنفية قال الباجي قال به عامة شيوخنا وحكاه ابن الفرج عن مالك قال ولهذا لا تجوز عنده الوصية للوارث للحديث فهو ناسخ لقوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية . وذهب الشافعي في عامة كتبه كما قال ابن السمعاني إلى أنه لا يجوز نسخ القرآن بالسنة بحال وإن كانت متواترة وبه جزم الصيرفي والخفاف ونقله عبد الوهاب عن أكثر الشافعية وقال الأستاذ أبو منصور أجمع أصحاب الشافعي على المنع وهذا يخالف ما حكاه ابن فورك عنهم فإنه حكى عن أكثرهم القول بالجواز ثم اختلف المانعون فمنهم من منعه عقلاً وشرعاً ومنهم من منعه شرعاً لا عقلاً . واستدل على ذلك بقوله تعالى : ما ننسخ من آية أو ننسها الآية قالوا ولا تكون السنة خيراً من القرآن ومثله قالوا ولم نجد في القرآن آية منسوخة بالسنة . وقد استنكر جماعة من العلماء ما ذهب إليه الشافعي من المنع حتى قال الكيا الهراس : هفوات الكبار على أقدراهم ومن عد خطؤه عظم قدره قال وقد كان عبد الجبار كثيراً ما ينظر مذهب الشافعي في الأصول والفروع فلما وصل إلى هذا الموضع قال هذا الرجل كبير ولكن الحق أكبر منه قال ولم نعلم أحداً منع من جواز نسخ الكتاب بخبر الواحد عقلاً فضلاً عن المتواتر فلعله يقول دل عرف الشرع على المنع منه وإذا لم يدل قاطع من السمع توقفنا وإلا فمن الذي يقول إنه عليه السلام لا يحكم بقوله في نسخ ما ثبت في الكتاب وإن هذا مستحيل في العقل . والمغالون في حب الشافعي لما رأوا هذا القول لا يليق بعلو قدره وهو الذي مهد هذا الفن ورتبه وأول من أخرجه قالوا لا بد أن يكون لهذا القول من هذا العظيم محمل فتعمقوا في محامل ذكروها انتهى . ولا يخفاك أن السنة شرع من الله عز وجل كما أن الكتاب شرع منه سبحانه وقد قال ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا وأمر سبحانه باتباع رسوله في غير موضع في القرآن فهذا بمجرده يدل على أن السنة الثابتة عنه ثبوتاً على حد ثبوت الكتاب العزيز حكمها حكم القرآن في النسخ وغيره وليس في العقل ما يمنع من ذلك ولا في الشرع ، وقوله : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ليس فيه إلا ما يجعله الله منسوخاً من الآيات القرآنية سيبدله بما هو خير منه أو بما هو مثله للمكلفين وما أتانا على لسان رسوله فهو كما أتانا منه كما قال سبحانه : إن هو إلا وحي يوحى وكما قال قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي قال أبو منصور البغدادي لم يرد الشافعي مطلق السنة بل أراد السنة المنقولة آحاداً واكتفى بهذا الإطلاق لأن الغالب في السنة الآحاد ، قال الزركشي في البحر والصواب أن مقصود الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له وهو تعظيم عظيم وأدب مع الكتاب والسنة وفهم لموقع أحدهما من الآخر وكل من تكلم في هذه المسألة لم يقع على مراد الشافعي بل فهموا خلاف مراده حتى غلظوه وأولوه انتهى . ومن جملة ما قيل إن السنة فيه نسخت القرآن الآية المتقدمة أعني قوله : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية وقوله وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار وقوله قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما الآية فإنها منسوخة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وقوله حرمت عليكم الميتة فإنها منسوخة بأحاديث الدباغ على نزاع طويل في كون ما في هذه الآيات منسوخاً بالسنة . وأما نسخ السنة بالقرآن ، فذلك جائز عند الجمهور وبه قال بعض من منع من نسخ القرآن بالسنة وللشافعي في ذلك قولان حكاهما القاضي أبو الطيب الطبري والشيخ أبو إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وإمام الحرمين وصححوا جميعاً الجواز قال ابن برهان هو قول المعظم وقال سليم هو قول عامة المتكلمين والفقهاء ، وقال السمعاني إنه الأولى بالحق وجزم به الصيرفي ولا وجه للمنع قط ولم يأت في ذلك ما يتشبث به المانع لا من عقل ولا من شرع بل ورد في الشرع نسخ السنة بالقرآن في غير موضع ، فمن ذلك قوله تعالى : قد نرى تقلب وجهك في السماء الآية كذلك نسخ صلحه صضص لقريش على أن يرد لهم النساء بقوله تعالى : فلا ترجعوهن إلى الكفار ونسخ تحليل الخمر بقوله تعالى : إنما الخمر والميسر الآية ونسخ تحريم المباشرة بقوله تعالى : فالآن باشروهن ونسخ صوم يوم عاشوراء بقوله فمن شهد منكم الشهر فليصمه ونحو ذلك مما يكثر تعداده .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الحادية عشرة : ذهب الجمهور إلى أن الفعل من السنة ينسخ القول كما أن القول ينسخ الفعل وحكى الماوردي والروياني عن ظاهر قول الشافعي أن القول لا ينسخ إلا بالقول وأن الفعل لا ينسخ إلا بالفعل ولا وجه لذلك فالكل سنة وشرع ، ولا يخالف في ذلك الشافعي ولا غيره وإذا كان كل واحد منهما شرعاً ثابتاً عن رسول الله صضص فلا وجه للمنع من نسخ أحدهما بالآخر ولا سيما وقد وقع ذلك في السنة كثيراً . ومنه قوله صضص في السارق فإن عاد في الخامسة فاقتلوه ثم رفع إليه سارق في الخامسة فلم يقتله فكان هذا الترك ناسخاً للقول ، وقال الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ثم رجم ماعزا ولم يجلده فكان ذلك ناسخاً لجلد من ثبت عليه الرجم ، ومنه ما ثبت في الصحيح من قيامه صضص للجنازة ، ثم ترك ذلك فكان نسخاً وثبت عنه صضص صلوا كما رأيتموني أصلي ثم فعل غير ما كان يفعله وترك بعض ما كان يفعله فكان ذلك نسخاً وهذا كثير في السنة لمن تتبعه ، ولم يأت المانع بدليل يدل على ذلك لا من عقل ولا من شرع وقد تابع الشافعي في المنع من نسخ الأقوال بالأفعال ابن عقيل من الحنابلة ، وقال الشيء إنا ينسخ بمثله أو بأقوى منه يعني والقول أقوى من الفعل .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثانية عشرة : الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور إما كونه لا ينسخ فلأن الإجماع لا يكون إلا بعد وفاة رسول الله صضص والنسخ لا يكون بعد موته وأما في حياته فالإجماع لا ينعقد بدونه بل يكون قولهم المخالف لقوله لغواً باطلاً لا يعتد به ولا يلتفت إليه وقولهما الموافق بعد لا اعتبار به بل الاعتبار بقوله وحده والحجة فيه لا في غيره . فإذا عرفت هذا علمت أن الإجماع لا ينعقد إلا بعد أيام النبوة وبعد أيام النبوة قد انقطع الكتاب والسنة فلا يمكن أن يكون الناسخ منهما ولا يمكن أن يكون الناسخ للإجماع إجماعاً آخر لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ وإن كان عن دليل فذلك يستلزم أن يكون الإجماع الأول خطأ والإجماع لا يكون خطأ فبهذا يستحيل أن يكون الإجماع ناسخاً أو منسوخاً ولا يصلح أيضاً أن يكون الإجماع منسوخاً بالقياس لأن من شرط العمل به أن لا يكون مخالفاً للإجماع . وقد استدل من جوز ذلك بما قيل من أن الأمة إذا اختلفت على قولين فهو إجماع على أن المسألة اجتهادية يجوز الأخذ بكليهما ثم يجوز إجماعهم على أحد القولين كما مر في الإجماع فإذا أجمعوا بطل الجواز الذي هو مقتضى ذلك الإجماع وهذا هو النسخ . وأجب بأنا لا نسلم ذلك لوقوع الخلاف فيه كما تقدم ولو سلم فلا يكون نسخاً لما تقدم من أن الإجماع الأول مشروط بعدم الإجماع الثاني وقال الشريف المرتضى إن دلالة الإجماع مستقرة في كل حال قبل انقطاع الوحي وبعده . قال فالأقرب أن يقال إن الأمة أجمعت على أن ما ثبت بالإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به أي لا يقع ذلك لا أنه غير جائز ولا يلتفت إلى قول عسى بن أبان إن الإجماع ناسخ لما وردت به السنة من وجوب الغسل من غسل الميت انتهى . قال الصيرفي ليس للإجماع حظ في نسخ الشرع لأنهم لا يشرعون ولكن إجماعهم يدل على الغلط في الخبر أو رفع حكمه لا أنهم رفعوا الحكم وإنما هم أتباع لما أمروا به ، وقال بعض الحنابلة يجوز النسخ بالإجماع لكن لا بنفسه بل بسنده فإذا رأينا متناً صحيحاً والإجماع بخلافه استدللنا بذلك على نسخ وأن أهل الإجماع اطلعوا على ناسخ وإلا لما خالفوه . وقال ابن حزم جوز بعض أصحابنا أن يرد حديث صحيح والإجماع على خلافه قال وذلك دليل على أنه منسوخ قال وهذا عندنا غلط فاحش لأن ذلك معدوم لقوله تعالى : إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وكلام الرسول وحي محفوظ انتهى . وممن جوز كون الإجماع ناسخاً الحافظ البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه ومثله بحديث الوادي الذي في الصحيح حين نام رسول الله صضص فما أيقظهم إلا حر الشمس ، وقال في آخره فإذا سها أحدكم عن صلاة فليصلها حين يذكرها ومن الغد للوقت قال فإعادة الصلاة المنسية بعد قضائها حال الذكر وفي الوقت منسوخ بإجماع المسلمين لا يجب ولا يستحب .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الثالثة عشرة : ذهب الجمهور إلى أن القياس لا يكون ناسخاً ونقله القاضي أبو بكر في التقريب عن الفقهاء والأصوليين قالوا لا يجوز نسخ شيء من القرآن والسنة بالقياس لأن القياس يستعمل مع عدم النص فلا يجوز أن ينسخ النص ولأنه دليل محتمل والنسخ يكون بأمر مقطوع ولأن شرط القياس أن لا يكون في الأصول ما يخالفه ولأنه إن عارض نصاً أو إجماعاً فالقياس فاسد الوضع وإن عارض قياساً آخر فتلك المعارضة إن كانت بين أصلي القياس فهذا يتصور فيه النسخ قطعاً إذ هو من باب نسخ النصوص وإن كانت بين العلتين فهو من باب المعارضة في الأصل والفرع لا من باب القياس . قال الصيرفي لا يقع النسخ إلا بدليل توقيفي ولا حظ للقياس فيه أصلاً . وحكى القاضي أبو بكر عن بعضهم أن القياس ينسخ به المتواتر ونص القرآن ، وحكى عن آخرين أنه مما ينسخ به أخبار الآحاد فقط ، وحكى الأستاذ أبو منصور عن أبي القاسم الأنماطي إذا كانت علته منصوصة لا مستنبطة . وجعل الهندي محل الخلاف في حياة الرسول صضص وأما بعده فلا ينسخ به الاتفاق ، وأما كونه منسوخاً فلا شك أن القياس يكون منسوخاً بنسخ أصله وهل يصح نسخه مع بقاء أصله في ذلك خلاف الحق منعه وبه قال قوم من الأصوليين . وقال آخرون إنه يجوز نسخه في زمن الرسول بالكتاب والسنة والقياس وأما بعد موته فلا ورجحه صاحب المحصول وجماعة من الشافعية .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الرابعة عشرة : في نسخ المفهوم وقد تقدم تقسيمه إلى مفهوم مخالفة ومفهوم موافقة : أما مفهوم المخالفة فيجوز ذلك مع نسخ أصله وذلك ظاهر ويجوز نسخه بدون نسخ أصله وذلك كقوله صضص الماء من الماء فإنه نسخ مفهومه بما ثبت من قوله صضص إذا قعد بين شعبها الأربع وجدها فقد وجب الغسل وفي لفظ إذا لاقى الختان الختان فهذا نسخ مفهوم الماء من الماء وبقي منطوقه محكماً غير منسوخ لأن الغسل واجب من الإنزال بلا خلاف . وأما النسخ الأصل دون المفهوم ففي جوازه احتمالان ذكرهما الصفي الهندي قال والأظهر أنه لا يجوز . قال سليم الرازي في التقريب من أصحابنا من قال يجوز أن يسقط اللفظ ويبقى دليل الخطاب والمذهب أنه لا يجوز ذلك لأن الدليل إنما هو تابع للفظ يستحيل أن يسقط الأصل ويكون الفرع باقياً . وأما مفهوم الموافقة فاختلفوا هل يجوز نسخه وللنسخ به أم لا أما جواز النسخ به فجزم القاضي بجوازه في التقريب وقال لا فرق في جواز النسخ بما اقتضاه نص الكتاب وظاهره جوازه بما اقتضاه فحواه ولحنه ومفهومه وما أوجبه العموم ودليل الخطاب عند مثبتها لأنه كالنص أو أقوى منه انتهى . وكذا جزم بذلك ابن السمعاني قال لأنه مثل النطق وأقوى ونقل الآمدي والفخر الرازي الاتفاق على أنه ينسخ به ما ينسخ بمنطوقه قال الرزكشي في البحر وهو عجيب فإن في المسألة وجهين لأصحابنا وغيرهم حكاهما الماوردي في الحاوي والشيخ أبو إسحاق في اللمع و سليم الرازي وصححوا المنع و الماوردي نقله عن الأكثرين قال لأن القياس فرع النص الذي هو أقوى فلا يجوز أن يكون ناسخاً له . قال والثاني وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة الجواز وأما جواز نسخه فهو ينقسم إلى قسمين : الأول أن ينسخ مع بقاء أصله ، والثاني أن ينسخ تبعاً لأصله ولا شك في جواز الثاني وأما الأول فقد اختلف فيه الأصوليون على قولين : أحدهما : الجواز وبه قال أكثر المتكلمين وجعلوه مع أصله كالنصين يجوز نسخ أحدهما مع بقاء الآخر ونقله سليم عن الأشعري وغيره من المتكلمين بناء على أصلهم أن ذلك مستفاد من اللفظ فكانا بمنزلة لفظين فجاز نسخ أحدهما مع بقاء حكم الآخر . القول الثاني : المنع وصححه سليم الرازي وجزم به الروياني والماوردي ونقله ابن السمعاني عن أكثر الفقهاء لأن ثبوت لفظه موجب لفحواه مفهومه فلم يجز نسخ الفحوى مع بقاء موجبه كما لا ينسخ القياس مع بقاء أصله ، وذهب بعض المتأخرين إلى التفصيل فقال إن كان علة المنطوق لا تحتمل النقص جاز كما لو قال لغلامه لا تعط زيداً درهماً قاصداً بذلك حرمانه ثم يقول أعطه أكثر من درهم ولا تعطه درهماً لاحتمال أنه انتقل من علة حرمانه إلى علة مواساته . وهذا التفصيل قوي جداً .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة الخامسة عشرة : في الزيادة على النص هل تكون نسخاً لحكم النص أم لا وذلك يختلف باختلاف الصور فالزائد إما أن يكون مستقلاً بنفسه أولاً . الأول : المستقل إما أن يكون من غير جنس الأول كزيادة وجوب الزكاة علىالصلاة فليس بناسخ لما تقدم من العبادات بلا خلاف . قال في المحصول اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخاً للعبادات انتهى . ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام لعدم التنافي وأما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور وذهب بعض أهل العراق إلى أنها تكون نسخاً لحكم المزيد عليه كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى لأنها تجعلها غير الوسطى . وهو قول باطل لا دليل عليه ولا شبهة دليل فإن الوسطى ليس المراد بها المتوسطة في العدد بل يراد بها الفاضلة ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد لم تكن تلك الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه فقد علم توسطها عند نزول الآية وصارت مستحقة لذلك الوصف وإن خرجت عن كونها وسطى . قال القاضي عبد الجبار ويلزمهم زيادة عبادة على العبادة الأخيرة لأن هذه المزيدة تصير أخيرة وتجعل تلك التي كانت أخيرة غير أخيرة وهو خلاف الإجماع وألزمهم صاحب المحصول بأنه لو كان عدد كل الواجبات قبل الزيادة عشرة فبعد الزيادة لا يبقى ذلك العدد فيكون نسخاً يعني وهو خلاف الإجماع . الثاني : الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات وزيادة التغريب على الجلد وزيادة وصف الرقبة بالإيمان وقد اختلفوا فيه على أقوال : الأول : أن ذلك لا يكون نسخاً مطلقاً وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم ومن المعتزلة علي وأبو هاشم سواء اتصلت بالمزيد عليه أولاً ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من أجزاء المزيد عليه بدونها أو غير مانعة . الثاني : أنها نسخ وهو قول الحنفية قال شمس الأئمة السرخسي وسواء كانت الزيادة في السبب أو في الحكم . قال ابن السمعاني أما أصحاب أبي حنيفة فقالوا إن الزيادة على النص بعد استقرار حكمة توجب النسخ حكاه الصيمري عن أصحابه على الإطلاق واختاره بعض أصحابنا قال ابن فورك والكيا وعزى إلى الشافعي أيضاً . الثالث : إن كان المزيد عليه بنفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله في سائمة الغنم الزكاة فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخاً حكاه ابن برهان وصاحب المعتمد وغيرهما . الرابع : أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيراً شرعياً حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعلها قبلها لم يعتد به وذلك كزيادة ركعة تكون نسخاً وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخاً كزيادة التغريب على الجلد وإليه ذهب عبد الجبار كما حكاه عنه صاحب المعتمد و ابن الحاجب وغيرهما وحكاه سليم عن اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني والاستراباذي والبصري . الخامس : التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ وبين أن تنفصل عنه فلا تكون نسخاً حكاه ابن برهان عن عبد الجبار أيضاً واختاره الغزالي . السادس : إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخاً إن لم تغير حكمه في المستقبل بأن كانت مقارنة لم تكن نسخاً حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة قال صاحب المعتمد وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري . السابع : أن الزيادة إن رفعت حكماً عقلياً أو ما ثبت باعتبار الأصل كبراءة الذمة لم تكن نسخاً لأنا لا نعتقد أن العقل يوجب الأحكام ومن يعتقد إيجابه لا يعتقد أن رفعها يكون نسخاً وإن تضمنت رفع حكم شرعي كانت نسخاً حكى هذا التفصيل ابن برهان في الأوسط عن أصحاب الشافعي وقال أنه الحق واختاره الآمدي وابن الحاجب والفخر الرازي والبيضاوي وهو اختيار أبي الحسين البصري في المعتمد وهو ظاهر كلام القاضي أبي بكر الباقلاني في مختصر التقريب وظاهر كلام إمام الحرمين الجويني في البرهان . قال الصفي الهندي إنه أجود الطرق وأحسنها فهذه الأقوال كما ترى . قال بعض المحققين إن هذه التفاصيل لا حاصل لها وليست في محل النزاع فإنه لا ريب عند الكل أن ما رفع حكماً شرعياً كان نسخاً حقيقة وليس الكلام هنا في مقام أن النسخ رفع أو بيان وما لم يكن كذلك فليس بنسخ فإن القائل إنما فصل بين ما رفع حكماً شرعياً وما لا يرفع كأنه قال إن كانت الزيادة نسخاً وإلا فلا وهذا لا حاصل له وإنما النزاع منهم هل ترفع حكماً شرعياً فتكون نسخاً أو لا فلا تكون نسخاً فلو وقع الاتفاق على أنها ترفع حكماً شرعياً لوقع الاتفاق على أنها ليست بنسخ ولكن النزاع في الحقيقة إنما هو في أنها رفع أم لا انتهى . قال الزركشي في البحر واعلم أن فائدة هذه المسألة أن ما ثبت أنه من باب النسخ وكان مقطوعاً به فلا ينسخ إلا بقاطع كالتغريب فإن أبا حنيفة لما كان عنده نسخاً نفاه لأنه نسخ للقرآن بخبر الواحد ولما لم يكن عند الجمهور نسخاً قبلوه إذ لا معارضة . وقد ردوا يعني الحنفية بذلك أخباراً صحيحة لما اقتضت زيادة على القرآن والزيادة نسخ ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد فردوا أحاديث تعين الفاتحة في الصلاة وما ورد في الشاهد واليمين وما ورد في أيمان الرقبة وما ورد في اشتراط النية في الوضوء انتهى . وإذا عرفت أن هذه هي الفائدة في هذه المسألة التي طالت ذيولها وكثرت شعبها هان عليك الخطب وقد قدمنا في المسألة التاسعة من مسائل هذا الباب ما عرفته .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السادسة عشرة : لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لأنه كان واجباً في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه ولا خلاف أيضاً في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخاً لها كذا نقل الإجماع الآمدي والفخر الرازي ، وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة سواء كان جزءاً لها كالشطر أو خارجاً كالشرط فاختلفوا فيه على مذاهب . الأول : أن نسخه لا يكون نسخاً للعبادة بل يكون بمثابة تخصيص العام قال ابن برهان وهو قول علمائنا وقال ابن السمعاني إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي واختاره الفخر الرازي والآمدي قال الأصفهاني إنه الحق وحكاه صاحب المعتمد عن الكرخي . الثاني : أنه نسخ للعبادة وإليه ذهب الحنفية كما حكاه عنهم ابن برهان وابن السمعاني . الثالث : التفصيل بين الشرط فلا يكون نسخه نسخاً للعبادة وبين الجزء كالقيام والركوع في الصلاة فيكون نسخه نسخاً لها وإليه ذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي وصححه القرطبي قالوا لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف الجزء وهذا في الشرط المتصل أما الشرط المنفصل فقيل لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة لأنهما عبادتان منفصلتان ، وقيل إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ إلا به فيكون نسخه نسخاً لها من غير فرق بين الشرط والجزاء وإن كان مما تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخاً لها وهذا هو المذهب الرابع ، حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في اللمع ، احتج القائلون بأنه لا يكون نسخاً مطلقاً من غير فرق بين الشرط والشطر بأنهما أمران فلا يقتضي نسخ أحدهما نسخ الآخر ، وأيضاً لو كان نسخاً للعبادة لافتقرت في وجوبها إلى دليل آخر غير الدليل الأول وأنه باطل بالاتفاق ، واحتج القائلون بأن نسخ الشطر يقتضي نسخ العبادة دون نسخ الشرط بأن نقصان الركعة من الصلاة يقتضي رفع وجوب تأخير التشهد ورفع أجزائها من دون الركعة لأن تلك العبادة قبل النسخ كانت غير مجزئه بدون الركعة . وأجيب بأن للباقي من العبادة أحكاماً مغايرة لأحكامها قبل رفع ذلك الشطر فكان النسخ مغايراً لنسخ تلك العبادة وأيضاً الثابت في الباقي هو الوجوب الأصلي والزيادة باقية على الجواز الأصلي وإنما الزائل وجوبها فارتفع حكم شرعي لا إلى حكم شرعي فلا يكون ذلك نسخاً . ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المسألة السابعة عشرة : في الطريق التي يعرف بها كون الناسخ ناسخاً وذلك أمور : الأول : أن يقتضي ذلك اللفظ بأن يكون فيه ما يدل على ما تقدم أحدهما وتأخر الآخر . قال الماوردي المراد بالتقدم التقدم في النزول لا في التلاوة فإن العدة بأربعة شهور وعشرة سابقة على العدة بالحول في التلاوة مع أنها ناسخة لها . ومن ذلك التصريح في اللفظ بما يدل على النسخ كقوله تعالى : الآن خفف الله عنكم فإنه يقتضي نسخه لثبات الواحد للعشرة ومثل قوله : أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات . الثاني : أن يعرف الناسخ من المنسوخ بقوله صضص كأن يقول هذا ناسخ لهذا أو ما في معنى ذلك كقوله : نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها . الثالث : أن يعرف ذلك من فعله صضص كرجمه لماعز ولم يجلده فإنه يفيد نسخ قوله الثيب بالثيب جلد مائة ورجمه بالحجارة . قال ابن السمعاني وقد قالوا إن الفعل لا ينسخ القول في قول أكثر الأصوليين وإنما يستدل بالفعل على تقدم النسخ للقول بقول آخر فيكون القول منسوخاً بمثله من القول والفعل مبين لذلك . الرابع : إجماع الصحابة على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ كنسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان ونسخ الحقوق المتعلقة بالمال بالزكاة ذكر معنى ذلك ابن السمعاني . قال الزركشي وكذا حديث من غل صدقته فقال صضص أن آخذوها وشطر ماله قال فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم لهذا الحديث فدل ذلك على نسخه انتهى . وقد ذهب الجمهور إلى أن إجماع الصحابة من أدلة بيان الناسخ والمنسوخ قال القاضي يستدل بالإجماع على أن معه خبراً وقع به النسخ لأن الإجماع لا ينسخ به ولم يجعل الصيرفي الإجماع دليلاً على تعين النص للنسخ بل جعله متردداً بين النسخ والغلط . الخامس : نقل الصحابي لتقدم أحد الحكمين وتأخر الآخر إذ لا مدخل للاجتهاد فيه . قال ابن السمعاني وهو واضح إذا كان الخبران غير متواترين أما إذا قال في المتواتر أنه كان قبل الآحاد ففي ذلك خلاف وجزم القاضي في التقريب بأنه لا يقبل ونقله الصفي الهندي عن الأكثرين لأنه يتضمن نسخ المتواتر بالآحاد وهو غير جائز وقال القاضي عبد الجبار يقبل وشرط ابن السمعاني كون الراوي لهما واحد . السادس : كون أحد الحكمين شرعياً والآخر موافقاً للعادة فيكون الشرعي ناسخاً وخالف في ذلك القاضي أبو بكر والغزالي لأنه يجوز ورود الشرع بالنقل عن العادة ثم يرد نسخه ورده إلى مكانه . وأما حداثة الصحابي وتأخر إسلامه فليس ذلك من دلائل النسخ . وإذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ بوجه من الوجوه فرجح قوم منهم ابن الحاجب الوقف وقال الآمدي إن علم افتراقهما مع تعذر الجمع بينهما فعندي أن ذلك غير متصور الوقوع وإن جوزه قوم وبتقدير وقوعه فالواجب أما الوقف عن العمل بأحدهما أو التخيير بينهما إن أمكن وكذلك الحكم فيما إذا لم يعلم شيء من ذلك .ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .

المقصد الخامس من مقاصد هذا الكتاب القياس وما يتصل به من الاستدلال المشتمل على التلازم والاستصحاب وشرع من قبلنا والاستحسان والمصالح المرسلة ثم ماله اتصال بالاستدلال، وفيه فصول سبعة ب المصير إليه وإن لم يعلم ذلك بل جوز فقد وجب المصير إلى ظاهر الخبر وهذا مسلم إذا حصل العلم بذلك . وأما إذا ترك الصحابي العمل بما رواه بالكلية فقد قدمنا الكلام عليه في الشروط التي ترجع إلى مدلول الخبر ولا وجه لما قيل من أنه قد اطلع على ناسخ لذلك الخبر الذي رواه لأنا لم نتعبد بمجرد هذا الاحتمال وأيضاً فربما ظن أنه منسوخ ولم يكن كذلك .==

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

​تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد​ المؤلف محمد بن إسماعيل الصنعاني

  المحتويات     المقدمة   الأصل الأول   الأصل الثاني   الأصل الثالث   الأصل الرابع   الأصل الخامس   فصل   ...