المحتويات
المقدمة
الأصل الأول
الأصل الثاني
الأصل الثالث
الأصل الرابع
الأصل الخامس
فصل
فصل
فصل
تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد
تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد المؤلف محمد بن
إسماعيل الصنعاني
بسم الله الرحمن الرحيم
وهو المستعان
الحمد لله الذي لا يقبل توحيد ربوبيته من العباد حتى يفردوه بتوحيد العبادة كل الإفراد من اتخاذ الأنداد فلا يتخذون له ندا ولا يدعون معه أحدا ولا يتكلون إلا عليه ولا يفزعون في كل حال إلا إليه ولا يدعونه بغير أسمائه الحسنى ولا يتوصلون إليه بالشفعاء (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)
وأشهد أن لا إله إلا الله ربا ومعبودا وأن محمدا عبده ورسوله، الذي أمره أن يقول (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله)، وكفى بالله شهيدا. صلى الله عليه وعلى آله والتابعين له في السلامة من العيوب وتطهير القلوب من اعتقاد كل شيء يشوب.
وبعد، فهذا (تطهير الاعتقاد من أدران الإلحاد) وجب علي تأليفه وتعين علي ترصيفه لما رأيته معلمته من اتخاذ العباد الأنداد في الأمصار والقرى وجميع البلاد من اليمن والشام ومصر ونجد وتهامة وجميع ديار الإسلام، وهو الاعتقاد في القبور وفي الأحياء ممن يدعي العلم بالمغيبات وهو من أهل الفجور، لا يحضر للمسلمين مسجدا ولا يرى لله راكعا أو ساجدا، ولا يعرف السنة ولا الكتاب ولا يهاب البعث ولا الحساب.
فوجب علي أن أنكر ما أوجب الله إنكاره، ولا أكون من الذين يكتمون ما أوجب الله إظهاره. فاعلم أن ههنا أصولا هي قواعد للدين، ومن أهم ما تجب معرفته على الموحدين:
الأصل الأول
أنه قد علم من ضرورة الدين أن كل ما في القران فهو حق لا باطل وصدق لا كذب وهدى لا ضلالة وعلم لا جهالة ويقين لا شك فيه. فهذا الأصل أصل لا يتم إسلام أحد ولا إيمانه إلا بالإقرار به. وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه.
الأصل الثاني
أن رسل الله وأنبياءه ـ من أولهم إلى آخرهم ـ بعثوا لدعاء العباد إلى توحيد الله بتوحيد العبادة. وكل رسول أول ما يقرع به أسماع قومه قوله (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) (أن لا تعبدوا إلا الله) ( أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون)ز وهذه الذي تضمنه قول "لا إله إلا الله". فإنما دعت الرسل أممها إلى قول هذه الكلمة واعتقاد معناها، لا مجرد قولها باللسان. ومعناها: هو إفراد الله بالإلهية والعبادة، والنفي لما يعبد من دونه والبراءة منه. وهذا الأصل لا مرية فيما تضمنه، ولا شك فيه وفي أنه لا يتم إيمان أحد حتى يعلمه ويحققه.
الأصل الثالث
أن التوحيد قسمان: القسم الأول: توحيد الربوبية والخالقية والرازقية ونحوها، ومعناه: أن الله وحده هو الخالق للعالم وهو الرب لهم والرازق لهم. وهذا لا ينكره المشركون ولا يجعلون لله فيه شريكا، بل هم مقرون به، كما سيأتي في الأصل الرابع.
القسم الثاني: توحيد العبادة ومعناه: إفراد الله وحده بجميع أنواع العبادات الآتي بيانها. فهذا هو الذي جعلوا لله فيه شركاء. ولفظ الشريك يشعر بالإقرار بالله تعالى.
فالرسل عليهم السلام بعثوا لتقرير الأول ودعاء المشركين إلى الثاني، مثل قولهم في خطاب المشركين: (أفي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم) 14:10 (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو) 35:3 ونهيهم عن شرك العبادة، ولذا قال الله تعالى (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) 16:36 أي قائلين لأممهم أن اعبدوا الله. فأفاد بقوله (في كل أمة) أن جميع الأمم لم ترسل إليهم الرسل إلى لطلب توحيد العبادة، لا للتعريف بأن الله هو الخالق للعالم وأنه رب السموات والأرض، فإنهم مقرون بهذا. ولهذا لم ترد الآيات فيه ـ في الغالب ـ إلا بصيغة استفهام التقرير، نحو: (هل من خالق غير الله) 35:3 (أفمن يخلق كمن لا يخلق) 16:17 (أفي الله شك فاطر السموات والأرض) 6:14 (أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض) 6:14 (هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه) 31:11 (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السموات) 46:4 استفهام تقرير لهم لأنهم به مقرون.
وبهذا تعرف أن المشركين لم يتخذوا الأصنام والأوثان ولم يعبدوها ولم يتخذوا المسيح وأمة ولم يتخذوا الملائكة شركاء لله تعالى لأنهم أشركوهم في خلق السموات والأرض، بل اتخذوهم لأنهم يقربونهم إلى الله زلفى، كما قالوه. فهم مقرون بالله في نفس كلمات كفرهم وأنهم شفعاء عند الله. قال الله تعالى: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله. قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) 10:18 فجعل الله تعالى اتخاذهم للشفعاء شركا ونزه نفسه عنه لأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فكيف يثبتون شفعاء لهم لم يأذن الله لهم في شفاعة ولا هم أهل لها ولا يغنون عنهم من الله شيئا؟
الأصل الرابع
أن المشركين الذين بعث الله الرسل إليهم مقرون أن الله خالقهم (ولئن سألتهم: من خلقهم ليقولن الله) 43:87، (ولئن سالتهم: من خلق السموات والأرض؟ ليقولن: خلقهن العزيز العليم) 43:9 وأنه الرازق الذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وأنه الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض وأنه الذي يملك السمع والأبصار والأفئدة، (قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار والأفئدة ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فسيقولون: الله فقل أفلا تتقون) (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله. قل أفلا تذكرون؟ قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم؟ سيقولون لله، قل أفلا تتقون؟ قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون؟ سيقولون لله، قل فأنى تسحرون) 23:84-98 وهذا فرعون مع غلوه في كفره ودعواه أقبح دعوى ونطقه بالكلمة الشنعاء، يقول الله في حقه حاكيا عن موسى عليه السلام (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر) 17:102 وقال إبليس (إني أخاف الله رب العالمين) 59:16 وقال (رب بما أغويتني) 17:39 وقال (رب فأنظرني) 15:36 وكل مشرك مقر بأن الله خالقه وخالق السموات والأرض وربهن ورب ما فيهما ورازقهم، ولهذا احتج عليهم الرسل بقولهم (أفمن يخلق كمن لا يخلق) 16:17 وبقولهم ( إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له) 22:73 والمشركون مقرون بذلك لا ينكرونه.
الأصل الخامس
أن العبادة أقصى باب الخضوع والتذلل، ولم تستعمل إلا في الخضوع لله. لأنه مولى أعظم النعم. وكان لذلك حقيقا بأقصى غاية الخضوع، كما في (الكشاف).
ثم إن رأس العبادة وأساسها التوحيد لله التوحيد الذي تفيده كلمته التي إليها دعت جميع الرسل، وهي قول (لا إله إلا الله) والمراد اعتقاد معناها والعمل بمقتضاها لا مجرد قولها باللسان.
ومعناها: إفراد الله بالعبادة والإلهية والنفي والبراءة من كل معبود دونه. وقد علم الكفار هذا المعنى لأنهم أهل اللسان العربي، فقالوا: (أجعل الآلهة إله واحدا إن هذا لشيء عجاب) 38:5.
فصل
إذا عرفت هذه الأصول فاعلم أن الله تعالى جعل العبادة له أنواعا: اعتقادية: وهي أساسها، وذلك أن يعتقد أنه الرب الواحد الأحد الذي له الخلق والأمر وبيده النفع والضر وأنه الذي لا شريك له ولا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأنه لا معبود بحق غيره، وغير ذلك من لوازم الألوهية.
ومنها اللفظية: وهي النطق بكلمة التوحيد، فمن اعتقد ما ذكر ولم ينطق بها لم يحقن دمه ولا ماله، وكان كإبليس، فإنه يعتقد التوحيد بل ويقر به كما أسلفنا عنه، إلا أنه لم يمتثل أمر الله فكفر. ومن نطق ولم يعتقد حقن ماله ودمه وحسابه على الله، وحكمه حكم المنافقين. وبدنية، كالقيام والركوع والسجود في الصلاة. ومنها الصوم وأفعال الحج والطواف.ومالية، كإخراج جزء من المال امتثالا لما أمر الله تعالى به. وأنواع الواجبات والمندوبات في الأموال والأبدان والأفعال والأقوال كثيرة، لكن هذه أمهاتها.
وإذا تقررت هذه الأمور، فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك، كما قررناه وكررناه، ولذا قالوا (أجئتنا لنبد الله وحده ) 7:69 أي لنفرده بالعبادة ونخصه بها من دون آلهتنا، فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله. فلم ينكروا الله تعالى ولا قالوا إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره وأشركوا معه سواه واتخذوا له أندادا، كما قال تعالى (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) 2:22 أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له. وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج: " لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك". وكان يسمعهم النبي ﷺ عند قولهم "لا شريك لك" ويقول: قد افردوه جل جلاله لو تركوا قولهم "إلا شريكا هو لك". فنفس شركهم بالله تعالى إقرار به. قال تعالى (أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون) 6:22 (وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم) 28:4 (قل ادعوا شركاؤكم ثم كيدون فلا تنظرون) 7:194 فنفس اتخاذ الأنداد إقرار بالله تعالى، ولم يعبدوا الأنداد بالخضوع لهم والتقرب بالنذور والنحر لهم إلا لاعتقادهم أنها تقربهم إلى الله زلفى وتشفع لهم لديه.
فأرسل الله الرسل تأمر بترك عبادة كل ما سواه وتبين أن هذا الاعتقاد الذي يعتقدونه في الأنداد باطل وأن التقرب إليهم باطل، وأن ذلك لا يكون إلا لله وحده. وهذا هو توحيد العبادة. وقد كانوا مقرين ـ كما عرفت في الأصل الرابع ـ بتوحيد الربوبية، وهو أن الله هو الخالق وحده والرازق وحده.
ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم وهو نوح عليه السلام إلى آخرهم وهو محمد ﷺ هو توحيد العبادة، ولذا تقول لهم الرسل (ألا لا تعبدوا إلا الله) (اعبدوا الله مالكم من إله غيره).
وقد كان المشركون منهم من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله محمدا ﷺ يدعوهم إلى عبادة الله وحده وبأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، أي بربوبيته للسموات والأرض وان يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة " لا إله إلا الله" معتقدين لمعناها عاملين بمقتضاها وأن لا يدعوا مع الله أحدا. وقال تعالى (له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء) 13:14 وقال تعالى( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين) 5:22، أي من شرط الصدق في الإيمان بالله أن لا يتوكلوا إلا عليه وأن يفردوه بالتوكل كما يجب أن يفردوه بالدعاء والاستغفار. وأمر الله عباده أن يقولوا (إياك نعبد) ولا يصدق قائل هذا إلا إذا أفرد العبادة لله تعالى، وإلا كان كاذبا منهيا عن أن يقول هذه الكلمة، إذا معناها: نخصك بالعبادة ونفردك بها دون كل أحد، وهو معنى قوله (فإياي فاعبدون) 29:56 (وإياي فاتقون) 2:41 كما عرف من علم البيان أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، أي لا تعبدوا إلا الله ولا تعبدوا غيره ولا تتقوا غيره كما في (الكشاف). فإفراد الله تعالى بتوحيد العبادة لا يتم إلا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله له والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده واللجأ إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا لله تعالى والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل. ومن فعل شيئا من ذلك لمخلوق حي أو ميت أو جماد أو غير ذلك فقد أشرك في العبادة. وصار من تفعل له هذه الأمور إله لعابديه، سواء كان ملكا أو نبيا أو وليا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا. وصار العابد بهذه العبادة أو بأي نوع منها عابدا لذلك المخلوق مشركا بالله، وإن أقر بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك وعن وجوب سفك دمائهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم غنيمة. قال الله تعالى [في الحديث القدسي] (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به من عبد معه غيره.
فصل
إذا تقرر عندك أن المشركين لم ينفعهم الإقرار بالله مع إشراكهم الأنداد من المخلوقين معه في العبادة ولا أغنى عنهم من الله شيئا وأن عبادتهم هي اعتقادهم فيهم أنهم يضرون وينفعون وأنهم يقربونهم إلى الله زلفى وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى، فنحروا لهم النحائر وطافوا بهم ونذروا النذور عليهم، وقاموا متذللين متواضعين في خدمتهم وسجدوا لهم، ومع هذا كله فهم مقرون لله بالربوبية وأنه الخالق ولكنهم أشركوا في عبادته، جعلهم مشركين ولم يعتد بإقرارهم هذا، لأنه نافاه فعلهم، فلم ينفعهم الإقرار بتوحيد الربوبية. فمن شأن من أقر لله تعالى بتوحيد الربوبية أن يفرده بتوحيد العبادة. فإن لم يفعل ذلك فالإقرار الأول باطل. وقد عرفوا ذلك وهم في طبقات النار فقالوا (تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين) 26:97-98 مع أنهم لم يسووهم به من كل وجه ولا جعلوهم خالقين ولا رازقين، لكنهم علموا وهم في قعر جهنم أن خلطهم الإقرار بذرة من ذرات الإشراك في توحيد العبادة صيرهم كمن سوى بين الأصنام وبين رب الأنام. قال الله تعالى (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) 12:106 أي ما يقر أكثرهم في إقراره بالله وبأنه خلقه وخلق السموات والأرض إلا وهو مشرك بعبادة الأوثان.
بل سمى الله الرياء في الطاعات شركا. مع أن فاعل الطاعة ما قصد بها إلا الله تعالى، وإنما ألااد طلب المنزلة بالطاعة في قلوب الناس. فالمرائي عبد الله لا غيره لكنه خلط عمله بطلب المنزلة في قلوب الناس، فلم يقبل له عبادة وسماها شركا، كما أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: (يقول الله تعالى: أنا أعنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) بل سمى الله التسمية بعبد الحارث شركا، كما قال تعالى (فلما آتاهما صالحا جعلى له شركاء فيما آتاهما) 7:159 فإنه أخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث سمرة أن النبي ﷺ قال: "لما حملت حواء ـ وكان لا يعيش لها ولد ـ طاف بها إبليس، وقال: لا يعيش لك ولد حتى تسميه عبد الحرث. فسمته فعاش. وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره. فأنزل الله الآيات وسمى هذه التسمية شركا، وكان إبليس تسمى بالحرث". والقصة في الدر المنثور وغيره.
فصل
وقد عرفت من هذا كله أن من اعتقد في شجر أو حجر أو قبر أو ملك أو جني أو حي أو ميت أنه ينفع أو يضر أو أنه يقرب إلى الله أو يشفع عنده في حاجة من حوائج الدنيا، بمجرد التشفع به والتوسل إلى الرب تعالى، إلا ما ورد في حديث فيه مقال، في حق نبينا محمد ﷺ أو نحو ذلك، فإنه قد أشرك مع الله غيره. واعتقد ما لا يحل اعتقاده، كما اعتقد المشركون في الأوثان، فضلا عمن ينذر بماله وولده لميت أو حي أو يطلب من ذلك الميت ما لا يطلب إلا من الله تعالى من الحاجات، من عافية مريضه أو قدوم غائبه أو نيله لأي مطلب من المطالب، فإن هذا هو الشرك بعينه الذي كان ويكون عليه عباد الأصنام.
والنذر بالمال على الميت ونحوه والنحر على القبر والتوسل به وطلب الحاجات منه هو بعينه الذي كانت تفعله الجاهلية. وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثنا وصنما، وفعله القبوريون لما يسمونه وليا وقبرا ومشهدا. والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني، ضرورة لغوية وعقلية وشرعية. فإن من شرب الخمر وسماها ماء، ما شرب إلا خمرا وعقابه عقاب شارب الخمر، ولعله يزيد عقابه للتدليس والكذب في التسمية.
وقد ثبت في الأحاديث أنه يأتي قوم يشربون الخمر يسمونها بغير اسمها، وصدق ﷺ فإنه قد أتى طوائف من الفسقة يشربون الخمر ويسمونها نبيذا. وأول من سمى ما فيه غضب الله وعصيانه بالأسماء المحبوبة عند السامعين إبليس لعنه الله، فإنه قال لأبي البشر (يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) [20:120] فسمى الشجرة التي نهى الله آدم عن قربانها شجرة الخلد، جذبا لطبعه إليها وهزا لنشاطه لقربانها وتدليسا عليه بالاسم الذي اخترعه. كما يسمي إخوانه المقلدون له الحشيشة بلقمة الراحة. وكما يسمي الظلمة ما يقبضونه من أموال عباد الله ظلما وعدوانا أدبا، فيقولون أدب القتل وأدب السرقة وأدب التهمة، بتحريف اسم الظلم إلى اسم الأدب. كما يحرفونه في بعض المقبوضات إلى اسم "النفاعة" وفي بعضها إلى اسم "السياقة" وفي بعضها أدب المكاييل والموازين.
وكل ذلك اسمه عند الله ظلم وعدوان، كما يعرفه من شم رائحة الكتاب والسنة. وكل ذلك مأخوذ عن إبليس حيث سمى الشجرة المنهي عنها شجرة الخلد.
وكذلك تسمية القبر مشهدا ومن يعتقدون فيه وليا لا تخرجه عن اسم الصنم والوثن، إذ هم معاملون لها معاملة المشركين للأصنام ويطوفون بها طواف الحجاج ببيت الله الحرام ويستلمونها استلامهم لأركان البيت ويخاطبون الميت بالكلمات الكفرية، من قولهم: على الله وعليك، ويهتفون بأسمائهم عند الشدائد ونحوها.
وكل قوم لهم رجل ينادونه. فأهل العراق والهند يدعون عبد القادر الجيلاني. وأهل التهائم لهم في كل بلد ميت يهتفون باسمه، يقولون: "يا زيلعي، يا ابن العجيل". وأهل مكة وأهل الطائف: "يا ابن العباس". وأهل مصر: "يا رفاعي، يا بدوي، والسادة البكرية". وأهل الجبال: "يا أبا طير". وأهل اليمن: "يا ابن علوان".
وفي كل قرية أموات يهتفون بهم وينادونهم ويرجونهم لجلب الخير و دفع الضر. وهذه هو بعينه فعل المشركين في الأصنام، كما قلنا في الأبيات النجدية:
أعادوا بها معنى سواعا ومثله يغوث وود، بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم نحروا من سوحها من نحيرة أهلت لغير الله جهرا على عمد
وكم طائف حول القبور مقبلا ويستلم الأركان منهن باليد
فإن قال: إنما نحرت لله وذكرت اسم الله عليه. فقل له: إن كان النحر لله فلأي شيء قربت ما تنحره من باب مشهد من تفضله وتعتقد فيه؟ هل أردت بذلك تعظيمه؟ إن قال: نعم! فقل له: هذه النحر لغير الله بل أشركت مع الله تعالى غيره، وإن لم ترد تعظيمه، فهل أردت توسيخ باب المشهد وتنجيس الداخلين إليه؟ أنت تعلم يقينا أنك ما أردت ذلك أصلا، ولا أردت إلا الأول، ولا خرجت من بيتك إلا قصدا له. ثم كذلك دعاؤهم له.
فهذا الذي عليه هؤلاء شرك بلا ريب.
وقد يعتقدون في بعض فسقة الأحياء، وينادونه في الشدة والرخاء، وهو عاكف على القبائح والفضائح، ولا يحضر حيث أمر الله عباده المؤمنين بالحضور هناك، ولا يحضر جمعة ولا جماعة ولا يعود مريضا ولا يشيع جنازة، ولا يكتسب حلالا، ويضم إلى ذلك دعوى التوكل وعلم الغيب، ويجلب إليه إبليس جماعة قد عشش في قلوبهم وباض فيها وفرخ، يصدقون بهتانه ويعظمون شأنه ويجعلون هذا ندا لرب العالمين ومثلا.
فيا للعقول أين ذهبت؟ ويا للشرائع كيف جهلت؟ (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) [7:154]
فإن قلتَ: أيصير هؤلاء الذين يعتقدون في القبور والأولياء والفسقة والخلعاء مشركين كالذين يعتقدون في الأصنام؟ قلت نعم، وقد حصل منهم ما حصل من أولئك وساووهم في ذلك، بل زادوا في الاعتقاد والانقياد والاستعباد فلا فرق بينهم.
فإن قلت هؤلاء القبوريون يقولون: نحن لا نشرك بالله تعالى ولا نجعل له ندا والالتجاء إلى الأولياء والاعتقاد فيهم ليس شركا!
قلتُ: نعم (يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) لكن هذا جهل منهم بمعنى الشرك، فإن تعظيمهم الأولياء ونحرهم النحائر لهم شرك والله تعالى يقول (فصل لربك وانحر) أي: لا لغيره، كما يفيده تقديم الظرف. ويقول الله تعالى (,ان المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا) [72:18] وقد عرفت بما قدمناه قريبا أنه ﷺ قد سمى الرياء شركا، فكيف بما ذكرناه؟!
فهذه الذي يفعلونه لأوليائهم هو عين ما فعله المشركون وصاروا به مشركين، ولا ينفعهم قولهم: نحن لا نشرك بالله شيئا، لأن فعلهم أكذبَ قولهم.
فإن قلتَ: هم جاهلون أنهم مشركون بما يفعلونه. قلتُ: قد صرح الفقهاء في كتب الفقه في باب الردة أن من تكلم بكلمة الكفر يكفر، وإن لم يقصد معناها*، وهذا دال على أنهم لم يعرفوا حقيقة الإسلام ولا ماهية التوحيد، فصاروا حينئذ كفارا كفرا أصليا. فالله تعالى فرض على عباده إفراده بالعبادة (أن لا تعبدوا إلا الله) وإخلاصها له (وما أمروا إلا لعبدوا الله مخلصين له الدين) [98:5] ومن نادى الله ليلا ونهارا وسرا وجهارا وخوفا وطمعا ثم نادى معه غيره فقد أشرك في العبادة. فإن الدعاء من العبادة، وقد سماه الله تعالى عبادة في قوله تعالى (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) [40:60] بعد قوله (ادعوني أستجب لكم).
فإن قلت: فإذا كانوا مشركين وجب جهادهم والسلوك فيهم ما سلك رسول الله ﷺ في المشركين. قلتُ: إلى هذا ذهب طائفة من أهل العلم، فقالوا: يجب أولا دعاؤهم إلى التوحيد وإبانة أن ما يعتقدونه ينفع ويضر، لا يغني عنهم من الله شيئا وأمهم أمثالهم وأن هذه الاعتقاد منهم فيه شرك لا يتم الإيمان بما جاءات به الرسل إلا بتركه والتوبة منه. وإفراد التوحيد اعتقادا وعملا لله وحده. وهذا واجب على العلماء، أي بيان أن ذلك الاعتقاد الذي تفرعت عنه النذور والنحائر والطواف بالقبور شرك محرم، عين ما كان يفعله المشركون لأصنامهم. فإذا أبان العلماء ذلك للأئمة والملوك وجب على الأئمة والملوك بعث دعاة إلى الناس يدعونهم إلى إخلاص التوحيد لله، فمن رجع وأقر حقن عليه دمه وماله وذراريه، ومن أصر فقد أباح الله منه ما أباح لرسوله ﷺ من المشركين.
فإن قلتَ: الاستغاثة قد ثبتت في الأحاديث، فإنه قد صح أن العباد أن العباد يوم القيامة يستغيثون بآدم أبي البشر ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى وينتهون إلى محمد ﷺ بعد اعتذار كل واحد من الانبياء، فهذا دليل على أن الاستغاثة بغير الله ليست بمنكر. قلتُ: هذا تلبيس، فإن الاستغاثة بالمخلوقين الأحياء فيما يقدرون عليه لا ينكره أحد، وقد قال الله تعالى في قصة موسى مع الإسرائيلي والقبطي (فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه) [28:15] وإنما الكلام في استغاثة القبوريين وغيرهم بأوليائهم وطلبهم منهم أمورا لا يقدر عليها إلا الله تعالى من عافية المرض وغيرها، بل أعجب من هذا أن القبوريين وغيرهم من الأحياء من أتباع من يعتقدون فيه قد يجعلون له حصة من الولد إن عاش ويشتروا منه الحمل في بطن أمه ليعيش ويأتون بمنكرات ما بلغ إليها المشركون الأولون. ولقد أخبرني بعض من يتولى قبض ما ينذر القبوريون لبعض أهل القبور أنه جاء إنسان بدراهم وحلية نسائية وقال هذه لسيده فلان ـ يريد صاحب القبر ـ نصف مهر ابنتي، لأني زوجتها وكنت ملكت نصفها فلانا ـ يريد صاحب القبر.
وهذه النذور بالأموال وجعل قسط للقبر كما يجعلون شيئا من الزرع يسمونه (تلما) في بعض الجهات اليمينة. وهذا شيء ما بلغ إليه عباد الأصنام، وهو داخل تحت قول الله تعالى (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم) [16:56] بلا شك ولا ريب.
ثم استغاثة العباد يوم القيامة وطلبهم من الأنبياء إنما يدعون الله تعالى ليفصل بين العباد بالحساب حتى يريحهم من هول الموقف، وهذا لا شك في جوازه، أعني طلب دعاء الله تعالى من بعض عباده لبعض، بل قال صلى اللع عليه وسلم لعمر رضي الله عنه لما خرج معتمرا: "لا تنسنا يا أخي من دعائك". وأمرنا سبحانه أن ندعو للمؤمنين وأن نستغفر لهم في قوله تعالى (ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) [59:10] وقد قالت أم سليم رضي الله عنها: يا رسول الله، خادمك أنس أدع الله له. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يطلبون الدعاء منه ﷺ وهو حي. وهذا أمر متفق على جوازه. والكلام في طلب القبوريين من الأموات أو من الأحياء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا أن يشفوا مرضاهم ويردوا غائبهم وينفسوا عن حبلاهم وأن يسقوا زرعهم ويدروا ضروع مواشيهم ويحفظوها من العين ونحو ذلك من المطالب التي لا يقدر عليها أحد إلا الله. هؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم(والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون) [7:197] (إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم) [7:194] فكيف يطلب الإنسان من الجماد أو من حي ـ الجماد خير منه ـ لأنه لا تكليف عليه، وهذا يبين ما فعله المشركون الذين حكى الله ذلك عنهم في قوله تعالى (وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا..) الآية [6:136] وقال (ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون). [16:56]
فهؤلاء القبوريون والمعتقدون في جهال الأحياء وضلالهم سلكوا مسالك المشركين حذو القذة بالقذة، فاعتقدوا فيهم ما لا يجوز أن يعتقد إلا في الله، وجعلوا لهم جزء من المال وقصدوا قبورهم من ديارهم البعيدة للزيارة، وطافوا حول قبورهم وقاموا خاضعين عند قبورهم وهتفوا بهم عند الشدائد، ونحروا تقربا إليهم. وهذه هي أنواع العبادات التي عرفناك ولا أدري هل فيهم من يسجد لهم؟ لا أستبعد أن فيهم من يفعل ذلك. بل أخبرني من أثق به أنه رأى من يسجد على عتبة باب مشهد الولي الذي يقصده تعظيما له وعبادة، ويقسمون بأسمائهم. بل إذا حلف من عليه حق باسم الله تعالى لم يقبلوا منه، فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه. وهكذا كان عباد الأصنام (إذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون) [39:45] وفي الحديث الصحيح: "من كان حالفا فليحلف بالله أو لصمت" وسمع رسول الله ﷺ رجلا يحلف باللات فأمره أن يقول: "لا إله إلا الله" وهذا يدل على أنه ارتد بالحلف بالصنم، فأمره أن يجدد إسلامهن فإنه قد كفر بذلك، كما قررناه في سبل السلام شرح بلوغ المرام وفي منحة الغفار. فإن قلت: لا سواء، لأن هؤلاء قد قالوا "لا غله إلا الله" وقد قال النبي ﷺ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم ‘لا بحقها." وقال لأسامة بن زيد:"لم قتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟" وهؤلاء يصلون ويصومون ويزكون ويحجون بخلاف المشركين. قلتُ: قال ﷺ " إلا بحقها" وحقها إفراد الإلهية والعبودية لله تعالى. والقبوريون لم يفردوا الإلهية والعبادة، فلم تنفعهم كلمة الشهادة، فإنها لا تنفع إلا مع التزام معناها، كما لم ينفع اليهود قولها لإنكارهم بعض الأنبياء.
وكذلك من جعل غير من أرسله الله نبيا، لم تنفعه كلمة الشهادة. إلا ترى أن بني حنيفة كانوا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويصلون ولكنهم قالوا: إن مسيلمة نبي. فقاتلهم الصحابة وسبوهم. فكيف بمن يجعل للولي خاصة الإلهية ويناديه للمهمات؟ وهذا أمير المؤمنين على بن أبي طالب رضي الله عنه حرق أصحاب عبد الله ابن سبأ، وكانوا يقولون نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولكنهم غلوا في علي رضي الله عنه واعتقدوا فيه ما يعتقد القبوريون وأشباههم، فعاقبهم عقوبة لم يعاقب بها أحدا من العصاة، فإنه حفر لهم الحفائر وأجج لهم نارا وألقاهم فيها وقال:
لما رأيت الأمر أمر منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
وقال الشاعر في عصره
لترم بي المنية حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
إذا ما أججوا فيهم نارا رأيت الموت نقدا غير دين
والقصة في فتح الباري وغيره من كتب الحديث والسير.
وقد وقع إجماع الأمة على أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال لا إله إلا الله، فكيف بمن يجعل لله ندا؟
فإن قلت قد أنكر ﷺ على أسامة قتله لمن قال لا إله إلا الله كما هو معروف في كتب الحديث والسير، قلتُ: لا شك أن من قال: "لا إله إلا الله" من الكفار حقن دمه وماله حتى يتبين منه ما يخالف ما قاله، ولذا أنزل الله في قصة محلم بن جثامة آية (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ..) الأية [4:94] فأمرهم الله تعالى بالتثبت في شأن من قال كلمة التوحيد، فإن تبين التزامه لمعناها كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. وإن تبين خلافه فلم يحقن دمه وماله بمجرد التلفظ. وهكذا كل من أظهر التوحيد وجب الكف عنه إلى أن يتبين منه ما يخالف ذلك. فإذا تبين لم تنفعه هذه الكلمة بمجردها. ولذلك لم تنفع اليهود ولا نفعت الخوارج مع ما انظم إليها من العبادة التي يحتقر الصحابة عبادتهم إلى جنبها، بل أمر ﷺ بقتلهم، وقال: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" وذلك لما خالفوا بعض الشريعة وكانوا شر القتلى تحت أديم السماء، كما ثبتت به الأحاديث. فثبت أن مجرد كلمة التوحيد غير مانع من ثبوت شرك من قالها لارتكابه لما يحالفها من عبادة غير الله.
فإن قلت: القبوريون وغيرهم من الذين يعتقدون في فسقة الناس وجهالهم من الأحياء يقولون نحن لا نعبد هؤلاء ولا نعبد إلا الله وحده ولا نصلي لهم ولا نصوم ولا نحج. قلتُ: هذا جهل بمعنى العبادة، فإنها ليست منحصرة في ما ذكرتَ، بل رأسها وأساسها الاعتقاد، وقد حصل في قلوبهم ذلك، بل يسمونه معتقدا، ويصنعون له ما سمعته مما تفرع عن الاعتقاد من دعائهم وندائهم والتوسل بهم والاستغاثة والاستعانة والحلف والنذر وغير ذلك.
وقد ذكر العلماء أن من تزيا بزي الكفار صار كافرا، ومن تكلم بكلمة الكفر صار كافرا. فكيف بمن بلغ هذه الرتبة اعتقادا وقولا وفعلا.
فإن قلت: هذه النذور والنحائر ما حكمها؟ قلتُ: قد علم كل عاقل أن الأموال عزيزة عند أهلها يسعون في جمعها لو بارتكاب كل معصية ويقطعون الفيافي من أدنى الأرض والقاصي، فلا يبذل أحد من ماله شيئا إلا لجلب نفع أكثر منه أو دفع ضرر. فالناذر للقبر ما أخرج ماله إلا لذلك، وهذا اعتقاد باطل، ولو عرف الناذر بطلان ما أراده ما أخرج درهما، فإن الأموال عزيزة عند اهلها. قال تعالى: (ولا يسالكم أموالكم إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) [47:36:37]
فالواجب تعريف من أخرج النذر بأنه إضاعة لماله وأنه لا ينفعه ما يخرجه ولا يدفع عنه ضررا، وقد قال ﷺ:"إن النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) ويجب رده إليه. وأما القابض للنذر فإنه حرام عليه قبضه لأنه أكل لمال الناذر بالباطل لا في مقابلة شيء، وقد قال تعالى ( ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) [:188] ولأنه تقرير للناذر على شركه وقبح اعتقاده ورضاه بذلك، ولا يخفى حكم الراضي بالشرك. (إن الله لا يغفر أن يشرك به) الآية [4:48] فهو مثل حلوان الكاهن ومهر البغي، ولأنه تدليس على الناذر وإيهام له أن الولي ينفعه ويضره. فأي تقرير لمنكر أعظم من قبض النذر على الميت؟ وأي تدليس أعظم؟ وأي رضا بالمعصية ابلغ من هذا؟ وأي تصيير لمنكر معروفا أعجب من هذا؟ وما كانت النذور للأصنام والأوثان إلا على هذه الأسلوب، يعتقد الناذر جلب النفع في الصنم ودفع الضرر فينذر له جزوا من ماله ويقاسمه في غلات أطيانه ويأتي به إلى سدنة الأصنام فيقبضونه منه ويوهمونه حقيقة عقيدته وكذلك يأتي بنحيرته فينحرها بباب الصنم. وهذه الأفعال هي التي بعث الله السل لإزالتها ومحوها وإتلافها والنهي عنها.
فإن قلتَ: إن الناذر قد يدرك النفع ودفع الضرر بسبب إخراجه للنذر وبذله! قلتُ: كذلك الأصنام، قد يدرك منها ما هو أبلغ من هذا، وهو الخطاب من جوفها والإخبار ببعض ما يكتمه الإنسان. فإن كان هذا دليلا على حقية القبور وصحة الاعتقاد فيها فليكن دليلا على حقية الأصنام. وهذا هدم للإسلام وتشييد لأركان الأصنام.
والتحقيق أن لإبليس وجنوده من الجن والإنس أعظم العناية في إضلال العباد وقد مكن الله إبليس من الدخول في الأبدان والوسوسة في الصدور والتقام القلب بخرطومه. وكذلك يدخل أجواف الأصنام ويلقي الكلام في أسماع الأقوام. ومثله يصنعه في عقائد القبوريين. فإن الله تعالى قد أذن له أن يجلب بخيله ورجله على بني آدم وأن يشاركهم في الأموال والأولاد. وثبت في الأحاديث الصحيحة "أن الشيطان يسترق السمع بالأمر الذي يحدثه الله، فيلقيه إلى الكهان ـ وهم الذين يخبرون بالمغيبات ويزيدون فيما يلقيه الشيطان من عند أنفسهم مائة كذبة. ويقصد شياطين الجن شياطين الإنس من سدنة القبور وغيرهم فيقولون: إن الولي فعل وفعل، يرغبونهم فيه ويحذرونهم منه. وترى العامة ملوك الأقطار وولاة الأمصار معززين لذلك ويولون العمال لقبض النذور وقد يتولاها من يحسنون فيه الظن من عالم أو قاض أو مفت أو شيخ صوفي، فيتم التدليس لإبليس وتقر عينه بهذا التلبيس.
فإن قلت هذا أمر عم البلاد واجتمعت عليه سكان الأغوار والأنجاد وطبق الأرض شرقا وغربا ويمنا وشاما وجنوبا وعدنا، بحيث لا تجد بلدة من بلاد الإسلام إلا وفيها قبور ومشاهد وأحياء يعتقدون فيها ويعظمونها وينذرون لها ويهتفون بأسمائها ويحلفون بها، ويطوفون بفناء القبور، ويسرجونها ويلقون عليها الأوراد والرياحين ويلبسونها الثياب ويصنعون كل أمر يقدرون عليه من العبادة لها وما في معناها من التعظيم والخضوع والخشوع والتذلل والافتقار إليها. بل هذه مساجد المسلمين غالبها لا يخلوا عن قبر أو قريب منه أو مشهد يقصده المصلون في أوقات الصلاة يصنعون فيها ما ذكر أو بعض ما ذكر. ولا يسع عقل عاقل أن هذا منكر يبلغ إلى ما ذكرت من الشناعة ويسكت عليه علماء الإسلام الذين ثبتت لهم الوطأة في جميع جهات الدنيا.
قلتُ: إن أردت الإنصاف وتركت متابعة الأسلاف وعرفت أن الحق ما قم عليه الدليل لا اتفق عليه العوام جيلا بعد جيل وقبيلا بعد قبيل، فأعلم أن هذه الأمور التي ندندن حول إنكارها ونسعى في هدم منارها صاردة عن العامة الذين إسلامهم تقليد الآباء بلا دليل ومتابعتهم لهم من غير فرق بين دني ومثيل ينشأ الواحد فيهم فيجد أهل قريته وأصحاب بلدته يلقنونه في الطفولية أن يهتف باسم من يعتقدون فيه، ويراهم ينذرون عليه ويعظمونه ويرحلون به إلى محل قبره ويلطخونه بترابه ويجعلونه طائفا على قبره، فينشأ وقد قر في قلبه عظمة ما يعظمونه، وقد صار أعظم الأشياء عنده من يعتقدونه. فنشأ على هذا الصغير وشاخ عليه الكبير ولا يسمعون من أحد عليهم من نكير. بل ترى ممن يتسم بالعلم ويدعي الفضل وينتصب للقضاء والفتيا والتدريس أو الولاية أو المعرفة أو الإمارة والحكومة معظما لما يعظمونه مكرما لما يكرمونه قابضا للنذور آكلا ما ينحر على القبور، فيظن العامة أن هذا دين الإسلام وأنه رأس الدين والسنام، ولا يخفى على أحد يتأهل للنظر ويعرف بارقة من علم الكتاب والسنة والأثر أن سكوت العالم على وقوع منكر ليس دليلا على جواز ذلك المنكر.
ولنضرب لك مثلا من ذلك وهي هذه المكوس المسماة بالمجابي المعلوم من ضرورة الدين تحريمها، قد ملأت الديار والبقاع وصارت أمرا مأنوسا لا يلج ‘نكارها إلى سمع من الأسماع وقد امتدت أيدي المكاسين في اشرف البقاع في مكة أم القرى يقبضون من القاصدين لأداء فريضة الإسلام، ويلقون في البلد الحرام كل فعل حرام وسكانها من فضلاء الأنام، والعلماء والحكام ساكتون على الإنكار معرضون عن الإيراد والإصدار. أفيكونالسكوت دليلا على حل وإحرازها؟ هذا لا يقوله من له أدنى إدراك.
بل أضرب لك مثلا آخر. هذا حرم الله الذي هو أفضل بقاع الدنيا، بالاتفاق وإجماع العلماء، أحدث فيه بعض ملوك الشراكسة الجهلة الضلال هذه المقامات الأربعة التي فرقت عبادة العباد واشتملت على ما لا يحصيه إلا الله عز وجل من الفساد، وفرقت عبادات المسلمين وصيرتهم كالملل المختلفة في الدين بدعة قرت بها عين إبليس اللعين، وصيرت المسلمين ضحكة للشياطين، وقد سكت الناس عليها ووفد علماء الآفاق والأبدال والأقطاب إليها وشاهدها كل ذي عينين، وسمع بها كل ذي أذنين. أفهذا السكوت دليل على جوازها؟ هذا لا يقوله من له إلمام بشيء من المعارف. كذلك سكوتهم على هذه الأشياء الصادرة من القبوريين.
فإن قلت يلزم من هذا أن الأمة قد اجتمعت على ضلالة حيث سكتت عن إنكارها لأعظم جهالة. قلتُ: حقيقة الإجماع اتفاق مجتهدي أمة محمد ﷺ على أمر بعد عصره. وفقهاء المذاهب الأربعة يحيلون الاجتهاد من بعد الأربعة، وإن كان هذا قولا باطلا وكلاما لا يقوله إلا من كان للحقائق جاهلا. فعلى زعمهم لا إجماع أبدا من بعد الأئمة الأربعة. فلا يرد السؤال. فإن هذا الابتداع والفتنة بالقبور لك يكن على عهد أئمة المذاهب الأربعة. وعلى ما نحققه فالإجماع وقوعه محال. فإن الأمة المحمدية قد ملأت الآفاق وصارت في كل أرض وتحت كل نجم، فعلماؤها المحققون لا ينحصرون ولا يتم لأحد معرفة أحوالهم. فمن ادعى الإجماع بعد انتشار الدين وكثرة علماء المسلمين فإنها دعوى كاذبة، كما قاله أئمة التحقيق.
ثم لو فرض أنهم علموا بالمنكر وما أنكروه بل سكتوا هن إنكاره لما دل سكوتهم على جوازه، فإنه قد علم من قواعد الشريعة أن وظائف الإنكار ثلاثة.
أولها الإنكار باليد، وذلك بتغيير المنكر وإزالته.
وثانيها الإنكار باللسان مع عدم استطاعة التغيير.
ثالثها الإنكار بالقلب عند عدم استطاعة التغيير باليد واللسان.
فإن انتفى أحدها لم ينتفِ الآخر. ومثاله: مرور فرد من أفراد علماء الدين بأحد المكاسين وهو يأخذ أموال المظلومين. فهذا الفرد من علماء الدين لا يستطيع التغيير على هذا الذي يأخذ أموال المساكين باليد ولا باللسان لأنه يكون سخرية لأهل العصيان، فانتفى شرط الإنكار بالوظيفتين. ولم يبق إلا الإنكار بالقلب الذي هو أضعف الإيمان. فيجب على من رأى ذلك العالم ساكتا على الإنكار مع مشاهدة ما يأخذه ذلك الجبار أن يعتقد أنه تعذر عليه الإنكار باليد واللسان وأنه قد أنكر بقلبه. فإن حسن الظن بالمسلمين أهل الدين واجب والتأويل لهم ما أمكن ضربة لازب. فالداخلون إلى الحرم الشريف والمشاهدون لتلك الأبنية الشيطانية التي فرقت كلمة الدين وشتتت صلوات المسلمين معذورون عن الإنكار إلا بالقلب كالمارين على المكاسين وعلى القبوريين.
ومن هنا يعلم اختلال ما استمر عند أئمة الاستدلال من قولهم في بعض ما يستدلون عليه أنه "وقع ولم ينكر فكان إجماعا"، ووجه اختلاله أن قولهم "ولم ينكر" رجم بالغيب. فإنه قد يكون أنكرته قلوب كثيرة تعذر عليها الإنكار باليد واللسان. وأنت تشاهد في زمانك أنه كم من أمر يقع لا تنكره بلسانك ولا بيدك وأنت منكر له بقلبك، ويقول الجاهل إذا رآك تشاهده "سكت فلان عن الإنكار" يقوله إما لائما أو متاسيا بسكوته، فالسكزت لا يستدل به عارف. وكذا يعلم اختلال قولهم في الاستدلال: "فعلَ فلان كذا وسكت الباقون فكان إجماعا" مختلا من جهتين.
الأولى: دعوى أن سكوت الباقين تقرير لفعل فلان، لما عرفت من عدم دلالة السكوت على التقرير.
الثانية: قولهم: "فكان إجماعا" فإن الإجماع اتفاق أمة محمد ﷺ، والساكت لا ينسب إليه وفاق ولا خلاف حتى يعرب عنه لسانه.
قال بعض الملوك ـ وقد أثنى الحاضرون على شخص من عماله وفيهم رجل ساكت ـ مالك لا تقول كما يقولون؟ فقال: إن تكلمت خالفتهم.
فما كل سكوت رضى. فإن هذه منكرات أسسها من بيده السيف والسنان، ودماء العباد وأموالهم تحت لسانه وقلمه وأعراضهم تحت قوله وكلمه. فكيف يقوى فرد من الأفراد على دفعه عما أراد؟ فإن هذه القباب والمشاهد التي صارت أعظم ذريعة إلى الشرك والإلحاد وأكبر وسيلة إلى هدم الإسلام وخراب بنيانه، غالب ـ بك كل ـ من يعمرها هم الملوك والسلاطين والرؤساء والولاة إما على قريب لهم أو على من يحسنون الظن فيه من فاضل أو عالم أو صوفي أو فقير أو شيخ أو كبير، ويزوره الناس الذين يعرفونه زيارة الأموات من دون توسل به ولا هتف باسمه بل يدعون له ويستغفرون، حتى ينقرض من يعرفه أو أكثرهم فيأتي من بعدهم فيجدوا قبرا قد شيد عليه البناء وسرجت عليه الشموع وفرش بالفراش الفاخر وأرخيت عليه الستور وألقيت عليه الأوراد والزهور، فيعتقد أن ذلك لنفع أو لدفع ضر ويأتيه السدنة يكذبون على الميت بأنه فعل وفعل وأنزل بفلان الضرر وبفلان النفع، حتى يغرسوا في جبلته كل باطل. ولهذا الأمر ثبت في الأحاديث النبوية اللعن على من أسرج على القبور وكتب عليها وبنى عليها. وأحاديث ذلك واسعة معروفة. فإن ذلك في نفسه منها عنه، ثم هو ذريعة إلى مفسدة عظيمة.
فإن قلت هذا قبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عمرت عليه قبة عظيمة أنفقت فيها الأموال. قلت هذا جهل عظيم بحقيقة الحال. فإن هذه القبة ليس بناؤها منه ﷺ ولا من أصحابه ولا من تابعيهم ولا تابعي التابعين ولا من علماء أمته وأئمة ملته، بل هذه القبة المعمولة على قبره ﷺ من أبنية بعض ملوك مصر المتأخرين وهو قلاوون الصالحي المعروف بالملك المنصور في سنة ثمان وسبعين وستمائة. ذكره في (تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة) فهذه أمور دولية لا دليلية، يتبع فيها الآخر الأول.
وهذا آخر ما اردناه مما أوردناه لما عمت البلوى واتبعت الأهواء وأعرض العلماء عن النكير الذي يجب عليهم ومالوا إلى ما مالت العامة إليه، وصار المنكر معروفا والمعروف منكرا، ولم نجد من الأعيان ناهيا عن ذلك ولا زاجرا.
فإن قلت: قد يتفق للأحياء وللأموات اتصال جماعة بهم يفعلون خوارق من الأفعال يتسمون بالمجاذيب، فما حكم ما يأتون به من تلك الأمور؟ فإنها مما جلبت القلوب إلى الاعتقاد بها.
قلتُ: أما المتسمون بالمجاذيب الذين يلوكون لفظ الجلالة بأفواههم ويقولونها بألسنتهم ويخرجونها عن لفظها العربي فهم من أجناد إبليس اللعين، ومن أعظم حمر الكون الذين ألبستهم الشياطين حلل التلبيس والتزيين. فإن إطلاق الجلالة منفردا عن إخبار عنها بقولهم ( الله الله) ليس بكلام ولا توحيد، وإنما هو تلاعب بهذا اللفظ الشريف بإخراجه عن لفظه العربي ثم إخلاؤه عن معنى من المعاني ولو أن رجلا عظيما صالحا يسمى بزيد وصار جماعة يقولون (زيد زيد) لعد ذلك استهزاء وإهانة وسخرية، ولا سيما إذا زادوا إلى ذلك تحريف اللفظ، ثم انظر هل أتى في لفظة من الكتاب والسنة ذكر الجلالة بانفرادها وتكريرها؟ أو الذي في الكتاب والسنة هو طلب الذكر والتوحيد والتسبيح والتهليل، وهذه أذكار رسول الله ﷺ وأدعيته وأدعية آله وأصحابه خالية عن هذا الشهيق والنهيق والنعيق الذي اعتاده الذي من هو عن الله وعن هدي رسول الله ﷺ وسمته ودله في مكان سحيق. ثم قد يضيفون إلى الجلالة الشريفة أسماء جماعة من الموتى، مثل (ابن علوان) و (أحمد بن الحسين) و(عبد القادر) و(العيدروس) بل قد انتهى الحال إلى أنهم يفرون إلى أهل القبور من الظلم والجور كعلي رومان وعلي الأحمر وأشباههما وقد صان الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ وأهل الكساء وأعيان الصحابة عن إدخالهم في أفواه هؤلاء الجهلة الضلال، فيجمعون أنواعا من الجهل والشرك والكفر.
فإن قلت إنه قد يتفق من هؤلاء الذين يلوكون الجلالة ويضيفون غليها عمل أهل الخلاعة والبطالة خوارق عادات وأمورا تظن كرامات، كطعن أنفسهم بالآلات الحادة وحملهم لمثل الحنش والحية والعقرب وأكلهم النار ومسهم غياها بالأيدي وتقلبهم فيها بالأجسام، قلت هذه أحوال شيطانيه وإنك لملبس عليك أن ظننتها كرامات للأموات أو حسنات للأحياء لما هتف هذا الضال بأسماءهم وجعلهم أندادا وشركاء لله تعالى في الخلق والأمر فهؤلاء الموتى أنت تفرض أنهم أولياء الله تعالى فهل يرضى ولي الله أن يجعله المجذوب أو السالك شريكا له تعالى وندا؟ أن زعمت ذلك فقد جئت شيئا إدا، وصيرت هؤلاء الأموات مشركين وأخرجتهم وحاشاهم ذلك عن دائرة الإسلام والدين، حيث جعلتهم أندادا لله راضين فرحين، وزعمت أن هذه كرامات لهؤلاء المجاذيب الضلال المشركين التابعين لكل باطل، المنغمسين في بحار الرذائل الذين لا يسجدون لله سجدة ولا يذكرون الله وحده. فإن زعمت هذا فقد أثبت الكرامات للمشركين الكافرين وللمجانين وهدمت بذلك ضوابط الإسلام وقواعد الدين المبين والشرع المتين. وإذا عرفت بطلان هذين الأمرين علمت أن هذه أحوال شيطانية وأفعال طاغوتية وأعمال إبليسية يبعلها الشياطين لإخوانهم من هؤلاء الضالين، معاونة من الفريقين على إغواء العباد، وقد ثبت في الأحاديث أن الشياطين والجان يتشكلون بأشكال الحية والثعبان وهذا أمر مقطوع بوقوعه فهم الثعابين التي يشاهدها الإنسان في أيدي المجاذيب. وقد يكون ذلك من باب السحر وهو أنواع، وتعلمه ليس بالعسير، بل بابه الأعظم الكفر بالله وإهانة ما عظمه الله من جعل مصحف في كنيف ونحوه. فلا يغتر من يشاهد ما يعظم في عينية من أحوال المجاذيب من الأمور التي يراها خوارق، فإن للسحر تأثيرا عظيما في الأفعال. وهكذا الذين يقلبون الأعيان بالأسحار وغيرها، وقد ملأ سحرة فرعون الوادي بالثعابين والحيات حتى أوجس في نفسه خيفة موسى عليه السلام. وقد وصفه الله بأنه سحر عظيم. والسحر يفعل أعظم من هذا فإنه قد ذكر ابن بطوطة وغيره أنه شاهد في بلاد الهند قوما توقد لهم النار العظيمة فليبسون الثياب الرقيقة ويخوضون في تلك النار ويخرجون وثيابهم كأنها لم يمسها شيء. بل ذكر أنه رأى أناسا عند بعض ملوك الهند أتى بولدين معه ثم قطعمها عضوا عضوا ثم رمى بكل عضو إلى جهة فرقا حتى لم ير أحد شيئا من تلك الأعضاء ثم صاح وبكى فلم يشعر الحاضرون إلا وقد نزل كل عضو على انفراده وانظم إلى الآخر حتى قام كل واحد منهما على عادته حيا سويا. ذكر هذا في رحلته، وهي رحلة بسيطة وقد اختصرت، طالعتها بمكة عام ست وثلاثين ومائة وألف، وأملاها علينا العلامة مفتي الحنفية في المدينة السيد محمد بن أسعد رحمه الله.
وفي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني بسنده أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبه فجعل يدخل في جوف بقرة ويخرج، فرأه جندب رضي الله عنه فذهب إلى بيته فاشتمل على سيفه فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب (أتأتون السحر وأنتم تبصرون) ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر معها، فانذعر الناس، فحبسه الوليد وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه، كان على السجن رجل نصراني، فلما رأى جندبا يقوم الليل ويصبح صائما، قال النصراني والله إن قوما هذا شرهم لقوم صدق. فوكل بالسجن رجلا ودخل الكوفة فسأل عن افضل أهلها فقالوا: الأشعث بن قيس، فاستضافه فرأى أبا محمد يعني الأشعث ينام الليل ويصبح فيدعو بغدائه، فخرج من عنده وسأل: أي أهل الكوفة أفضل؟ فقالوا: جرير بن عبد الله، فوجده ينام الله ثم يصبح فيدعو بغدائه. فاستقبل القبلة فقالك ربي رب جندب وديني دين جندب، وأسلم. وأخرجها البيهقي في السنن الكبرى بمغايرة في القصة، فذكر بسنده إلى الأسود أن الوليد بن عقبة كان في العراق يلعب بين يديه ساحر فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به، فيقوم صارخا فيرد إليه راسه. فقال الناس: سبحان الله! يحي الموتى! ورأه رجل من صالحي المهاجرين فما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الجل سيفه فضرب عنقه وقال: إن كان صادقا فليحي نفسه! فأمر به الوليد دينارا صاحب السجن فسجنه.
بل أعجب من هذا ما أخرجه الحافظ البيهقي بإسناده في قصة طويلة وفيها أن امرأة تعلمت السحر من الملكين ببابل هاروت وماروت، وأنها أخذات قمحا فقالت له بعد أن ألقته في الأرض: اطلع، فطلع، فقالت: أحقل، فأحقل، ثم تركته، ثم قالت إيبس، فيبسن ثم قالت له: اطحن، فاطحن، ثم قالت له: اختبز فاختبز. وكانت لا تريد شيئا إلا كان.
والأحوال الشيطانية لا تنحصر، وكفى بما يأتي به الدجال. والمعيار اتباع الكتاب والسنة ومخالفتهما.
انتهى ما أوردناه ولله الحمد أولا وآخرا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون.